في التراث العربي.. مسك وعنبر ولؤلؤ

في التراث العربي.. مسك وعنبر ولؤلؤ

يعرض المسعودي "ت436هـ/975م" في كتابه الشهير "مروج الذهب" لبلاد التبت يتحدث عن ظباء المسك، فيميز بين المسك التبتي والمسك الصيني لسببين:

"السبب الأول أن ظباء التبت ترعى حشائش عالية الجودة ذات رائحة طيبة، بينما ظباء الصين ترعى حشائش أقل جودة وأدنى مرتبة. السبب الثاني: أن أهل التبت يحافظون على المسك معبأً في أوعية، بينما أهل الصين يخرجونه ويغشونه بالدم وغيره من أنواع الغش، وحين يصدرونه بحراً يتعرض للرطوبة واختلاف درجات الحرارة. أما إذا لم يلحق المسك الصيني غش، وأودع في أوانٍ زجاجية أحكم إغلاقها، ثم صدر إلى بلاد الإسلام من عمان وفارس والعراق وغيرها من الأمصار فإنه يكون كالتبت.

ذلك أن المسك إفراز يتكون في وعاء في جسم الظبي هو سرته، فإذا نضج ـ شأنه شأن الثمرة ـ فإنه يضايق الظبي مما يدفعه إلى محاولة التخلص منه "فيفزع حينئذ إلى أحد الصخور والأحجار الحارة من حر الشمس، فيحتك بها مستلذاً بذلك، فينفجر حينئذ ويسيل على تلك الأحجار.. كانفجار الخراج والدمل إذا نضج ما فيه عند ترادف المواد عليه، فيجد لخروجه لذة. فإذا فرغ ما في نافجته "أي سرته" اندمل حينئذ، ثم اندفعت إليه مواد من الدم، ويجتمع كلونها بدءاً. فتخرج رجال التبت يقصدون مراعيها بين تلك الأحجار والجبال، فيجدون الدم قد جف على تلك الصخور والأحجار، وقد أنضجته الطبيعة في حيوانه، وجففته الشمس، وأثر فيه الهواء، فيأخذونه، فذلك أفضل المسك" "أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة ببيروت، لبنان د.ت، مجلدا، ص137"، أما المسك الأقل جودة فهو الذي يحصلون عليه حين تنصب الحبائل والأشراك لظباء المسك فيصطادونها "وربما رموها بالسهام فيصرعونها، فيقطعون عنها نوافجها والدم في سررها حار لم ينضج، وطري لم يدرك، فيكون لرائحته سهوكة "رائحة كريهة" فيبقى زمانا حتى تزول منه تلك الرائحة السهكة الكريهة، ويستحيل بمواد من الهواء فيصير مسكا".

ويشير الجاحظ "159 ـ 255هـ/ 775 ـ 868م" في كتابه "الحيوان" إلى طريقة ثالثة بيْن بيْن للحصول على المسك فيتحدث عن "دويبة "تصغير دابة" تكون في ناحية تبت، تصاد لنوافجها وسررها، فإذا اصطادها صائد عصب سرتها بعصاب شديد، وسرتها مدلاة، فإذا أحكم ذلك ذبحها ـ وما أكثر من يأكلها ـ فإذا ماتت قوّر السرة التي كان قد عصبها لها والفأرة "أي الظبية" حية، ثم دفنها "أي السرة" في الشعير حتى يستحيل ذلك الدم المتحقق هناك، الجامد، بعد موتها، ذكيا، بعد أن كان ذلك الدم لايرام نَتْناً" "أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1938، جـ5، ص301".

وقد أورد الديري "742 ـ 808هـ/1380 ـ 1405م" آراء أخرى في كيفية تكون المسك استنكرها هو كقول القزويني "600 ـ 682هـ/1204 ـ 1283م"" إن دابة المسك تخرج من الماء كالظباء، تخرج في وقت معلوم، والناس يصيدون منها شيئا كثيراً، فتذبح فيوجد في سريرها دم" ويعلق قائلا "وهذا غريب.. والمعروف ما تقدم" "كمال الدين محمد بن موسى الدميري، حياة الحيوان الكبرى، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، جـ2، ط5، 1987، ص7". ثم يستطرد قائلا "وفي مشكل الوسيط لابن اصلاح عن ابن عقيل البغدادي..أنه نقل في كتاب العطر له عن علي بن مهدي الطبري أحد أئمة أصحابنا أنها تلقيها "أي أن ظبية المسك تلقي النافجة، أي وعاء المسك" من جوفها كما تلقي الدجاجة البيضة". ثم يعلن قائلا: "والمشهور أنها ليست مودعة في الظبية بل هي خارجة ملتحمة في سرتها كما تقدم، والله أعلم". "المرجع السابق، ص7".

ويشير الدميري إلى فارة المسك ويقول إنها غير مهموزة لأنها من فار ويفور وهي النافجة "أي وعاء المسك"،ويورد رأي آخرين بأنها مهموزة كفأر الحيوان. من هنا نستطيع فهم قول الجاحظ في كتابه "الحيوان" أن فأرة المسك نوعان، النوع الأول هو ظباء المسك، أما النوع الثاني فيوجد في البيوت "مما يقال له: فأر المسك، وهي جرذان سود ليس عندها إلا تلك الرائحة اللازمة له" "الحيوان، جـ5، ص301".

وقد أشار تراثنا العربي إلى حيوان يشبه السنور البري يسمى سنور الزَّباد Civet Cat أشار إليه الأستاذ عبدالسلام هارون محقق كتاب الحيوان للجاحظ في هامش الجزء الخامس الصفحة 304 وأورد قول صاحب "مباهج الفكر". وهو يقارن بين السنور والزباد: لايغادر شيئا منه إلا أنه أطول خطما "أنفا" وذنبا وجثة. يوجد كثيرا بمقدشيم "مقديشيو" من أعمال الحبشة "عاصمة الصومال الآن"، ويرتعي المراعي الطيبة، ويعلق السنبل الرطب، ويوضع في أقفاص من الحديد، ويلاعب فيسيل الزباد من حلم "أي حلمات جمع حلمة" صغار بين فخذيه، فتمد له ملاعق الفضة أو الذهب، ويؤخذ. وهذا الحيوان لايعيش غالبا إلا بالبلاد الحارة كالحبشة وأطراف الصين، وأجوده الموجود بشمطرة "سومطرة" من أعمال الهند "سابقا". قال صاحب القاموس: وغلط الفقهاء واللغويون في قولهم: الزباد دابة يجلب منها الطيب، وإنما الدابة السنور، والزباد الطيب.

ولما كان المسك أصله دماً فقد اختلف الفقهاء حول مدى نجاسته، لهذا سأل الجاحظ بعض أصحابه المعتزلة رأيهم في تلك القضية، فقيل له "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تطيب بالمسك لما تطيبت. فأما الزباد "مسك السنور" فليس ما يقرب ثيابي منه شيء. قلت له: وكيف يرتضع الجدي من لبن خنزيرة فلا يحرم لحمه؟ قال: لأن ذلك اللبن استحال لحما، وخرج من تلك الطبيعة ومن تلك الصورة، ومن ذلك الاسم. كذلك لحوم الجلالة التي تأكل العذرة "الغائط"، أو تتبع النجاسات، أو التي تأكل الجلة "روث البهائم"، فالمسك غير الدم، والخل غير الخمر "المرجع السابق، صفحتا 304 ـ 305".

ولاينسى الدميري أن يورد في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" بعض خواص الظبي، فمما أورده عن ابن وحشية أن "قرنه ينحت ويبخر به البيت يطرد الهوام، ولأنه يجفف ويطعم للمرأة السلطة تزول سلاطتها، ومرارته تقطر في الأذن الوجعة يزول وجعها، وبعره وجلده يحرقان ويسحقان ويجعلان في طعام الصبي فينشأ ذكيا فصيحا حافظا ذلقا. ومسكه يقوي البصر، وينشف الرطوبات ويقوي القلب والدماغ، ويجلو بياض العين، وينفع من الخفقان، وهو ترياق للسموم، إلا أنه يورث تصفير الوجه. ومن خواص المسك أن استعماله في الطعام يورث البخر" "الدميري، حياة الحيوان الكبرى، جـ2، ص9".

العنبر وخرافات الحيتان

وإذا كان جانب الخرافة قليلا عند الحديث في تراثنا عن المسك ومصادره، فإن جانب الخرافة يتسع عند الحديث عن مصادر العنبر وحجم الحيتان التي كان العرب يعرفون أنها مصدره. ويمكننا أن نورد نصا لأبي زيد حسن السيرافي مؤلف الجزء الثاني من كتاب "أخبار الصين والهند" _"أواخر القرن الثالث أو أوائل القرن الرابع الهجري" كنموذج على مدى معرفة تراثنا العربي بمصادر العنبر وكيفية الحصول عليه. يقول أبوزيد حسن السيرافي "فأما العنبر وما يقع منه إلى سواحل هذا البحر "بحر الهند والصين" فهو شيء تقذفه الأمواج إليه ومبدؤه من بحر الهند. على أنه لايعرف مخرجه غير أن أجوده ما وقع إلى بربر أو حدود بلاد الزنج والشحر وما والاها، وهو البيض المدور الأزرق. ولأهل هذه النواحي نجب "جمال" يركبونها في ليالي القمر ويسيرون بها على سواحلهم قد ريضت "دربت" وعرفت طلب العنبر على الساحل، فإذا رآه النجيب برك بصاحبه فأخذه. ومنه ما يوجد فوق البحر ويزن وزناً كثيراً، وربما كان كهيئة الثور ودونه، فإذا رآه الحوت المعروف بالفال ابتعله، فإذا حصل في جوفه قتله، وطفا الحوت فوق الماء، وله قوم يراعونه في قوارب، قد عرفوا الأوقات التي توجد فيها هذه الحيتان المبتلعة العنبر، فإذا عاينوا منها شيئا اجتذبوه إلى الأرض بكلاليب حديد فيها حبال متينة تنشب في ظهر الحوت فيشقون عنه ويخرجون العنبر منه، فما كان يلي بطن الحوت فهو المند الذي فيه سهوكة، وسمكته موجودة عند العطارين بمدينة السلام "بغداد" والبصرة، وما لم تصل إليه سهوكة الحوت كان نقياً جداً. وهذا الحوت المعروف بالفال ربما عمل من فقار ظهره كراسي يقعد عليها الرجل ويتمكن. وذكروا أنه بقرية من سيراف على عشرة فراسخ تعرف بالتاين بيوت عادية لطاف سقوفها من أضلاع هذا الحوت. وسمعت من يقول إنه وقع في قديم الأيام إلى قرب سيراف منه واحدة، فقصد للنظر إليها فوجد قوما يصعدون إلى ظهرها بسلم لطيف.

والصيادون إذا ظفروا بها "أي الحيتان" طرحوها في الشمس وقطعوا لحمها وحفروا له حفراً يجتمع فيها الودك "الدهن"، ويغرف من عينها إذا أذابته الشمس بالحرارة، ويجمع فيباع على أرباب المراكب، ويخلط بأخلاط لهم يمسح بها مراكب البحر، يسد به خرزها، ويسد أيضا ما ينفتق من خرزها، فيباع ودك هذا الحوت بجملة من المال".

وقد أورد المسعودي روايات مماثلة عن العنبر في مروجه "ص129"وواضح أن القدماء لم يكونوا يعرفون أن العنبر إفراز عضوي من الحيتان ـ مثل اللؤلؤ في الصدف والمسك في الظباء وحصى المرارة في الإنسان والحيوان ـ فهو يتكون في أمعاء نوع من الحيتان الكبيرة التي تعيش في البحار الحارة على الأغلب "حسين فوزي، حديث السندباد القديم، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1943، ص 157". فهذا سليمان التاجر يعتقد أنه "ينبت في قاع البحر نبات، فإذا اشتد هيجان البحر قذفه من قعره مثل الفطر والكمأة".

نزهة الإدريسي

وردّد كلاماً مشابها أكثر من رحالة وجغرافي عربي مثل "الشريف الإدريسي" "492 ـ 599هـ/1100 ـ 1165م" في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، والقزويني في "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات". أما النويري "676 ـ 722هـ/1278 ـ 1322م" في "نهاية الأرب في فنون الأدب" فينقل عن ابن واضح اليعقوبي ـ متفقا مع من سبقوه في اعتقادهم ـ أن كل ما بين الحوت والعنبر من صلة هو أن الحوت يبتلعه مما يؤدي إلى موته ليطفو على سطح البحر فيسحبونه لاستخراج العنبر منه. ثم يستطرد ابن اليعقوبي قائلا: إن جماعة من أهل العلم بالعنبر قالوا له إنه يوجد بجبال نائية في قرار البحر مختلفة الألوان تقتلعه الرياح وشدة اضطراب البحر في الأشتية الشديدة، فلذلك لايكاد يخرج في الصيف. كما ينقل عنه أن العنبر أنواع كثيرة أفضله وأغلاه قيمة العنبر الشحري، وهو ما يقذفه بحر الهند إلى ساحل الشحر من أرض اليمن. وزعموا أنه يخرج من البحر في خلقة البعير أو الصخرة الكبيرة، تقطعه الريح وشدة الموج فترمي به إلى السواحل. وهو يفور ولايدنو منه شيء لشدة حرارته. فإذا ظل أياما وضربه الهواء جمد فتجمعه الناس من السواحل التي يوجد بها. أما إذا أتت السمكة العظيمة التي يقال لها البال فابتعلته، فإنه يفور ولايستقر في جوفها حتى تموت وتطفو ويطرحها البحر إلى الساحل فيشق جوفها ويستخرج ما فيه من العنبر السمكي أو المبلوع. أما إذا طرح البحر قطعة العنبر فأبصرها طائر شبيه بالخطاف ودنا منها وسقط عليها تعلقت بمخالبه ومنقاره فيموت ويبقى منقاره ومخالبه في العنبر، وهو العنبر المناقيري. ثم هناك العنبر الزنجي، والسيلاهطي ثم القاقلي، فالعنبر الهندي، فالمغربي.

ولم تتحدد الصلة الحقيقية بين الحيتان والعنبر حتى منتصف القرن التاسع عشر حين جاء بنت في كتابه "رحلة حول العالم لصيد البلينة" فقال: "العنبر إفراز مرضي في أمعاء البال ـ والبلينة والبال من أسماء الحيتان ـ أصله إما من المعدة أو من قنوات المرارة، وهو شبيه في طبيعته بحصى كيس الصفراء... وما يوجد منه طافيا على وجه البحر هو ما قذف به البال حياً، أو ما تخلص منه ميتا بعد تعفن الجثة".

"حديث السندباد القديم، ص159".

وكان العلماء قد اهتدوا في القرن التاسع عشر إلى أن العنبر يتكون في جوف البال، وذلك حين حللوا تلك المادة فقاربوا بينها وبين الكولسترين، وهو ترسب مرضي، وأن البال يتغذى بالأخطبوطات الكبيرة، ولهذه مناقير قرنية كمناقير الببغاوات، وهذا يفسر وجود بقايا هذه المناقير بداخل بعض قطع العنبر، كما يفسر تكوين العنبر نتيجة تهيج أغشية أمعاء البال بواسطة هذه المناقير، فتترسب حول مركز التهيج مواد كوليسترينية. "المرجع السابق صفحتا "159 ـ 160".

ويفرقون في الإنجليزية بين كلمتين لهما لفظ واحد في العربية: العنبر Amber بمعنى الكهرمان، وهو مادة راتنجية من حفريات أفرزتها أشجار صنوبرية عاشت في عصور جيولوجية قديمة، يتفاوت لونها مابين الأصفر والبني، وهو يصقل لصنع أشياء صغيرة للزينة كحبات العقود وغيرها، وتتخلل هذه الحبات فقاعات هوائية وشظايا خشبية وأوراق أشجار متحجرة، وأنقاها ما كان شفافا. وباحتكاك العنبر مع مواد كالأقمشة والورق يتولد نوع من الكهرباء الإستاتيكية، ومصدره الرئىسي الساحل الألماني ببحر البلطيق.

أما العنبر Ambergris فهو مادة شمعية تفرزها أمعاء نوع ضخم من الحيتان له أسنان يعرف باسم الحوت الإسبرماسيتي، بينما الحيتان الأخرى لاتظهر لها أسنان في فكها إلا أثناء دور التكوين الجيني ثم تتلاشى بعد ذلك وتنبت بدلها في الفك الأعلى ألواح من مادة قرنية. وكان القدماء يستخدمون العنبر في البخور والعطور، أو كمثبت في صناعتها. ولارتفاع سعره حلت محله المثبتات الصناعية الآن.

شاعرية خرافية

أما الحديث عن اللؤلؤ في تراثنا فقد كان جانب الخرافة فيه أكثر شاعرية، ربما بما يتفق واستخدام الإنسان ـ ولاسيما السيدات ـ للؤلؤ كأداة من أدوات الزينة. فهذا أبوزيد حسن السيرافي يقول: إن اللؤلؤ"يبتدئ في مثل قدر الأنجدانة وعلى لونها وفي هيئتها وصغرها وخفتها ورقتها وضعفها فيطير على وجه الماء طيرانا ضعيفا ويسقط على جوانب مراكب الغاصة، ثم يشتد على الأيام ويعظم ويستحجر، فإذا ثقل لزم قعر البحر ويغذو مما الله أعلم به وليس فيه إلا لحمة حمراء كمثل اللسان في أصله ليس لها عظم ولاعصب ولا فيها عرق. وقد اختلفوا في بدء اللؤلؤ فقال قوم: الصدف إذا وقع المطر ظهر على وجه البحر وفتح فاه حتى قطر فيه من المطر فيصير حباً. وقال آخرون إنه يتولد من الصدفة نفسها، وهو أصح الخبرين، لأنه ربما وجد في الصدفة وهو نابت لم ينقلع فيقلع، وهو الذي تسميه تجار البحر اللؤلؤ القلع، والله أعلم ""نيو، أخبار الصين والهند، النص العربي، صفحتا 141 ـ 142".

وجاء في "مروج الذهب" للمسعودي "وقد ذكرنا كيفية تكون اللؤلؤ، وتنازع الناس في تكوينه، ومن ذهب منهم إلى أن ذلك من المطر، ومن ذهب منهم إلى أن ذلك من غير المطر. وصفة صدف اللؤلؤ العتيق منه والحديث الذي يسمى بالمحار والمعروف بالبلبل، واللحم الذي في الصدف والشحم. وهو حيوان يفزع على مافيه من اللؤلؤ والدر خوفا من الغاصة، كخوف المرأة على ولدها. وقد أتينا على ذكر كيفية الغوص، وأن الغاصة لايكادون يتناولون شيئا من اللحمان إلا السمك والتمر، وغيرها من الأقوات، وما يلحقهم. وذكر شق أصول آذانهم لخروج النفس من هناك بدلا من المنخرين، لأن المنخرين يجعل عليهما شيء من الذبل، وهو ظهور السلاحف البحرية التي تتخذ منها الأمشاط، أو من القرن، يضمهما كالمقاص، لا من الخشب. وما يجعل في آذانهم من القطن فيه شيء من الدهن، فيعصر من ذلك الدهن اليسير في قعر الماء فيضيء لهم بذلك في البحر ضياءً بيناً. وما يطلون به أقدامهم وأسواقهم "سيقانهم" من السواد خوفا من بلع دواب البحر إياهم ونفورها من السواد. وصياح الغاصة في قعر البحر كالكلاب، وخرق الصوت الماء فيسمع بعضهم صياح بعض". "المروج، ص128".

ويعلق الدكتور حسين فوزي على نص المسعودي في كتابه "حديث السندباد القديم" فيقول: "ومع أن الواقع يؤيد المسعودي في أغلب ما ذكر فإننا نرى أثراً للأساطير في حكاية شق الغاصة آذانهم لخروج النفس من هناك بدلا من المنخرين. إذ يبدو أن هذا نتيجة فهم خاطئ لما يلتجئ إليه الغواصون من سد فتحة المنخرين. فالغواص لايشهق داخل الماء، ولايملك إلا كتم أنفاسه، ثم هو يبدأ في الزفير عندما لايستطيع لنفسه احتباسا، وفي تلك اللحظة يعطي الإشارة لمن يمسكون الحبل الذي دلي به من سطح الزورق ليجذبوه بسرعة إلى سطح الماء. ومسألة الدهن المضيء جديرة بالبحث عما إذا كان الغواصون استعملوا مواد فسفورية مضيئة. أما حكاية نفور دواب البحر من اللون الأسود فهي ذائعة مشهورة في البحار الجنوبية. والأمواج الصوتية تنتقل في الماء بأسهل مما تنتقل في الهواء، ويعرف ذلك البحريون عندما يقربون أفواههم من سطح الماء فينادون على زملائهم من بعد. ولكني لا أعتقد ـ والكلام لايزال للدكتور حسين فوزي ـ أن يتاح للغواصين الصياح، فالصياح ملزم بالزفير ""حديث السندباد القديم، صفحتا 143 ـ 144".

عجائب البحر

أما الدمشقي "ت727هـ/1327م" في كتابه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر" في فصل عنوانه "وصف الدر واللؤلؤ وكيفية توليده في أصدافه وذات حيوانه" فإنه ينقل عن كتاب ينسبه لأرسطو اسمه "كتاب الأحجار"، فيقول "الدر واللؤلؤ حجر شريف وجوهر ثمين.. وتكوينه.. أن المطر يقع على ساحل البحر الفارسي في فصل الربيع، فيخرج حيوان صغير الجثة من قعر البحر إلى سطحه فيفتح له أذنيه كالسفطين فيلتقف بهما من المطر الواقع في ذلك المكان والأوان قطرات.. فإذا روى ضم عليها ضماً شديداً خوفا عليها أن يختلط بشيء من ماء البحر. ثم ينزل إلى قرار البحر كما كان ويقيم فيه إلى أن ينضج ذلك الماء وينعقد لؤلؤاً كبيراً أو صغيراً، ذلك بحسب صفاء القطرات وكبارها. وقال أرسطو في كتاب الأحجار إن البحر المحيط يهيج في زمن الشتاء، وتضطرب أمواجه فيكون عند اضطرابها رشاش، فيخرج من البحر المتصل به صدف الدر، وداخل الصدف حيوان بحسب الصدف فيلقمه كما يلتقم الرحم النطفة، ثم يذهب إلى المواضع الساكنة في البحر فينغرس في أرضه، ويشرب بعروق له، ويتشعب منه شجر ويصير نباتا بعد أن كان حيوانا، فإذا كان أوان الغوص قطف مثل الثمرة النضيجة، واللؤلؤ ألوان فمنه أصفر مستدير، ومنه أحمر ومنه أخضر ومنه أزرق، وهذه الألوان لملاصقتها لأعضاء الحيوان الذي جاوره، فالذي جاور الطحال صار أحمر، والذي جاور المرارة صار أخضر بحريا. ومن خواصه تفريج القلب وبسط النفس، وتحسين الوجه وإظهار جماله.

والمعروف الآن أن اللؤلؤ يتكون نتيجة نفاذ جسم غريب داخل القباء ـ وهو الغشاء الذي يغطي كالعباءة الحيوان الصدفي الرخو فاصلا بينه وبين أصدافه ـ فيحيطه القباء بمادة صدفية يفرزها في طبقات على شكل هالات. فإذا تكونت من هذه المادة نتوءات لاصقة عرفت باسم اللآلئ الناقصة أو القلع، أما إذا تكونت حبات مستديرة غير متصلة بالصدفة فصغيرها هو اللؤلؤ وكبيرها هو الدر لكن اللآلئ والدرر الغالية لاتتكون غالبا إلا في نوع معين من المحارات اسمه Pintada Margaritifera". "حديث السندباد القديم، ص137".

 

يوسف الشاروني