جمال العربية

جمال العربية

أخلاقيون ومتصوفة فى التراث العربى
سطور مضيئة من تراثنا العربى

من بين الرسائل البلغية المنسوبة للعالم والفيلسوف العربى يحيى بن عدى- المتوفى سنة تسعمائة وأربع وثمانين ميلادية- والعروف بأبى زكريا المنطقى والمترجم النصرانى اليعقوبى كتابه " تهذيب الأخلاق " الذى يضم فصولا تنتظم خلاصة خبرته وتجاربه وتأملاته فى أحوال الناس وأوصافهم، ومدى تراوحهم بين الخير والشر فى سلوكهم، وتمسكهم بالقيم والأخلاق والفضائل أو بعدهم عنها. والكتاب سياحة جميلة فى أسرار النفس الإنسانية، وإبحار عميق فى طبائع البشر سجله قلم بارع، قادر على تصريف الكلام، واقتناص المعنى، وصياعة العبارة فى أسلوب بليغ محكم، مما جعل من الكتاب درة نفيسة بين كنوز تراثنا العربى.

وليحيى بن عدى- صاحب هذا الكتاب الجميل- مصنفات عدة، من بينها كتاب: " فى تبيين الفضل بين صناعتى المنطق الفلسفى والنحو العربى ". و كتاب: " فصل صناعة المنطق " وكتاب: " نقض حجج القائلين بأن الأفعال خلق الله وليست اكتسابا للعبد". بالإضافة إلى عدد من الشروح الدقيقة لكتب أرسطو ومقالة الإسكندر فى الفرق بين الجنس والمادة.

ويحيى بن عدى يرى فى كتابه " تهذيب الأخلاق " الذى يعد نموذجا للكتابة الأدبية الفكرية الراقية- فى عصور الازدهار الأولى- أن على الإنسان " أن يعمل فكره، ويميز أخلاقه، منها ما كان مستحسنا جميلا، وينفى منها ما كان مستنكرا قبيحا، ويحمل نفسه على التشبه بالأخيار، ويتجنب كل التجنب عادات الأشرار، فإنه إذا فعل ذلك صار بالإنسانية متحققا، وللرياسة الذاتية مستحقا ".

فأما أنواع الأخلاق وأقسامها وما المستحسن منها وما المستحب اعتياده ويعد فضائل، وما المستقبح منها المكروه، ويعد نقائص ومعايب، فهى الأنواع التى نحن واصفوها.

أما التى تعد فضائل فإن منها: العفة، وهى ضبط النفس عن الشهوات، وقسرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد، ويحفظ صحته فقط. واجتناب السرف والتقصير فى جميع اللذات، وقصد الاعتدال، وأن يكون ما يقتصر عليه من الشهوات على الوجه المستحب المتفق على ارتضائه وفى أوقات الحاجة التى لا غنى عنها، ولا على القدر الذى لا يحتاج إلى أكثر منه، ولا يحرس النفس والقوة أقل منه، وهذه الحالة هى غاية العفة.

ومنها: القناعة، وهى الاختصار على ما سنح من العيش والرضا بما تسهل من المعاش، وترك الحرص على اكتساب الأموال، وطلب المراتب العالية مع الرغبة فى جميع ذلك، وإيثاره والميل إليه، وقهر النفس على ذلك والتقنع باليسير منه.

وهذا الخلق مستحسن من أوساط الناس وأصاغرهم، فأما الملوط والعظماء فليس ذلك مستحتنا منهم، ولا تعد القناعة من فضائلهم.

ومنها: التصون، وهو التحفظ من التبذل. فمن التصون التحفظ من الهزل القبيح، ومخالطة أهله وحضور مجالسه، وضبط اللسان من الفحش وذكر الخنا والمزح والسخف، وخاصة فى المحاف ومجالس المحتشمين، ولا أبهة لمن يسرف فى المزح ويفحش فيه.

ومن التصون أيضا الانقباض من أدنياء الناس وأصاغرهم ومصادفتهم ومجالستهم، والتحرز من المعايش الزرية، واكتساب الأموال من الوجوه الخسيسة، والترفع عن مسألة الحاجات لئام الناس وسفلتهم، والتواضع لمن لا قدر له، والإقلال من البروز من غير حاجة، والتبذل بالجلوس فى الأسواق وقوراع الطرق من غير اضطرار، فإن الإكثار من ذلك مخلق، وأعظم الناس قدرا من ظهر أسمه وخفى شخصه.

ومنها: الوقار، وهو الإمساك عن فضول الكلام والعبث، وكثرة الإشارة والحركة فما يستقنى عن التحرك فيه، وقلة الغضب والإصغاء عند الاستفهام، والتوقف عن الجواب، والتحفظ من التسرع والمباكرة فى جميع الأمور.

ومن قبيل الوقار أيضا: الحياء، وهو غض الطرف والانقباض عن الكلام حشمة للمستحيا من منه. وهذه العادة محمودة ما لم تكن عن عي ولا عجز.

من كنوز الشعر العربى

يزدان ديوان الشعر العربى بتلك الجليات الروحية البديعة التى عبر بها المتصوفة وشعرا الحب الإلهى عن مكنون عواطفهم التى تساموا بها عن النزعات الدنيا فى الإنسان، وبلغوا من خلالها مقامات عليا من التجرد والصفاء والاقتراب من تخوم ذلك الأفق الأسمى الذى تغنوا به وهاموا عشقا ووجدا وفناء.

من بين هؤلاء المبدعين الكبار شهاب الدين عمر السهروردى الذى ولد فى سهرورد فنسب إليها وقرأ كتب الدين والحكمة وأقام فى مراغة وبغداد وحلب، حيث كان مقتله بأمر السلطان صلاح الدين بعد أن نسب إليه البعض- حصدا ومنافسة- فساد المعتقد، ولتوهم صلاح الدين أن السهر وردى يفتن ابنه بالمروق والخروج على الدين، وكان مقتله بقلعة حلب سنة سمتائة وخمس وستين هجرية، مع أنه كان من كبار متصوفة زمانه، ومن أفقه علماء عصره بأمور الدين والفلسفة والمنطق والحكمة، ويمى مذهبه الذى عرف به " حكمة الإشراق ".

يرون أنه قال- وهو يجود بأنفاسه الأخيرة:

قل لأصحاب رأونى ميتا

فبكونى إذ رأونى حزنا

لاتطنونى بأنى ميت

ليس ذا الميت والله أنا

أنا عصفور، وهذا قفصى

طرت عنه، فتحلى رهنا

فأخلعوا الأنفس عن أجسادها

فترون الحق حقا بينا

لاترعكم سكرة الموت، فما

هى إلا بانتقال من هنا

بين الفصحى.. والعامية

لكل من الفصحى واللهجات العامية بلاغته فى التعبير، وقدرته على الإبداع والتصوير. ومنذ أبدع الأندلسى ابن قزمان- أول زجال فى تاريخ الأدب العربى- قصائده الجميلة مازجا بين الفصحى ولهجة أهل البلاد الأندلسيين، والزجل فن قائم بذاته، له أعلامه وتاريخه وإنجازه وصولا إلى عصرنا الحديث.وفى الساحة الشعرية العربية الآن تتجاور قصيدة الفصحى- بتنويعاتها المختلفة- مع القصيدة النبطية فى السعودية ومنطقة الخليج وبادية الشام ومصر والشمال الإقريقى مع قصيدة العامية اللبنانية وقصيدة العامية المصرية مع القصيدة السحانية فى المغرب وموريتانيا والصحراء الكبرى. وتتقارب المسافات بينهام كثيرا وقد تتباعد فى بعض الأحيان، فى ضوء استلهمامها لتراث شعر الفصحى، وعزفها على العاميات واللهجات المشتركة، وتأثير وسائل الاتصال الجماهيرية الواسعة الانتشار العميقة التأثير فى حياة الملايين.

والطريف أن أحمد شوقى الذى بويع بإمارة شعر الفصحى سنة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين- فى مهرجان شعرى عربى تاريخى- لم يكن بعيدا عن الإبداع الشعرى بالعامية. فقد صاغ عدة قصائد للغناء باللهجة العامية، حرص فيها على أن تكون ديباجتها شعرية رفيعة المستوى، وأن تكون معاينها وصورها فى المستوى الذى يليق بأمير الشعر الفصيح.

يقول شوقى فى إحدى هذه المقطوعات الغنائية يصف الورد:

تبارك اللى خلق

واللى كساك الورق

زى القبل، ولفت

ظللك من الخفة

ولفه دى اللفة

شفة على شفة

هذه الصورة الشعرية الجميلة التى يلتقى من خلالها تشبيه اجتماع أوراق الورد بالتقاء الشفاه للتقبيل، التفت إليها شعراء الفصحى من قبل، ومنهم من حام حولها، ومنهم من اقتبس منها معنى آخر.

مما ينسب إلى جارية الرشيد فى وصف الورد:

كأنه فم محبوب، يقبله

فم المحب، وقد أبدى به خجلا

فالصورة الشعرية هى نفسها التى جاء بها شوقى، مع زيادة تعليل حمرة الورد بأنه حمرة الخجل عند التقبيل.

وثمة شاعر قديم يقول:

سبقت إليك من الحدائق وردة

وأتتك قبل أوانها تطفيلا

طمعت بلثمك إذ رأتك، فجمعت

فمها إليك، كطالب تقبيلا

فهذا الشاعر يصور الوردة الغضة فى أكمامها قبل التفتح بأنها تشبه الشفتين فى تجمعهما لالتماس القبلة.

وفى كتاب " ثمرات الأوراق " نطالع قول الشاعر:

عشية حيانى بورد، كأنه

خدود أضيفت بعضهن إلى بعض

وهى صورة شعرية أخرى تنظر للصور الأولى من قريب، وتوسع من مساحة الإبداع الشعرى الذى يتناغم فيه فن كل من الفصحى والعامية.

قل.. ولا تقل

فى كتابات كثير من أساتذة الدراسات اللغوية والباحثين اللغويين محاولات مستمرة للفت الانتباه إلى العديد من الأخطاء الشائعة على الألسنة والأقلام. وجهود دائبة من أجل التصويب والحرص على الفصاحة والسلامة.

من بين هذه الجهود الجادة كتاب الدكتور أحمد مختار عمر- أستاذ الدراسات اللغوية فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة- بعنوان " أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين ". وهو يعطى اهتماما خاصا لأخطاء المشاهير من الأدباء والكتاب وأصحاب الأعمدة والمقالات الثابتة فى الصحف والمجلات. كما أنه يأخذ- فيما يتعلق بالقواعد- بالمشهور الشائع ويتجاوز الخلافات النحوية التى لم تدع مسألة واحدة دون نزاع، ويترك من يشذ عن القاعدة الرئيسية، فضلا عن التوسع فى القياس بالنسبة لكل ما ينمى الثروة اللغوية ويزيد اللغة سعة على سعتها، مع تبنى كثير من الآراء والأصول التى أقرها مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

من بين هذه التصويبات:

هراوات بدلا من هراوات وهراوات

هوية بدلا من هوية

 

فاروق شوشة