الكويت كما رأتها عينان زرقاوان

الكويت كما رأتها عينان زرقاوان

المؤلف: زهرة فريز
ترجمة: الدكتورة فتوح الخترش

كان ديكسون هو الوكيل السياسي لبريطانيا في الكويت من عام 1920 حتى عام 1936، وقد حملت ابنته اسم "زهرة فريز" بعد زواجها كما يجري عرفهم، وبهذه الصيغة وضع اسمها على غلاف كتابها (Kuwait was my home) والذي قامت بنقله إلى العربية الدكتورة فتوح عبد المحسن الخترش أستاذة التاريخ بجامعة الكويت، تحت عنوان: "الكويت كانت وطني"، وقام بمراجعته والتقديم له الأستاذ سيف مرزوق الشملان.

ونتوقف عند محتوى الكتاب، الذي يمكن أن يأخذ مكانه في أكثر من سياق، فهو دراسة اجتماعية عن الكويت في أهم مراحل تحولها من اقتصاد اللؤلؤ والنقل البحري والصيد، إلى اقتصاد النفط، التي تختصر رأيها في أهميته بقولها "أصبحت شركة نفط الكويت هي العامل الحاسم في حياة الدولة واقتصادها" ص76 وقد ننظر الآن لمثل هذه العبارة بأنها تنطوي على مبالغة واضحة، ولكننا نميل إلى الموافقة عليها عام 1946م وما حولها، حيث كسدت مصادر الرزق التقليدية الراسخة، أو تراجعت أهميتها بصورة واضحة، وأصبح العمل في مشروعات النفط التي لاتختصر في تصديره والحصول على ثمنه، إذ تشمل أعمال الحفر والإنشاءات والإدارة والنقل والحراسة.. إلخ هو المصدر الأول للأرزاق، ولدخل الدولة كذلك. ولكن كتاب السيدة "زهرة" يدخل أيضاً في أدب الرحلات، هذا على الرغم من أن علاقة المؤلفة بموضوع كتابها لم تكن علاقة عابرة، أو علاقة عبور، فوالدها نفسه من مواليد بيروت، وعاش في الكويت أهم مراحل عمره، وأمها ذات هوى شرقي عربي واضح في تسميتها لابنتها، كما سمت ابنها "سعود" وظل يعرف في الخليج، وفي الكويت خاصة بهذا الاسم العربي الإسلامي، الذي لم تقبل الكنيسة تسجيله وتعميده به، وظلت أمه تعرف في الكويت باسم أم سعود، الأعوام الستين التي قضتها على شاطئ الخليج. أما "زهرة" ـ المؤلفة فقد حملت اسم إحدى جارات الأم وصديقاتها، برغم أنها ولدت في الهند عام 1925 ولكنها قضت في الكويت بضع سنوات من طفولتها، هي الأساس المكين لذكرياتها في هذا الكتاب، بل إنها تمثل "الحلم" الذي ناداها وحرك أشجانها لتعود إلى الكويت بعد الرحيل إلى وطنها.

العودة والنضج

وقد كانت هذه العودة عام 1946م، فكان وعي الفتاة الشابة الناضجة في حالة صدام مع ذكريات الطفولة القديمة، وإذا كانت مدركات الوعي تجعل من الكتاب صفحة من أدب الرحلات، ومن ثم يكون محور اهتمامنا كيف تبدو صورتنا في عيون الآخرين، فإن التوسع في ذكريات الطفولة، يجعل من الكتاب "مذكرات" محورها زهرة ذاتها، التي تصف مشاهداتها، وعلاقاتها، وتصوراتها لكل ماترى وتسمع، وهي في هذه المذكرات لاتقف في موقع الموضوعية العلمية ـ وإن حدث هذا أحياناً ـ إن حركتها، كعواطفها هي المرجع الأساسي الذي يطور مادة الكتاب.

وسواء اعتبرنا كتاب "الكويت كانت وطني" دراسة اجتماعية، أو وصفاً صنعته "رحالة" طال مقامها بيننا حتى أجادت، أو على الأقل عرفت، لغتنا وعاداتنا وتجاوبت مع أكثرها، أو أنه صفحة من مذكرات تأخذ شكل الذكريات، وتحاول أن تكون موضوعية، أو علمية في جانب منها، فإن الكتاب، بكل هذه المحاور، يستحق الاهتمام، وأهم ما يطل من بين صفحاته ـ في رأينا ـ كيف ترانا ذات العينين الزرقاوين القادمة من شواطئ بحر الشمال الباردة، إلى شواطئ الخليج ذات اللفح واللهيب؟!

وأحب أن أوضح كذلك أن كل ما يحتويه الكتاب مهم لقارئ التاريخ، والباحث في المجتمع، والمهتم بحياة البدو والبادية بصفة خاصة، ولاشك في أن الكاتبة بذلت جهداً "علمياً" بدرجة معقولة في حدود الأرقام والإحصاءات والحقائق المتاحة لها، كما أنها اعتمدت، وناقشت معلومات رحالة سبقوها مثل نيبور، وغيره، ولكن خبرتها المباشرة هي المصدر الذي نحرص على التعرف عليه، واستخلاص معناه. إن الكتاب مكون من خمسة عشر فصلا عن الخليج العربي ـ الشيخ مبارك وابن سعود ـ النفط في الكويت ـ الكويت اليوم مدينة المفارقات ـ أصدقاء كويتيون ـ البدوي ـ الإرسالية الأمريكية ـ المرأة الكويتية ـ الجهرة ـ مصائد اللؤلؤ، والتجارة وصائدو الأسماك ـ مأدبة الشيخ "عبدالله المبارك" ورقصة الحرب الرسمية ـ حملة للصيد بالصقور ـ الأمطار هي الحياة ـ المنتفق يرتحلون نحو الجنوب ـ إلى الجنوب مع قافلة الجراد.

هذه هي عناوين الكتاب، ونلاحظ أن التاريخ السياسي للخليج والكويت هو المدخل والبداية، وهذا أمر مهم بالنسبة للمؤلفة التي يكون من الخطأ ـ وليس السذاجة فقط ـ أن ننتظر تجردها من هواها الأوربي البريطاني تحديداً، ونحن لانقرأ كتابها لنبحث عن تحيزها أو تجردها أو موالاتها، إننا نتعرف على رؤيتها المتميزة كشاهدة، لاتداري الحقائق أو تحرفها بالنسبة لما يتعلق بالجوانب الاجتماعية، أما السياسة ـ في كتابها ـ فلها شأن آخر، إنها تقول صراحة: "أثار حصول الولايات المتحدة على موطئ لقدم في البحـرين مخاوف شديدة لدى الحكومة البريطانية" ص57 وتقول كذلك: "منذ أن تفوق البريطانيون على الهولنديين في الخليج أخذت بريطانيا تدعم تنظيمها السياسي في الأراضي المجاورة بخطى راسخة، لأنها اعتبرت موانئ الخليج مخفراً أمامياً للهند، فعقدت العزم على أن تمارس نفوذاً لامنافس له عليها" بل تضيف عبارة شديدة الذكاء والإيجاز حين تختصر مفهوم التحول في السياسة البريطانية، واتجاه المصالح، فتقول: "وانتقلت العلاقات بين الخليج وإنجلترا من دفاتر التجار إلى ملفات رجال الدولة" ص33، ومثل هذه الملاحظات ذات البريق الذكي الخاطف منتـشرة في فصول الكتاب، كأن تشير مثلاً إلى أن ظهور السفن البخارية "الأوربية بالطبع" هو الذي أوقف مغامرات القرصنة للسفن الشراعية "الخليجية" وأن تلاحظ وجه الشبه بين نماذج السفن المصنعة في موانئ الخليج والسفن الفينيقية ص75، بل تربط بين نموذج "البغلة" وأصل برتغالي ص172، وتحلل حادثة استرداد عبد العزيز آل سعود للرياض واقتحام قلعتها، في ضوء اعتلاء مبارك السلـطـة ص47 بل تذكر بالتصور الأوربي للمنطقة التي تعتبر أن بلاد ما بين النهرين هي امتداد للخليج، وليس العكس ص34، وتلمس الفروق العضوية والنفسية في بدو الكويت وبدو العراق في أكثر من مناسبة، ولاتتردد في تحديد موقعها من هذه الفوارق التي تصفها بأنها فاصلة!!

من خلال عين امرأة

وأعترف بأنني حين قرأت الصفحات الأولى من الكتاب كنت أبحث عن "المرأة" ليس المرأة الكويتية فقط، بل المرأة المؤلفة قبل ذلك، كيف سترى الأشياء، ما الذي يثير انتباهها في الكويت، وكيف تحكم على الأشياء؟ ثم كيف تصورت أو صورت المرأة الكويتية وقد عاصرت تحولها الكبير? قد يبدو هذان المحوران متباعدين، أو لكل منهما جوابه، ولكنهما يتداخلان كثيراً. وأحب أن أحدد نقطتين: الأولى أنها عقدت فصلاً عن المرأة، وما كان يحتمل أن تغفل هذا الجانب بطبيعة اهتمامها الأنثوي من جانب، ولما للمرأة من أثر لاينكر في توجيه التغير الاجتماعي، ولكن اهتمام "زهرة فريز" بالمرأة في كتابها يتجاوز هذا الفصل المحدد إلى إشارات وصور وأفكار منتشرة في فصول أخرى ـ النقطة الأخرى أن أكثر ما تهتم به الكاتبة هو البدو والبادية، وهذا الأمر واضح تماماً في علاقات أبيها ذي المنصب السياسي، الذي تسوقه مسئوليات وظيفته إلى الأسرة الحاكمة، ثم إلى شيوخ البادية، وقد أقام علاقات معهم، وهي أيضاً تبعاً لوالدها تحدثت عن كبراء المدينة من غير الشيوخ، مثل عبد الوهاب القطامي أشهر نواخذة الخليج ص94 وهلال المطيري أكبر تجار اللؤلؤ ص171 وعلي الشاهين النوخذة القدير الذي أذنت له سلطات ميناء زنجبار بدخول الميناء دون أن يرافقه مرشد تقديراً لخبرته البحرية ص174 ولكن الاهتمام بالبدو والبادية يتجاوز الأشخاص إلى طريقة الحياة، والعرف، والأفراح، والموت، والطبيعة، والمياه.. والطيور، بحيث يمكن لنا أن نقول إن الكويت التي أحبتها زهرة فريز حقيقة هي بادية الكويت، برمالها النقية، وبيوتها الشعر، وإبلها وطيورها وناسها البسطاء، والتعليل القريب أن نقول إن السياسة البريطانية التقليدية كانت دائما تتألف قلوب الزعامات الإقليمية المؤثرة، وتبحث عن الذين يسهل ربطهم إلى مطالب سياستها، أو الذين تخشى تمردهم على تلك السياسة، وقبائل البادية لاتخرج عن هذه الجوانب الثلاثة، ومن المفهوم أن هذا التوجه الرسمي التقليدي الذي سار عليه السيد ديكسون كان له أثره في ابنته، ولكن هناك تعليلاً بعيداً لانستبعده، وهو حنين الإنسان الأوربي الذي يعيش حياة حرية معقدة، مثقلة بالمخترعات المادية، إلى حياة البساطة في الطبيعة بين البسطاء، وهذا الشرط تحققه البادية، ولاتحققه مدينة ال كويت، التي تصفها بأنها ـ ذلك الوقت ـ تشبه مدن العصور الوسطى، بمعنى أنها لاتحقق شرط المدينة العصرية، ولم تحتفظ ببساطة البيئة البدائية.

ملاذ الهاربين

هذا يعني أن الحلم الأوربي بالشرق هو دائماً بحث عن البسيط والبدائي، بحث عن نقيض الحياة في أوربا ومدنها الأسمنتية المعقدة، وزهرة نفسها تقول عن حياة الأوربي في الخليج وفي الكويت خاصة حين أقبلت عليها إنها ملاذ الهاربين من صخب الحياة وتياراتها المتلاطمة في العالم الغربي، وتمتدح أمراء وملوك العرب في الجزيرة والخليج بأن شعوبهم ـ مع الإجلال ـ تتحدث عنهم وكأنهم أفراد كأي واحد من تلك الشعوب، ويتأكد الحلم بالبادية في عدم ترحيبها بالتغير العمراني الذي بدأ يظهر في شكـل مدينة الكويت التي أطلقت عليها مدينة المفارقات، ولا أدري ما هو الوصف الذي كان يحتمل أن تطـلـقه على مدينتنا المترامية الشاهقة، لو أن الكاتبة عاشت فيها الآن؟!

لم يكن لعين زهرة فريز أن تغفل عن المرأة، ولم يكن كافياً أن تقول إنها تعيش حياة قاسـية شاقة، وبصفة خاصة المرأة البـدوية التي أعطتها أكثر اهتمامها، إنها تحمل السلال مسافات طويلة وتذهب للتسوق، أو تجلس في السوق وتبسط بضاعتها على الأرض في انتظار المشتري، كما تحمل قرب المياه مسافات مرهقة لتوفر أجر الدابة التي يمكن أن توصل الماء إلى البيوت، والمهم أن المشقة أسلوب يومي مألوف، ولكن الكاتبة الأوربية ستفاجأ باكتشاف إسلامي، إن الأجر على قدر المشقة في العبادة، فهاهي زوجة عبدالوهاب القطامي، النوخذة الثري، قد عزمت على أن تؤدي فريضة الحج على جمل، وليس بالسيارة، ذلك لأن "المسلم يأمل بتواضعه ونكران ذاته أثناء الحج أن يـنال ثواباً أكـثر عند خالقه" ص95. ومن الجدير بالذكر أن هذا التعليل الديني يمتد ليشمل الشخصية الكويتية بصفة عامة، فهي بسيطة متواضعة، وهذا ماتقوله المؤلفة عن خبرة ومخالطة، ولهذا توجه نقداً وعتاباً لأبناء وطنها البريطانيين الذين زاروا الكويت أو الشرق الأوسط وأخذوا فكرة غير صحيحة عن أهل الكويت من خلال اختلاطهم بالمهجنين ـ كما تدعوهم ـ مختلطي الأنساب، وهذه الفكرة في غير مصلحة الكويتيين الحقيقيين !!ص95.

عزلة الحريم

وتبدي المؤلفة إحدى ملاحظاتها الذكية حين تشير إلى علاقة المرأة بمعمار البيت الكويتي وهندسته، ففكرة "الحرم" تعزل جناح النساء، وتؤثر في تخطيط المدخل الذي لابد أن يلتوي حول ركن قائم الزاوية، بحيث يوفر خصوصية لكل جناح، ويعزله، كما "يقصد به أيضا إبعاد الأرواح الشريرة، لأن هذه الأرواح تتحرك في خط مستقيم، ولايمكنها الدوران حول الأركان" ص137 على أن هذا العزل لجناح النسـاء يتيح لهن قدراً كبيراً من الحرية في الجلوس والحركة، وهذا هو البديل الذي يعوض المرأة عن الخروج اليومي لممارسة الحياة.

وتقف المؤلفة الغربية عند أمرين نعدهما ـ أو يعدهما الكثيرون ـ من سلبيات الماضي، ولكنها تكشف عن وجه آخر لاتتردد في امتداحه، أو على الأقل تقبله.

الأول: ملازمة النساء للبيوت وندرة خروجهن للحياة العامة أو الأسواق فضلاً عن العمل. لقد صار هذا فيما بعد مطلباً للداعيات إلى حرية المرأة، وفي زمن تأليف الكتاب تقرر أنه ليس في الكويت أي دعوة لتحرير المرأة "كما جرى التقليد العام في استخدام هذا المصطلح" وتفاجئنا سليلة التحرر النسائي بأنها لاترى في حياة المرأة بين أربعة جدران مدعاة للضجر والتأفف، فقد وجدت السعادة تغمر تلك الأجنحة المغلقة في أغلب الأحوال، وهي تربط هذا بأن الأسرة العربية عادة كبيرة العدد، وجناح النساء المتاح للأطفال يجعل الجدات والأمهات في حياة متجددة هادئة في نفس الوقت، بل تذكر أن المرأة الغربية ليس لديها الفرصة لتنعم بهذا القدر من السعادة.

الأمر الثاني هو: إعطاء ابن العم حق "الأولوية" في الزواج من ابنة عمه بحيث لايحق لغيره أن يتقدم إلا إذا أعلن هو عن تنازله، أما الفتاة فليس لها هذا الحق، وتشير إلى حادثة دموية رفضت فيها الفتاة ابن عمها فأطلق عليها النار!!

ومع هذا فإنها تقف مع أفضلية ابن العم، وتقدم لهذا تعليلا طريفاً حين تقول: "من الواضح أن نظام زواج ابن العم من ابنة عمه عادة ملائمة ومفيدة في مجتمع لاتتاح فيه أي فرصة للشاب أو الشابة للقاء أو اختيار الشريك، وهو عامل مهم أيضاً في المحافظة على تماسك الأسرة، ويمنع ـ في حالة المراتب العليا من القوم ـ الزواج من خارج فئتهم الاجتماعية"ص148

أشارت "زهرة فريز" إلى جوانب أخرى تطرقت إليها البحوث الاجتماعية كثيراً، وقد لاتخص المرأة الكويتية، لأنها تستند إلى طبيعة المرأة، أو حساسية المجتمعات الإسلامية، من النوع الأول مسارعة المرأة الغنية لإقراض حليها للعروس التي لاتملك مثل تلك الحلي، لتزف بها إلى عريسها، ومن النوع الآخر تأثر وضع المرأة وقيمتها بأقل شائعة تمس عرضها، فهذا يدمرها تدميراً، وقد تقتلها أسرتها وتدفنها خلف الدار ولايسمع أحد عنها شيئاً بعد ذلك، والقانون هنا "تقصد في تلك الفترة حيث العرف هو القانون" لايسأل أحداً، فمن المسلم به أن من حق كبير العائلة أن يطهر الأسرة من أي عضو يلطخ اسمها بالعار. ص140

هذا بعض ما شهدت عليه زهرة ديكسون، أو زهرة فريز، كما تحب أن تدعى، وما رأته العينان الزرقاوان، اللتان أحبتا الكويت، أحبتا في الكويت البساطة، والصدق، والعصامية.

 

سعاد عبدالوهاب

 
  




غلاف الكتاب





سيدتان من الكويت أمام بيت السدو القديم