شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

عندما سقط القناع

ماذا يحدث عندما يسقط القناع وينقلب الحلفاء إلى أعداء؟ وهل يمكن أن يتم هذا التغيير بين يوم وليلة ليتحول إلى قتال وهزيمة نكراء..!؟

هكذا كان الحال بين والي مصر محمد علي باشا والسلطان محمود الثاني الخليفة العثماني في استانبول. أما لعبة التحول فقد لعبها بذكاء القائد إبراهيم بن محمد علي ليضرب ضربته القوية ضد الجيش العثماني في يونيو 1839، بينما كان هذا الجيش شريكا له في حروب المورة باليونان، ولكنه كان سببا في تدمير أسطوله المصري في واقعة نفارين..!

كان محمد علي يثق ثقة كبيرة في ولده إبراهيم الذي حقق له النصر في جميع الحروب التي خاضها لدعم حكم والده الكبير. لهذا لم يجد ما يمنعه من أن يناقش مع ولده رأيه القائل بأن مصر لم تكسب شيئا من وراء كل مساعداتها للسلطان، وما فقدته من رجال ومال وعتاد، وكان أخطر هذه الخسائر ما ذكره إبراهيم خلال مناقشته مع والده من نتائج تلبيته لدعوة السلطان لمساندته في حرب المورة.

قال إبراهيم لوالده: لقد عاد الجيش المصري من بلاء اليونان وقد أنهكته الحروب والأمراض، وتكبدت مصر في هذه الحملة متاعب ونفقات وضحايا هائلة.

وسأله محمد علي: وما هي تصوراتك للموقف وماذا تجد من حلول؟

قال إبراهيم: لقد ذهبت ومعي من القوات اثنان وأربعون ألفا وعدت ومعي اثنا عشر ألفا فقط، وذهبت وأسطولي يضم إحدى وخمسين سفينة حربية ومائة وستا وأربعين سفينة نقل، وبسبب تصرف أحمق من الأميرال طاهر باشا قائد الأسطول التركي وأنا غائب أقاتل داخل المورة، إذ به يشتبك مع أساطيل الإنجليز والفرنسيين والروس، فكان أن دمروا الأسطول المصري كله، هذا الخطأ منه لا أدري سره، خاصة أني كنت قد طلبت منه عدم التحرش بالأساطيل الدولية المتحالفة باعتبار أن العلاقات بين الدول المتحالفة، وبين تركيا ومصر لم تكن قد قطعت ولا أعلنت الحرب بين الجانبين.

ويسأله محمد علي: وهل كان يعلم باتفاقك مع الحلفاء؟

فأجاب إبراهيم: كان يعلم أني تعهدت لقائد الحلفاء بأننا لن نتحرش بأساطيلهم.

وعاد محمد علي يسأل: وما هي علاقة السلطان محمود بالتجاوز الذي قام به قائده؟

ورد إبراهيم: إن سوء النية والخديعة كامنان في موقف السلطان.. وهو لم يدع فرصة إلا واستغلها لشغل جيوشنا واستنزاف قواتنا، خوفا من أن يكون في عزمكم الاستقلال بمصر..!.

سر مؤامرة السلطان

كان ذلك في الواقع هو الحقيقة. فالسلطان محمود كان يعد مع حكومته ضربة قاصمة ضد محمد علي. وكانت المؤامرات تحاك حوله في العاصمة التركية، ولم يغب عنه أبدا أن السلطان قد ولاه مصر عام 1805 مكرها. وقد حاول في السنة التالية أن ينقله إلى ولاية سالونيك وأرسل موسى باشا حاملا فرمان سيده بتوليته بدلا منه ولاية مصر. كما أنه في عام 1813 اجتذب السلطان إلى صفه لطيف باشا أحد رجال الحكومة المصرية وسلحه بفرمان لتقليده الولاية إذا كللت مساعيه بالنجاح لقلب حكومة محمد علي الذي كشف سر المؤامرة. ولكي يذهب السلطان بعيدا في الكيد لمحمد علي فقد عين خسرو باشا صدرا أعظم وهو العدو اللدود لمحمد علي. ولم تفتر عزيمة السلطان لمحاولة عزل والي مصر.

هذه النوايا السيئة التي كان يضمرها السلطان لمحمد علي أيقظت الحذر بين جوانح الأخير، وجعلته يخطط مع ولده لكي يعلن الاستقلال في الوقت الملائم. ولعله اقتنع تماما حين قال له إبراهيم: "إذا ما ظل السلطان محمود على عرش الاستانة فلن نحقق أهدافنا. فلنحاول جهد طاقتنا أن نزيله عن عرشه، أو نلزمه باستقلال مصر..".

وكان لابد من سبب مباشر لبدء الحرب.

وجاءت اللحظة المرتقبة سريعا على يد عبدالله باشا الجزار والي عكا. فقد راح الجزار يكيل التهم جزافا ضد محمد علي، وأطلق عليه اسم "الثائر الخارج عن طاعة السلطان". وانطلق يطالب رعايا الدولة بان يعلنوها حربا شعواء ضده لنصرة سيده. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير حين أعلن صراحة أنه سيواجه بكل قوة طموح محمد علي، وأنه لن يفي بسداد الديون التي عليه لمصر، ولن يعيد الفلاحين المصريين الذين هاجروا إلى عكا.

وانفتح الباب أمام إبراهيم لتوجيه ضربة تأديبية للجزار..!

نصيبين وهزيمة السلطان

انطلقت الجيوش المصرية في الطريق إلى عكا. وقبل شروع إبراهيم في الهجوم دعا واليها الجزار إلى التسليم فأبى.، وطالت مدة الحصار لمتانة القلعة واستبسال حاميتها حتى اضطر إبراهيم إلى التقدم الخاطف للاستيلاء على الثغور الأخرى في الشام. في ذلك الوقت أصدر السلطان محمود فرمانا في 23 أبريل 1823 بإعلان الحرب رسميا على محمد علي لعصيانه وخروجه عليه، مع تجريده هو وإبراهيم وإباحة دمائهما. وإذ لم يذعن محمد علي للتهديد بادر السلطان إلى إعداد جيش يهاجم به قوات إبراهيم خلال انشغاله في حصار عكا. وواصل إبراهيم تقدمه نحو الشمال وسحق قوات السلطان في عدة معارك. وبعد أن اطمأن لموقفه العسكري عاد ليحمل حملته الأخيرة على عكا. ودافع عبدالله الجزار دفاعا مستميتا عن حصنه المنيع، إلا أن شجاعته لم تغن شيئا وكان لابد له من الاستسلام.

واصل إبراهيم زحفه بعد ذلك ضد جيوش السلطان. وتحقق له النصر في معارك حمص وبيلان وقونية حتى وقعت المعركة الأخيرة في نصيبين المسماة "معركة نزيب" في 23 يونيو 1839. في ذلك اليوم نشط الجيش المصري استعدادا للمعركة الفاصلة. واجتمع إبراهيم بضباطه في خيمته حيث أثنى على ما أبدوه خلال الأيام السابقة، وطلب إليهم أن يحققوا النصر ويرفعوا اسم مصر مثلما رفعوه من قبل. وختم إبراهيم حديثه مع الضباط بقوله: "غدا نلتقي الظهر في خيمة حافظ باشا قائد الجيش التركي حيث نحتسي القهوة"..!.

عند الفجر بدأت المعركة. ولم تمض ساعات حتى كانت الهزيمة قد حلت بجيش السلطان، وهرب حافظ باشا بعد أن وقع الاضطراب في صفوف الجيش العثماني كله. وفي داخل خيمته التي وجدها إبراهيم وكأنها قصر مشيد جلس مع ضباطه يتفحص خزينة حافظ باشا التي تركها بما فيها من آلاف الجنيهات، وبين أوراقه ورسوماته وخططه وجد إبراهيم فرمانا كان سيعين به حافظ باشا واليا على مصر بدلا من محمد علي..! وكانت الخيانة واضحة..!.

بعد نصيبين أصبح إبراهيم باشا سيد الأناضول على الإطلاق، وبات الطريق أمامه مفتوحا إلى الأستانة. وأرسل يستأذن والده في مواصلة الزحف إلى عاصمة السلطان ولكن وصله أمر بالتوقف.. و بينما كان السلطان محمود يتلقى أنباء استسلام جيشه كان هو قد بدأ يستسلم للموت ويلفظ أنفاسه الأخيرة على كرسي السلطنة.

 

سليمان مظهر

 
  




السلطان محمود الثاني