طرائف عربية

طرائف عربية

في وصف العشق ومن عشق
لمحة من نظر تكفي

قال بعضهم: رأيت امرأة مستقبلة البيت في غاية الضعف، والنحافة، لو هب عليها الهواء لطار بها، رافعة يديها تدعو، فقلت لها: هل من حاجة يا أختاه؟ أضنتني نحافتك، وأحزنني هزالك، وغلبني الأسى على ما أنت فيه؟ فقالت: اخدمني وناد بقولي:

تزود كـل الـنـاس زادا يقيهـم

ومالي زاد والسلام على نفسي

فناديت كما أمرتني، وإذا بفتى نحيل الجسم قد أقبل إليّ فقال: أنا الزاد، فمضيت به إليها، فما زاد على النظر والبكاء. ثم قالت له انصرف بسلام، فقلت: ما علمت أن لقاءكما يقتصر عـلـى هذا، فقالت أمسك ياهذا أما علمت أن ركوب العار ودخول النار شديد، وأنشدت:

كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني

منه الحياء وخوف الله والحذر

وكم خلوت بمن أهوى فيقنعـني

منه الفكاهة والتأنيس والنظر

وهبة لرجل شريف

اختفى إبراهيم بن المهدي في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت جعفر فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت فريدة زمانها في الحسن والجمال والأدب. عشقها إبراهيم عشقا ملك عليه فؤاده، فكان يراها في الصحو والمنام، ملاكا يرفرف وغادية عند غدير، وحالة للروح وللوجد والهيام، وكره أن يراودها عن نفسها فغنى يوما وهي قائمة على رأسه:

يا غزالا لـي إليه

شافع من مقلتيه

أنا ضيف وجـزا

ء الضيف إحسان إليه

ففهمت الجارية ما أراد، فحكت ذلك لمولاتها فقالت لها اذهبي إليه فأعلميه أني قد وهبتك له، فعادت إليه فلما رآها أعاد البيتين فأكبت عليه. فقال لها كفى، فلست بخائن. فقالت قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسول، فقال أما الآن فنعم. وأنشد المبرد:

ما إن دعاني الهوى لفاحشة

إلا نهاني الحياء والكرم

فلا إلى فاحشة مددت يدي

ولامشت بي لزلة قدم

عتق الرقاب فداء للعاشقين

نذر بعض الخلفاء على نفسه ألا ينشد الشعر، وإن أنشد الشعر فعليه عتق رقبة. قال: كنت أطوف يوما فإذا بشاب يتحدث إلى جميلة. فقلت: اتق الله أفي هذا المكان? فقال لي: يا أمير المؤمنين والله ماذاك لفساد في نفسي ولكنها ابنة عمي وأعز الناس عليّ، وإن أباها منعني من تزوجها لفقري وحاجتي وطلب مني مائة ناقة ومائة دينار من الذهب. قال الخليفة: فطلبت أباها ودفعت إليه واشترطت ألا أقوم من مكاني حتى يتزوجها.

دخل الخليفة إلى بيته وهو يترنم ببيت من الشعر فقالت له جارية من جواريه أراك يا مولاي اليوم تنـشد الشعـر، أفنسيت مانذرت، أم تراك قد هويت، قال: فأنشدت هذه الأبيات:

تقول وليدتـي لما رأتنـي

طربت وكنت قد أسليت حينا

أراك اليوم قد أحدثت عهـدا

وأورثـك الهوى داء دفينا

بحقك هل سمعت لها حديثـا

فشـاقك أو رأيت لها جبينا

فقلت شكا إليّ أخ محـب

كمثل زماننا إذ تعلمينا

وذو الشجو القديم وإن تعـزى

محب حين يلقى العاشقينا

ثم عد الأبيات، فإذا هي خمسة أبيات، فأعتق خمس رقاب. ثم قال الأمير في نفسه: لله درك من خمس، أعتقت خمسا وجمعت بين رأسين في الحلال.

البئر والصندوق

كانت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي زوجة الخليفة الوليد تهوى وتحب وضاح اليمن وشعره، وكانت تستدعيه بين الحين والحين لتسمعه وتطرب منه، وكان وضاح جميلا يفتن النساء. كانت ترسل إليه فيأتيها على عجل، وإذا خافت وارته في صندوق وأقفلت عليه.

دخل خادمها يوما فرأى وضاح عندها ولما خافت وارته الصندوق. عند ذلك أراد الخادم ابتزازها فطلب حجرا كريما منها، وعندما رفضت أخبر الخادم الوليد فقال له: كذبت.

ثم جاء الوليد لأم البنين وهي جالسة تمشط شعرها وكان الخادم قد وصف له الصندوق. قال الوليد لأم البنين: بالله هبي لي هذا الصندوق فقالت: كلها لك يا أمير المؤمنين. فقال أريد ذلك الصندوق الذي أجلس عليه. فأجابته لكن هذا الصندوق به أشيائي وأحتاج إليه في كل وقت. فأجابها: ما أريد سواه. فقالت خذه هو لك، وحلال عليك.

دعا الوليد الخدم فأمرهم فحملوا الصندوق إلى مكان في الصحراء، ثم دعا بعبيد له عجم وأمرهم بحفر بئر في المكان فحفرت حتى نبع ماؤها ثم جاء بالصندوق ووضعه على حافة البئر واقترب منه وقال:

يا من بالصندوق، إنه بلغنا ما يعيب فإن كان حقا فقد دفناك ودفنا ذكرك وسرك إلى آخر الدهر، وإن كان باطلا فإنما دفنا الخشب.

ثم قذف الصندوق إلى البئر وهيل عليه التراب وسويت الأرض.

يقول الراوي:

كم من الشموس طلعت وغربت، ومن الأيام توالت، ومن الليالي انقضت فما رؤى الوضاح بعد ذلك أبدا.

الغريب في الأمر أن أم البنين لم تبصر يوما واحدا في وجه الوليد غضبا أو استياءً حتى فرق الموت بينهما.

فسبحان عارف النفوس، والمطلع على القلوب، والمدرك لأحوال البشر فيما يفعلون ويتصرفون.