أرقام

أرقام

أفغانستان فوق صفيح ساخن!

عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها وتراجع شبح صدام مروع بين الشرق والغرب وبقواهما النووية.. عندما حدث ذلك تنفس العالم الصعداء قائلا: "لقد ارتاح البشر وزال الخطر، ولم تعد هناك غير بثور صغيرة تهدد الأمن".

ولكن، سرعان ما أصبحت البثور الصغيرة هي الأصل وهي الخطر، وأصبحت وحدها كافية لتجدد، بل لتفاقم ظاهرة الترحال والغياب عن الوطن!

تسجل أرقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن العالم ـ وحتى نهاية 1997 ـ قد شهد نحو خمسين مليونا من البشر بين لاجئ ونازح. ترعى المفوضية نصفهم بالكاد.. ويفتقد الآخرون الرعاية ينهشهم الجوع أحيانا.. وتحيط بهم الأخطار المختلفة امتدادا من فقدان المسكن والمأوى.. وامتدادا للاعتداءات الجنسية!

الظاهرة متفاقمة، وقاموس الوكالات الدولية يحاول أن يلاحقها بمجموعة من المصطلحات مثل: تيار اللجوء، الطرد الجماعي، التطهير الإثني، النزوح بفعل الكوارث، الهجرة القسرية، نقل السكان، العودة غير الطوعية للوطن.. ونلاحظ في معظم هذه المصطلحات عنصر الإكراه. الناس تفقد الأوطان بلا رغبة منها، تفر أمام الخطر وليس معها من حطام الدنيا غير ما تستطيع حمله من ملابس أو أموال. إنها لا تستطيع أن تحمي غير أرواحها.. إن استطاعت لذلك سبيلا!ووفقا لتقديرات مفوضية اللاجئين فقد كانت أفغانستان على قمة هرم الهجرة والنزوح دائما. هي الأولى قبل فلسطين، والصومال، وبوروندي وما يجري في إفريقيا أو آسيا أو جنوب أوروبا.

هي الأولى عن جدارة فاللاجئون قد فاقوا ستة ملايين عام "1990" وبما يمثل حوالي "30%" من عدد السكان!.

وأفغانستان دولة متوسطة الحجم. آخر تعداد لها ـ إن كانت هناك احصاءات دقيقة ـ هو "22.5" مليون نسمة في منتصف السبعينيات، وقد جرى تصحيح الرقم أكثر من مرة بعد أن تعذر على الجهات الدولية متابعة ما يجري.

وتبلغ مساحة أفغانستان التي تحيط بها جمهوريات آسيا الوسطى من الشمال، بينما تحيط بها إيران وباكستان من الشرق والغرب حوالي "652" ألف كيلومتر مربع.. والفقر يمسك تلابيبها حتى أن تقديرات البنك الدولي "97" للعمر المتوقع للإنسان الأفغاني هي "44" عاما فقط.. أما الأمية عند الكبار فهي تصل إلى "69%".

هي إحدى البلدان التي هبطت إلى قاع العالم، ومع ذلك فإن التقلبات السياسية كانت في اتجاه مضاد للتنمية والاستقرار.

كان البطل باستمرار حدثا سياسيا تعقبه هزة وأحداث عنف وقتال ثم يتدفق اللاجئون إلى الخارج، أو النازحون داخل الوطن. إنها كأنبوبة الأسنان، كلما جرى الضغط على بطنها خرج محتواها إلى أقرب منفذ!.

وربما تكون أفغانستان قد سجلت أرقاما قياسية أيضا في نطاق التغيير السياسي عنفا وامتثالا.. وإجهازا على الحكام أيضاً.

في عام 73، وبعد قرنين من النظام الملكي تم طرد الملك ظاهر شاه واستولى العسكريون على الحكم بقيادة محمد داود.. ولكن وبعد خمس سنوات أخرى وقع انقلاب عسكري آخر جرى فيه قتل داود وتنصيب نور محمد طراقي رئيسا لمجلس الثورة الذي اتبع الشيوعية، وقتلته الجماعات التي أطلقت على نفسها كلمة المجاهدين في عام "97".. واستمرت الانقلابات والاغتيالات، فتم اعدام الرئيس حفيظ الله أمين مع دخول القوات السوفيتية عام "97" وتولى كاميل بابراك رئاسة الجمهورية ثم أطيح به عام "87" وجاءت حكومة نجيب الله رئيس الشرطة السرية، والتي سقطت أيضا عام "92" على أيدي المجاهدين.. ثم تتوالى التغييرات والانقلابات: مجددي ثم رباني.. وتسيطر حركة طالبان على جلال أباد وكابول في سبتمبر "96" فتقوم بإعدام الرئيس السابق نجيب الله الذي اتخذ مقر الأمم المتحدة ملجأ له بعد مرضه.

الأحداث كلها درامية: احتلال سوفييتي دام عشر سنوات.. وحرب أهلية وصراعات دموية نحو ثماني سنوات أخرى ،وتسجل مفوضية اللاجئين ترمومتر الهجرة والفرار فتقول إن الامر قد بدأ بـ "600" ألف لاجئ عام 1980، ومع تصاعد الحرب بلغ "3.9" مليون لاجئ عام "83".. ثم "5.9" مليون عام "88".. وعندما رحل آخر جندي سوفييتي عام "98" كان الرقم قد بلغ "6.1" مليون لاجئ، ثم ارتفع في العام التالي إلى الذروة "6.2" مليون لاجئ.. وبدأ في التراجع حتى بلغ "2.7" مليون فقط عام "97"!.

نلاحظ أن الأعداد كانت تتزايد طبقا لأحداث العنف وحجم الخطر.. وتتراجع عندما يتراجع الخطر.

ونلاحظ كما تلاحظ مفوضية اللاجئين أن تيار العودة قد صحبه بسبب استمرار العنف تيار جديد للنزوح الداخلي، لم يفر الناس هذه المرة إلى أقرب ملجأين: ايران وباكستان لكنهم كانوا يفرون إلى الجبال وإلى مدن وقرى أخرى بعيدة عن الحرب الأهلية.

وبينما تحملت دولة مثل الهند عددا أقل من اللاجئين فإن ايران وباكستان كانتا شيئا آخر.. وقد تحملتا وحدهما تلك الأرقام التي أذاعتها المفوضية: "6.2" مليون عام "90"، و"2.7" مليون عام "97" واستمرت جهود الإغاثة والتوطين سبعة عشر عاما متصلة، واستمرت إيران بلداً مضيافا إلى درجة الإدماج في المجتمع.. كما تلقت باكستان أكبر حجم من الدعم الدولي لاستضافة المهاجرين. تحولت قرى ومدن في كل من الدولتين إلى أماكن لسكنى وعمل وتعليم الأفغان، وحدث ذلك الامتزاج الاجتماعي الذي اختلف من إيران "الأكثر انفتاحا" وباكستان "الأكثر تزمتا".

وخلال ذلك تمزق المجتمع الأفغاني، وكانت أحوال النساء أبرز مثال على هذا التمزق. جاء الشيوعيون فأمروا النساء بالخروج للتعليم والعمل.. وجاء الطالبان فأمروا النساء بالنقاب والقعود في البيت.. بل إنهم قد منعوا الرجال أيضا من حلاقة الذقن أو تهذيبها أو الاستماع للموسيقى أو استخدام التليفزيون أو الاحتفاظ بالصور.. وعندما كانت تحدث مخالفة، كأن ترتدي المرأة وشاحاً بدلا من البرقة "أي حجابا بدلا من النقاب" فالعقوبة هي الضرب العلني!

تمزق المجتمع وانهار.. أصبح نموذجا لما تحدثه الحروب الأهلية والنزاع على الحكم. غاب الرشد والمنطق وغابت الديمقراطية بل.. وغاب الوطن أيضاً.

وتقول مفوضية اللاجئين إن أفغانستان هي النموذج الأكثر بروزا، لكنها ليست النموذج الوحيد، والأسباب معروفة: حروب اقليمية، وحروب اهلية، ونزاعات طائفية وقبلية، وانقسام في الدول لم يشهد العالم مثيلا له!

 

محمود المراغي