الساحر

الساحر

بقلم: الكاتب البرازيلي: موريلوورباي

الآن أنا موظف مدني، وليس هذا أفدح ما قدمه لي حظي العاثر، ولكي أكون أمينا أقول لكم إنني لم أحذق للمعاناة. فكل إنسان، عندما يصل إلى سن معينة، يكون معدا تماما لكي يواجه جبال الضجر والمواراة لأنه اعتاد منذ طفولته على تقلبات الحياة وتحصن ضدها تدريجيا يوما بعد يوم.

وهذا لم يحدث لي. لقد بعثت إلى الوجود دون أبوين، دون طفولة، ودون مراهقة.

ذات يوم اكتشفت وأنا أنظر إلى المرآة في مطعم وبار مينهوتا، أن شعري قد نحل ودب الشيب إليه فجأة. ولم يفزعني هذا الاكتشاف بقدر ما أدهشني أنني وضعت يدي في جيبي فأخرجت منه صاحب المطعم. سألني وهو مرتبك كيف أمكنني أن أفعل مثل هذه الأشياء.

بم أجيب، وأنا في موقفي هذا، أنا الإنسان الذي لايجد أي تفسير لوجوده في العالم? قلت له إنني متعب، وإنني ولدت متعبا وضجرا.

ودون أن يفكر في إجابتي أو يوجه لي أسئلة أخرى عرض عليّ أن أعمل عنده، وهكذا بدأت منذ ذلك الوقت عملي وهو تسلية زبائن المطعم بألعابي السحرية.

ولم يرحب الرجل بواحدة من ألعابي وهي أن أقدم للمشاهدين أنواعاً متعددة من الوجبات المجانية التي أسحبها من داخل سترتي. وإذ رأى أن هذه الطريقة تجلب المزيد من الزبائن دون أن تجلب المزيد من الربح ـ فإنه قدمني إلى مدير "السيرك الأندلسي" الذي عرض عليّ أن أعمل عنده بعد أن عرف بقدراتي. وقد نصحوه من البداية أن يراقب ألعابي بيقظة تامة، إذ قد أقرر توزيع تذاكر مجانية على الجمهور لمشاهدة العروض. وعلى النقيض من التوقعات المتشائمة التي أبداها صاحب المطعم فإن سلوكي كان مثاليا. وصارت ألعابي تهز الجمهور وتجلب المكاسب الهائلة لأصحاب السيرك. كان الجمهور يستقبلني في البداية بنوع من البرود، ربما لأنني فشلت في أن أقدم نفسي في بذلة مناسبة وقبعة على رأسي. ولكن ما إن أبدأ في إخراج الأرانب والحيات والسحالي من قبعة أحد المتفرجين حتى يصعق الجمهور من الإثارة. وفي النمرة الأخيرة أجعل تمساحا يظهر من بين أطراف أصابعي. ثم أضغط التمساح من كلا الطرفين فأحوله إلى آلة أكورديون ثم أنهي اللعبة بعزف السلام الوطني للصين فينفجر الناس بالتصفيق من كل جانب وأنا أنظر إليهم ساهما.

كان مدير السيرك في أشد حالات السخط وهو يراقبني من بعيد، إذ لاحظ عدم مبالاتي بتحية الجمهور، وخاصة حين تأتي من الأطفال الصغار الذين يصفقون لي في الحفلات الصباحية أيام الآحاد. ولماذا أهتز أو أتأثر إذا كانت هذه الوجوه البريئة التي كتب عليها أن تتحمل المعاناة المقدرة لكل إنسان يأتي إلى الحياة، لاتثير الشفقة في نفسي ولاتثير الغضب، إلى جانب أنهم يملكون كل الأشياء التي تمنيتها ولم تكن من نصيبي: الميلاد والماضي.

ومع ازدياد شهرتي صارت حياتي لاتطاق.

في بعض الأحيان أجلس في مقهى وأرقب في عناد الجمهور الذي يملأ الأرصفة على الجانبين، وينتهي بي الأمر بأن أخرج من جيبي حماماً ويماماً وطيور البحر . وينفجر الناس حولي بالضحك إذ يرون أنني أفعل ذلك عن عمد. وأنظر أنا إلى الأرض نظرة حزينة وأتمتم بكلمات أسب فيها العالم والطيور.في كل مرة أفتح يدي وأنا شارد العقل تقفز منهما أشياء عجيبة. أحياناً أفاجئ نفسي بأن أسحب من كم سترتي أشياء من شتى الأشكال والألوان. وفي النهاية أجد نفسي محاطا بأشياء غريبة دون أن أعرف ماذا أفعل بها.

ما الذي في إمكاني أن أفعله? كنت أنظر حولي أستجدي المعونة من أحد، لكن دون جدوى.

يحدث غالبا أن أخرج منديلا لكي أجفف أنفي فأثير دهشة الجالسين بجواري حين أسحب من جيبي ملاءة سرير كبيرة. وإذا لمست ياقة معطفي دون قصد يخرج منها على الفور صقر كبير. وفي مناسبة أخرى، وبينما أحاول ربط حذائي تتقافز الحيات خارجة من بنطلوني فتصرخ النساء والأطفال، ويأتي الحراس ويتجمهر الناس، فضيحة. وعلي أن أدلي بأقوالي للشرطة وأستمع في صبر إلى التعليمات التي تمنعني من إطلاق الثعابين والحيات في الأماكن العامة.

ولم أعترض. وشرحت لهم، في هلع حالة السحر التي تتملكني، وتعهدت ألا أسبب الضيق لأي إنسان.

وأصبحت معتادا أن أستيقظ فجأة في الليل من نومي العميق لأجد طائرا كبيرا يصفق بجناحيه وهو يخرج من أذني.

وذات مرة، وكنت في حالة غضب جارف، قررت ألا أمارس السحر مرة أخرى، وقطعت كلتا يدي. دون هدف، وما إن تحركت حتى ظهرت يداي مرة أخرى سليمة وجديدة.

علي أن أواجه يأسي بأي شكل. وبعد أن أمعنت التفكير في الأمر انتهيت إلى أن الموت وحده هو الكفيل بوضع نهاية لحظي العاثر.

وهكذا، تنفيذا لقراري الحاسم، أخرجت من جيبي اثني عشر أسدا، وشبكت ذراعي على صدري وانتظرت اللحظة التي سيهجمون فيها عليّ ويقطعونني إربا. لكن شيئا من ذلك لم يحدث. لم يمسوني بأي أذى. تحلقوا حولي وراحوا يتشممون ملابسي، وإذا رأوا الأرض فضاء أمامهم تسللوا وتركوني.

في الصباح التالي عادوا ثانية وجلسوا أمامي.

"ماذا تريدون مني أيتها الحيوانات الغبية?" هكذا زأرت في وجوههم، هزوا لبداتهم في حزن وناشدوني أن أجعلهم يختفون.

هذا العالم مضجر وممل لأقصى درجة. هكذا أعلنوا.

لم أستطع كبح جماح غضبي المشتعل. قتلتهم جميعا وبدأت ألتهمهم بنفسي. كان أملي أن أموت ضحية عسر هضم يودي بحياتي إلا أن حظي العاثر كان بالمرصاد. عانيت من مغص في معدتي لكنني واصلت الحياة.

هذا الفشل الأخير ضاعف من إحساسي بالإحباط. تركت حدود المدينة وخرجت بحثا عن الجبال. وعندما وصلت إلى أعلى قمة والتي تطل على هاوية سحيقة مظلمة، ألقيت بجسدي من فوق القمة.

كل ما شعرت به هو إحساس خفيف بقرب الموت ـ وسرعان ما وجدت نفسي معلقا في باراشوت. وبصعوبة سلكت طريق العودة وأنا أخبط نفسي في الصخور حتى وصلت إلى المدينة مثقلا بالحزن والجروح. وكانت الخطوة الأولى بعد عودتي هي أن أمتلك مسدسا.

وفي البيت رقدت على السرير وأخذت السلاح ووضعت فوهته في أذني. ضغطت على الزناد متوقعا دويا عاليا وألما قاتلا عندما تمزق الرصاصة رأسي.

لم تنطلق الرصاصة، ولم يحدث موت: تحول المسدس إلى قلم رصاص.

وارتميت على الأرض ورحت أبكي بحرقة. أنا الذي أستحضر من العدم كائنات أخرى لا أجد وسيلة أحرر بها نفسي من الوجود.

وذات يوم سمعت، مصادفة، جملة أحيت لديّ الأمل في التخلص من الحياة، فقد سمعت رجلا حزينا يقول: أن تعمل موظفا في الحكومة معناه أنك تنتحر ببطء.

لم أكن في موقف يسمح لي بأن أختار شكل الانتحار الذي يلائمني: بطيئا أو سريعا. وهكذا حصلت على وظيفة في الحكومة.

كان عام 1930 عاما مريرا، أطول من كل السنوات التي أعقبت أول حالة تجل في حياتي عندما نظرت إلى المرآة في مطعم وبار مينهوتا.

لم أمت كما كنت أتمنى. وكلما زادت أحزاني زاد سوء حظي.

عندما كنت ساحرا لم يكن لي اتصال يذكر بالناس ـ كان المسرح يضمن لي مسافة فاصلة بيني وبين الناس. أما الآن فقد كنت مضطرا للاتصال المستمر بزملائي من المخلوقات، كان من الضروري أن أفهمهم، وأن أخفي المقت الذي أثاروه في نفسي.

كان أسوأ ما في الأمر أن العمل الذي أقوم به كان تافها لذا كنت أتسكع كل يوم مضيعا ساعات لا فائدة منها. وأعادني الكسل والبطالة المقنعة إلى حالة الشعور بالامتعاض لأنه ليس لي ماض. لماذا أنا وحدي من بين كل هؤلاء الموجودين أمامي، أنا وحدي الذي ليس لديه شيء يتذكره؟ أيامي تطفو في فوضى مختلطة بقليل من الذكريات التافهة نتيجة ثلاث سنوات من الوجود.

الحب الذي جاءني عن طريق زميلة موظفة في الإدارة التي أعمل بها ومكتبها مجاور لمكتبي، هذا الحب أبعدني عن همومي لبعض الوقت.

وسرعان ما عادت لي متاعبي، كنت أجاهد للتغلب على عدم اليقين وعدم الثقة. إذ كيف يمكن لي أن أتقدم لخطبة هذه الزميلة إذا كنت لم أظهر لها أي علامة ولم أصارحها بحبي بأي شكل من الأشكال؟ إضافة إلى أنه ليس لدي أي تجربة حب؟

بدأ عام 1931 بداية غير سارة، هناك تهديد بعملية طرد جماعي وفصل أعداد كبيرة من العاملين في القسم إضافة إلى رفض زميلتي التي تعمل على الآلة الكاتبة لخطبتي لها.

وأمام احتمال إعفائي من العمل حاولت أن أتدبر حالي "العمل نفسه لايعنيني كثيرا. لكني كنت ببساطة خائفا أن أبتعد عن المرأة التي رفضتني، ولكن وجودها صار شيئا فشيئا ضروريا بالنسبة لي".

ذهبت إلى مدير القسم الذي أعمل به وقلت له بصوت عال إن أحدا لايمكنه أن يفصلني، لأنه، بعد عشر سنوات من الخدمة في القسم أصبح أمن العمل ملك يدي، ولاضمان لهذا الأمن إلا بوجودي في العمل.

نظر إليّ لبعض الوقت في صمت مطبق. ثم قال لي وهو ينظر إليّ شذرا، إنه مندهش لسفالتي. وإنه لم يتوقع أبدا أن شخصاً أمضى في العمل سنة واحدة، لديه الوقاحة الكافية لكي يدعي أنه قضى عشر سنوات في هذا العمل.

ولكي أثبت له أن كلامي ليس عبثاً رحت أعبث في جيوبي بحثا عن وثائق تدعم كلامي. وصعقت حين لم أجد في جيوبي سوى ورقة مكرمشة كنت قد كتبت فيها بضعة أبيات من الشعر مستوحاة من صدر زميلتي الناهد، ولا شيء غير هذا.

كنت مجبرا على الاعتراف بالهزيمة. وكنت أثق تماما في قدرتي على عمل السحر، هذه القدرة التي أفسدتها البيروقراطية وأبطلتها.

والآن، ودون موهبة السحر، أصبحت غير قادر على ترك أسوأ الأعمال البشرية. افتقد حب زميلتي التي تعمل على الآلة الكاتبة كما افتقد وجود أصدقاء، مما يدفعني إلى العزلة. وكثيرا ما يلاحظ الآخرون أنني أحاول أن أخرج بأصابعي من بين ملابسي أشياء صغيرة لايراها أحد، ولكنهم يحملقون وفي عيونهم نظرة رثاء. يظنون أنني مجـنون، بخـاصة عـندما ألقي في الهواء بهذه الأشياء الضـئيلة الحجم.لدي إحساس أن شـيئا ما على وشك أن يخرج من بين أطراف أصابعي. أتنهد بصوت عال. ولايحدث شيء.

بالطبع فإن هذه الأوهام تسبب لي المتاعب. إنها تضاعف من أسفي وندمي لأنني لم أخلق عالما سحريا بأكلمه.

وفي لحظات خاصة أتخيل كم يكون رائعا أن أخرج من جسدي مناديل حمراء وزرقاء وبيضاء وخضراء، وأن أملأ الليل بالألعاب النارية، وأن أرفع وجهي نحو السماء وأجعل قوس قزح يتدفق من بين شفتي، قوس قزح يغطي الأرض من أدناها إلى أقصاها، ثم أسمع التصفيق الحاد من الشيوخ المسنين بشعرهم الأبيض، ومن الأطفال الأبرياء.

 

شوقي فهيم