جنون البقر الأمريكي

جنون البقر الأمريكي

كان الحدث الصحي الأهم في العام 1996 هو انتشار مرض الماشية المعروف بجنون البقر في شهر مارس في بريطانيا ودول أوربية أخرى. فالمرض الذي أصاب البقر في بريطانيا اسمه العلمي مرض الدماغ الإسفنجي لدى الأبقار BSE Bovine Spongiform Encophalopathy. وتدعوه العامة في بريطانيا مرض (جنون الأبقار) بسبب ما يرافقه من عوارض أهمها التصرفات غير الموزونة التي تظهرها الأبقار العليلة. وينتمي هذا المرض إلى فئة من الأمراض التنكسية Degenerative والمسماة بعلة الدماغ الإسفنجي المعدية TSE Transmissible Spongiform Encephalopathies والتي تقضي على الجهاز العصبي, خاصة الدماغ. وقد كشفت الأبحاث عن أن المسبب لمرض جنون البقر ليس ببكتيريا ولا بفيروس, ولا أي كائن حي آخر, بل مجرد مادة بروتينية لاغير. فالمعروف أن الأبقار حيوانات تقتات على الأعشاب فقط. ولكن في حال خلطت أعلافها بمواد حيوانية كأدمغة وبقايا الخراف أوالماعز, فإن القيمة الغذائية لهذه الأعلاف ترتفع بشكل كبير بسبب غنى تلك المواد بالبروتينات أو غيرها. وفي حال أكلت الأبقار تلك الأعلاف سمنت سريعا, مما يعد مكسبا لأصحاب مزارع البقر.

ويأتي العلم الحديث ليبين أنه في بقايا الحيوانات تلك مادة بروتينية تفتك بالأبقار, وتدعى البريون Prion. وينتقل البريون عبر الغذاء إلى الأبقار ويدخل عن طريق المعدة دون أن يتأثر بعملية الهضم, ومن ثم ينتقل إلى أدمغة الأبقار ليستقر هناك كمادة صامتة, دون إحداث أي ردة فعل دماغية من قبل جسم البقر. وقد يبقى البروتين على هذا الحال عدة شهور أو بضع سنوات دون أن يظهر أي عوارض غريبة على الحيوان المصاب إلى أن تحين الفرصة المناسبة, فيضغط هذا البروتين على جينة معينة في خلايا الدماغ لتبدأ بإنتاج المزيد من البروتين القاتل نفسه. وتتراكم تلك البروتينات في الدماغ بشكل كتل صغيرة, سرعان ما تبدأ بتفتيت خلايا الدماغ مما يظهره بشكل الإسفنج بعد التشريح (ومن هنا كانت التسمية بمرض الدماغ الإسفنجي). والخطير في الأمر أن بروتين البريون هذا هو مادة ثابتة جدا لاتتأثر بالحرارة المرتفعة, لذلك فإن طبخ اللحوم الملوثة ليس كاف لإعدامها, وهي تقاوم كل حوامض المعدة مهما كانت قوتها. وبإمكان البريون اختراق الخلايا في الجسم دون عناء يذكر, مما يؤدي إلى وصوله سريعا لبلوغ مقصده في دماغ الضحية حيث يستقر هناك.

خطر الانتشار

لم تقتصر خسائر تلك الكارثة الصحية على أصحاب مزارع البقر فقط, بل هددت كبرى شركات التجميل العالمية بخسائر فادحة. والمعلوم أن تلك الشركات تستهلك مواد كثيرة في منتجاتها, ذات أصل بقري كاليسيتين, والجيلاتين, والكيراتين, وغيرها في إنتاج ملطفات, ومثبتات الشعر, ودهون للوجه, وغيرها. وسرعان ما بدأت تلك الشركات بجمع ما طرحته من مواد تجميل في الأسواق الأوربية على الأقل. والسبب في ذلك الذعر هو أن هذا البروتين الشرس بإمكانه البقاء في تلك المواد دون أن تضعف إمكاناته, وهكذا ينتقل عبر مسام الجسم دون أدنى مقاومة.

ومن أحد الأمور الخطيرة في هذا الأمر هو تمكن هذا البروتين من البقاء فترة 12 ـ 15 سنة في الدماغ دون إظهار أي عوارض على الإنسان المصاب به. وسرعان ما تتوالى العوارض, كفقدان التوازن خلال المشي, والرجفان, وعدم القدرة على التحدث أو بلع الطعام, واهتزاز في العاطفة بشكل عام. كل ذلك بسبب تراكم تلك المادة حول خلايا الدماغ, كما في الأبقار. ولكن في حالة الإنسان تسمى هذه الحالة بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب Creutzfedt- Jacob CJD Disease وهو أيضا ينتمي إلى مجموعة الأمراض الدماغية الإسفنجية المعدية TSE

وقد سنت الدول الأوربية قوانين صارمة جدا بغية القضاء على هذه الآفة الخطيرة ومنها حرق الأبقار المصابة, أو التي يحتمل إصابتها, وإتلاف كل المواد الحيوانية المنتجة خلال الأعوام التي سبقت حادثة مرض جنون البقر. وبالرغم من المعارضة البريطانية لتلك الحلول, أرغمت في النهاية على الانصياع لرغبة الدول الأوربية الأخرى لتهدأ العاصفة التي بدأت تضرب بريطانيا نفسها. وأصدرت بريطانيا قوانين متعددة حول الموضوع ومن ضمنها قرار بمنع استعمال الأعلاف التي تحتوي على مخلفات اللحوم والعظام الحيوانية MBM Meat and Bone Meal كغذاء للماشية. وقد تبعت الدول الأوربية الأخرى هذا القرار باستثناء الدانمارك.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية, والتي ليست بعيدة تجاريا عن دول أوربا, بدأت المخاوف تنتاب الكثير من المسئولين حول إمكـان انتقـال المرض إلى الماشية في مختلف الولايـات. وبـدأت إدارة الأغذية والأدوية Food and Drug Administration FDA الأمريكية البحث عن الوسائل الكفيلة لمنع حدوث كارثة مشابهة للتي وقعت في بريطانيا والتي قتلت ما يزيد على 167000 رأس ماشية واتصل ذكرها بسبع عشرة حالة وفاة بشرية بسبب إصابتهم بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب, الذي يعتقد أنه أصاب ضحاياه بسبب تناولهم لمواد حيوانية مريضة. وفي الخامس من شهر يونيو الفائت اتخذت قرارها النهائي حول الموضوع وفرضت منعا جزئيا على استيراد أعلاف الماشية الواردة إلى الولايات المتحدة والتي تحوي مواد حيوانية الأصل. واستثنى الحظر الأعلاف التي تحتوي على بقايا الخنازير, والأحصنة, والدماء الحيوانية, والجيلاتين الحيواني, والحليب. فطبقا للقانون الأمريكي الجديد, يسمح باستعمال بقايا الخنازير, والأحصنة كمواد علف للبقر والخراف وكذلك العكس. بالرغم من الحسنات التي يحملها هذا القرار ولكنه بلاشك مازال يترك الباب مفتوحا أمام احتمال انتشار أمراض الأدمغة الإسفنجية المعدية في الماشية الأمريكية.

ويقول المسئولون في إدارة الأغذية والدواء الأمريكية إنهم استثنوا المواد الآتية من الخنازير لأنه لم يسجل حتى الآن أي شكل من أشكال أمراض الأدمغة الإسفنجية المعدية في الخنازير. ويعتقد العلماء أن هذا الرأي غير صحيح وعلى المسئولين في الإدارة التدقيق في الأمر بشكل أعمق من ذلك. ففي تجارب أجريت في بريطانيا, تم حقن الخنازير بمستخلصات من أدمغة تابعة لأبقار مصابة بالجنون مما أدى إلى إصابة الخنازير أيضا بشكل من أشكال مرض الدماغ الإسفنجي المعدية.ويتم ذبح الخنازير في الولايات المتحدة لدى بلوغها الأعوام الستة تقريبا ويعتقد العلماء أن هذه المدة قصيرة جدا لا يمكن لعوارض الإصابة بأحد أشكال مرض الدماغ الإسفنجي بالظهور حينها. كذلك لاتقوم مكاتب المراقبة الصحية الأمريكية بأخذ عينات من أدمغة بعض تلك الخنازير لتحليلها بشكل روتيني قبل طرح تلك اللحوم في الأسواق. ويعتقد الكثيرون من العلماء الأمريكيين أن أعدادا كبيرة من ماشية الخنازير تحمل علة الدماغ الإسفنجي. ففي دراسة أجرتها وزارة الزراعة ما بين عامي 1979 و 1980 في إحدى مزارع الخنازير الأمريكية في نيويورك الملحقة بمصنع تعليب للحوم, سجلت عوارض مشابهة لتلك التي تنتاب الحيوانات المصابة بمرض الدماغ الإسفنجي. وقد راجعت وزارة الزراعة ذلك الملف وأشرف على ذلك العالم وليام هادلو W. Hadlow, المتخصص بأمراض الأدمغة الإسفنجية المعدية, وقام بمراجعة الشرائح المجهرية الخاصة بذلك التقرير والمحفوظة في الوزارة.

من الخنازير إلى غيرها

ولقد توصل العالم هادلو إلى أن العوارض الظاهرة في تلك الشرائح دليل واضح على إصابة تلك الخنازير في تلك الفترة بشكل من أشكال مرض الأدمغة الإسفنجية. ولكن عقب مسئولو إدارة الأغذية والدواء أن حرمان الخنازير من الماء أو التسمم بسبب فرط الأملاح قد يؤديان إلى نفس تلك العوارض إن المرئية في الشرائح المجهرية أو على الشكل الظاهر وتصرفات الحيوان نفسه. ولكن في حال شكك في مصداقية هذا العالم المرجع فمن سيصدق الناس إذن?

وببحث آخر مستقل حول حقيقة الأمر, تمت مراجعة حالتي وفاة بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب وربطها بتناول لحوم الخنازير. وفي دراسة قديمة صدرت في العام 1985, استنتج العلماء أن هناك علاقة مباشرة بين حوادث الإصابة بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب وتناول أي شكل من أشكال لحوم الخنازير (كالمدخن منها, أو النقانق, أو الهمبورجر, وغيرها) وذلك بمراقبة فئتين من الناس الأولى تتناول لحم الخنازير والأخرى لاتتناوله. وفي دراسة أقدم أجريت في العام 1973, وجد العلماء أن ثلث المصابين بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب كانوا من النهمين لأكل أدمغة الماشية. وكذلك لوحظ ميل أكثر هؤلاء المرضى لتناول أدمغة الخنازير أكثر من غيرها.

إن جوهر المشكلة في قرار إدارة الأغذية والدواء الأمريكية أنها سمحت باستعمال الأعلاف المعروفة باحتوائها على لحوم مصابة بمرض الأدمغة الإسفنجية في أغذية الحيوانات المنزلية والخنازير والدجاج وكذلك السمك. وكل ما يطلبه القانون من الشركات المنتجة لتلك الأعلاف (الملوثة) وضع إشارة تحذير تقول (غير مسموح باستعمالها للأبقار أو الحيوانات المجترة الأخرى). وهكذا فإن جثث الخراف أو الظبيان المصابة من المسموح استعمالها في تصنيع أعلاف للحيوانات المنزلية والخنازير.

لقد أصيب العلماء الأمريكيون بالدهشة لدى ورود خبر هذا القانون إليهم والذي يعارض تماما قرارات منظمة الأغذية والدواء العالمية WHO والمستشارية الدولية لأمراض الأدمغة الإسفنجية المعدية ICTSE ومؤتمرات صحية عديدة عقدت في العام 1996. فقرار منظمة الأغذية والدواء الدولية يصر بوضوح على (المنع التام لاستعمال أي مستخلص حيواني يشك في احتوائه على مسبب مرض الأدمغة الإسفنجية في تصنيع أعلاف لأي حيوان كان).

ويعتقد المحللون للموضوع أن القانون الجديد سوف يتسبب بمشاكل عديدة للولايات المتحدة وذلك لسماح القانون للشركات الأجنبيةبإدخال منتجاتها العلفية إلى البلاد. وهنا, فإنه سيصبح من المسموح للشركات البريطانية أن تصدر أعلافها إلى الولايات المتحدة بالرغم من احتوائها على مسببات مرض الأدمغة الإسفنجية. وبدورها, فإن دول الوحدة الأوربية, المتشددة تجاه هذا الأمر, ستسارع إلى سن قوانين تمنع دخول المنتجات الحيوانية الأمريكية للشك في نظافتها وعدم اتباعها شروطا مشددة كافية.

وتتفاقم الكارثة إلى حد أعقد وذلك لأن القانون الجديد يسمح أيضا باستعمال المواد الحيوانية الملوثة لصناعة أسمدة التربة ومواد التجميل. ويطالب العلماء في أمريكا بحرق جميع مخلفات الحيوانات المريضة وعدم استعمالها بتاتا. ففي العام 1996 منعت بريطانيا استعمال المواد الحيوانية الملوثة في أي شكل من أشكال أسمدة التربة. وفي نهاية شهر يونيو من العام الماضي أصدرت دول الوحدة الأوربية قرارها بمنع استعمال أعين الماشية وكذلك أدمغتها وحبالها الشوكية في مختلف أنواع مستحضرات التجميل.

كذلك يسمح القانون الجديد باستعمال دماء الماشية أو مستخرجات الدماء مهما كان مصدرها سليما كان أم ملوثا. ففي اجتماع لمنظمة الأغذية العالمية انعقد في شهر مارس الفائت, شرح العالم بول براون Paul Brown, من مركز الصحة القومي NIH National Institute of Health الأمريكي, تفاصيل تجربة أجراها في مختبره وفيها قام بحقن دماء لفئران مصابة بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب في رءوس فئران مخبرية سليمة. وكانت النتيجة أن الفئران أصيبت بالحالة المرضية. وتأتي هذه التجربة لتثبت أن دماء الماشية المصابة بمرض الأدمغة الإسفنجية خطيرة لاحتمال انتقال المرض عن طريقها إلى الحيوانات الأخرى أو البشر. وفي حال كان ذلك مؤكدا في حالة مرض كرويتزفلد ـ جايكوب, لايستبعد العلماء حدوث الأمر نفسه في حالة أمراض الدماغ الإسفنجية المعدية الأخرى.

أين القانون ?

إن القانون لا يأتي على أي نص يحدد شروط استعمال مادة الجيلاتين, المستخرجة عادة من جلود الأبقار أو الخنازير. ففي اجتماع سابق لإدارة الأغذية والدواء لدراسة كارثة جنون البقر, انعقد في شهر أبريل الفائت, صوت أكثرية الحضور (10 ضد ثلاثة أصوات) لمصلحة السماح باستعمال الجيلاتين الحيواني من الماشية المصابة لاعتقادهم أن مادة الجيلاتين لاتنقل بروتين البريون للكائنات الأخرى.وتأتي كل تلك الأمور لتثبت لعلماء العالم أن القرار الذي اتخذته إدارة الأغذية والدواء الأمريكية يفتقد الحس العلمي وغير مبني على أسس ثابتة. ويقترح العلماء أن تتقيد الإدارة بقوانين أشد صرامة تجاه هذا الموضوع الحساس كما فعلت منظمة الأغذية العالمية وبريطانيا ودول الوحدة الأوربية. فيجب على الإدارة منع استعمال المواد الحيوانية, بكل أشكالها, كأعلاف للماشية, والمعروف عنها أنها حيوانات عشبية بفطرتها كما خلقها الله. كذلك يجب عدم التركيز على مسألة الغذاء وإغفال الجوانب الأخرى. فالزراعة وصناعة مواد التجميل وصناعة الأدوية كلها مجالات قد تتأثر بشكل بالغ بهذا التساهل المفرط. ويجب أن يدفع واقع ازدياد حالات الإصابة بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب المسجلة دوليا المسئولين للانتباه إلى الواقع الصحي العام وفرض شروط صارمة على سلامة الدماء أو الأمصال المستخرجة من الماشية والتي تستعمل في بعض الحالات الطبية أو المخبرية.

إن معرفة هؤلاء العلماء بصعوبة إيقاف انتشار أمراض الأدمغة الإسفنجية المعدية في الماشية أو البشر يدفعهم إلى الإلحاح علي المنظمات الدولية لفرض أقصى شروط السلامة والأمان. وهكذا فإن النصيحة الوحيدة التي يجب اتباعها في هذه اللحظة هي توخي الحذر ومنع انفجار المرض من جديد.

وهنا يأتي السؤال الأهم (ماهي الشروط الصحية المتبعة في بلادنا لمنع تسرب هذه المنتجات إلينا)?

 

غازي عمر تدمري