أزمة ترجمة المصطلح: كيف يكتسب بعده الاجتماعي؟

أزمة ترجمة المصطلح: كيف يكتسب بعده الاجتماعي؟

المصطلح أرقى أشكال الكلمة لأنه إحدى لبنات لغة العلم، ويستهدف التعريف أو تحديد المفهوم في دقة وإيجاز.

لم تبدأ اللغة بصيحة بل بفعل. والكلمة ليست صوتا، ولا الفعل حركة ظاهرية، ولكنها ذلك النشاط التاريخي الفردي المجتمعي الفاعل في الوجود والمنفعل بالوجود عبر دائرة تأويلية يتوسطها الجهاز العصبي. لذلك فإن عبارة "الكلمة ـ الفعل ـ الفهم" تؤلف معا في تزامن بنية واحدة متحدة العناصر لوعي الإنسان من حيث هو إنسان اجتماعي فاعل متطور تاريخيا تطورا ثقافيا بيولوجيا في إطار من الوجود النفسي الفيزيقي.. والوجود هنا ليس شيئا مستقلا عن الفكر. وكذلك الفكر واللغة والأشياء والنشاط في التاريخ تؤلف جميعها الإنسان أو خطاب الإنسان مع الطبيعة والمجتمع.

وهنا مكمن الخطر. ففي حالة تخلف أو غياب عنصر الفعل النشط الإنتاجي قد تأخذ الكلمة صورة استقلال ذاتي متوهم باعتبارها وعي الروح الفردي المثالي، ووعاء خبرة مقطوعة الصلة بالفعل أي بالواقع. وتتراص الكلمات طليقة بمحتواها الانفصامي ويكون الفهم هنا غير عياري من نسيج تخييلات ثقافة مجتمعية محلقة في الفضاء.

والمصطلح شكل أرقى من أشكال الكلمة، قياسا إلى اللغة العادية. ذلك أنه إحدى لبنات لغة العلم، ويستهدف التعريف أو تحديد المفهوم في دقة وإحكام وإيجاز. ولكنه من هذه الزاوية تحديدا يدخل أيضا نطاق اللغة العامة وبناء الوعي. ذلك لأن العالم المتخصص مثلما يتحدث إلى أقرانه، يتواصل أيضا مع الآخرين من غير أبناء تخصصه، ومن ثم يتعين أن تكون لغته مفهومة للجميع.

ومن هنا لا يكون المصطلح، ومن ثم لغة العلم، رموزا اصطلاحية بين متخصصين بل لغة تفسير ووصف وتحليل لظواهر الكون. ولهذا تسهم لغة العلم بمصطلحاتها في صياغة إطار معرفي علمي أو لنقل عصري. واتفاق الآراء بشأن هذا الإطار هو ركيزة انتماء المجتمع إلى رؤية واحدة وموحدة للكون والإنسان ولا يكون الحوار بين أبنائه حوار طرشان.

المصطلح والحوار النشط

ووضع المصطلح في لغة عربية، أو ترجمته إلى أي لغة هو نوع من التقدمة التي يقدمها المؤمن الصادق على المذبح في محراب العلم المؤسسي متوقعا طرفا آخر يقبله ويجد فيه اتساقا مع حاجته، ويكتمل بهذا طرفا الحوار اجتماعيا.. وبذا يأخذ المصطلح مكانه ممارسة تكفل له الحياة في سياق اجتماعي.

فاللغة ليست مفردات وإنما هي نسيج خطاب مجتمعي غير منفصل عن نسيج الحياة الذي هو مجلى هذا الخطاب وهكذا تكون حياة اللغة رهن نشاط اجتماعي هادف وإلا فقد الخطاب الاجتماعي مبرر وجوده.

أقول هذا لأننا في مناقشاتنا لمسألة تعريب العلوم، ما أكثر ما قيل في هذا الاتجاه، نذهب إلى أن جوهر الأزمة عندنا هي أزمة تعريب أو سك مصطلحات فوق قواعد الاشتقاق العلمي، وكأن العلم هو المصطلح فقط. وغاب عن الأذهان أن المصطلح نتيجة وليس سببا، إنه تلخيص أو تجريد موجز لحدث وقع ومن ثم فإن السبب هو الفعل، أعني النشاط العلمي أولا حسب مقتضيات العصر.. العلم كمؤسسة اجتماعية وركن أساسي في سدى ولحمة استراتيجية قومية للتطوير الحضاري.. إذ في ظل هذا النشاط وبفضله ينشأ المصطلح وتجري لغة العلم على الألسن وتتشكل الرؤى.. تتطور اللغة، وتتطور العقول.. ويتطور واقع المجتمع على جميع المستويات.

إننا نبرز قضية الشكل بينما جوهر الأزمة في ظني هي أزمة بطالة مصطلحية. قد تتوافر المصطلحات ولكنها عاطلة لم تتحول إلى مصطلحات شغالة اجتماعيا.. أي صيحة بلا فعل. ومن ثم ينعكس عليها حالنا من تشرذم وتباين وتعدد بلا رابط.

اللغة نشاط وتواصل معرفي

ليس مناط الأمر استنطاق القاموس، والتعسف أحيانا في التخريج اللفظي، بل الأمر أبعد من ذلك، هو المفاد والدلالة والتمثل الذهني في ضوء نشاط فعلي وعقلي إنساني ييسر التعريف، وبذا يتكامل الخطاب الاجتماعي.

ذلك لأن اللفظ أداة لتحقيق وظيفة أو في خدمة فعل اجتماعي يشتمل في آن واحد على رؤية إلى العالم، وعلى جهد بنائي أو إبداعي تطويري. فاللغة كما قال سوسير فعل اجتماعي Social act أي فعل من المجتمع وإليه حيث المجتمع مؤسسة فاعلة وبنية متطورة.

ويقول عالم الفيزياء فيرنر هايزنبرج من واقع خبرته،في كتابه "الفيزياء والفلسفة ـ ترجمة د. أحمد مستجير ـ المكتبة الأكاديمية ـ 1993ـ ص119":إن العلم يرتكز على اللغة كوسيلة اتصال، وإننا نوسع اللغة إذ نوسع المعرفة العلمية.

معنى هذا في رأيي أن المصطلح العلمي أساس ولكنه ليس علة وجود ذاته، أو ليس وجوداً كافيا بذاته، فضلا عن أنه ليس وحده هو المطلوب لأنه لا يمثل بذاته لغة، وإنما قيمته تتحقق من توافر سياق لغة اتصال، أي لغة علم، وهو ما يعني بالتالي وجود مجتمع علمي، ثم يخلق هذا الصلة بينه وبين اللغة العادية بحكم الوظيفة الاجتماعية للعلم.

ولغة العلم هي لغة تواصل، كما أنها أداة تصور العالم أيضا وتعطي الصورة العلمية للعالم. ومن ثم فإن اتساع اللغة رهن باتساع النشاط المعرفي العلمي في المجتمع بعامة هذا وإلا ظلت لغة العلم نوعا من الميتافيزيقا بالنسبة للمجتمع، وتجلت في لغة المجتمع بالمقابل ما يمكن أن نسميه ميتافيزيقا الغياب، أي غياب لغة العلم ورؤيته عن لغة المجتمع وانقطاع حبل التفاهم، وتجمد حركة المجتمع.

المفهوم ودقة الدلالة

والحياة في ظل هذه الميتافيزيقا تجعلنا أسرى الشكل دون الدلالة حيث يغدو المصطلح على المستوى الاجتماعي كلمة وليس فكرا.. صيحة وليس فعلا.. مفردات وليس وعيا قرين ممارسة.

نحن عادة عند ترجمة المصطلح العلمي نناقش دقة المصطلح لغويا، ولا نناقش علاقة المصطلح بالمفهوم أو الرؤية، ودقة هذه العلاقة ومدى تطابقها. ولكن حيث إن المصطلح لبنة في لغة علم وثيقة الصلة ـ حسبما هو مفترض ـ باللغة الطبيعية، فلابد أن يكون المصطلح على لسان الباحث طرفا في حوار أو خطاب اجتماعي يحقق تواصلا عقلانيا ويضيف إلى الممارسة الحياتية قوة، ويسهم في تدقيق الرؤية. وبذا يكون الاستخدام الصحيح للمصطلح ودقة بنائه عاملين أساسيين من رؤية للكون هي الرؤية الصحيحة حسب مقتضى العلم، أي رؤية عصرية. ولقد كانت مشكلة دقة التعريف أو التحديد الاصطلاحي إحدى مشكلات الفلسفة منذ القدم.

ولنا أن نسأل: ولكن لماذا نشأت هذه الحاجة إلى تدقيق العلاقة بين الكلمة والمفهوم، وكذا الفهم على المستوى العام، أو مشكلة تحديد المفاهيم في اللغة? متى تبرز هذه المشكلة في مجتمع ما كمشكلة ملحة تتجاوز حدود الشكل إلى المضمون? وما هو نوع المجتمع الذي يضع في الصدارة مشكلة المعرفة ودقة المفهوم? ليس المجتمع الذي يعيش على الريع أو يأتيه رزقه منحة من الطبيعة أو من حيث لا يحتسب. إنه المجتمع الذي يتصف بكثافة النشاط العلمي وكثافة العمل الحياتي المنتج حيث عدم الدقة يسبب مشكلات وأخطاء وأخطارا في الممارسة العملية. ففي هذا المجتمع تكون الكلمة الحياة، ويكون المصطلح مساويا المفهوم أي إطارا معرفيا ويتعذر فهمه أو قبوله أو تصوره إذا كان ضمن إطار مخالف، لأنه رهن انجاز حقيقي واقعي عقلاني، وقوة مؤثرة في بنية الثقافة العامة وسط نشاط عملي موضوعي لهذا المجتمع الخالق له.

تحديث اللغة وتحديث المجتمع

إن المصطلح العلمي المترجم في مجتمع راكد يكون مصطلحا استاتيكيا، فاقدا عنصر التطور الحياتي بل وربما لا يسهم في تغيير الرؤية العامة للكون إلا عند عدد محدود منعزل. بينما في مجتمع يشكل العلم فيه مؤسسة نشطة فاعلة نجد المصطلح إبداعا حيا ومتطورا، ووجودا ماثلا في الذهن وفي الواقع.

وغني عن البيان أن تقديم مصطلح أو معجم مصطلحات يعني جهداً أمنيا طموحا يستهدف المشاركة ضمن عملية ترشيد تاريخية شاملة لتحديث المجتمع على جميع المستويات بما في ذلك تحديث اللغة. ولكن ماذا لو أن هذا الجهد يصب في مجتمع راكد لا حاجة به، في مجموعه، إلى مفردات تتجاوز ميتافيزيقا الغياب? ستغدو الكلمة خلقا ذاتيا في حالة حصار وليست نبتا طبيعيا نابعا من خضم الحياة العملية الصخابة، واستجابة لوظيفة واقعية، وحاجات عملية تلح على إيجاد المصطلح ليأخذ سبيله في حياة المجتمع، وتكتمل به عناصر الخطاب العلمي والاجتماعي المحدد المفاهيم في تطور ارتقائي نحو المزيد. وهنا في مجتمع الفعل أو النشاط الإنتاجي يغتني المصطلح بما يملكه من رصيد في نشاط المجتمع وما يحققه من حاجة اجتماعية وممارسة حياتية.

 

شوقي جلال