المرآة المصبوغة دونالد واندري

المرآة المصبوغة

ترجمة: عبدالسلام عيدة

عندما انتقل بابا خيفي إلى مدينة جديدة واستقر بمتجر جديد - كان نيكولا يعرف قبل رؤية المتجر أن ثلاث كرات ذهبية باهتة تتدلى في الخارج على طول الواجهة. مهما يعود بذاكرته إلى الوراء فإن الأمريكان دائما هكذا: سنة هنا، أرباح تجارة ثم رحيل، سنتان هناك، أرباح تجارة ثم رحيل آخر قبل أن يحصل على متجر في مدينة أخرى..

لم يكن هكذا في حياة ماما خيفي التي يحتفظ لها نيكولا من طفولته بذكرى بعيدة غامضة تزداد ضبابية وشحوبا بمرور الزمن. منذ مدة استقروا في نفس المكان حيث وقعت أشياء غريبة ومثيرة.. لكن بعد وفاة ماما خيفي، أصبح متوترا. أخذ معه الطفل نحو الغرب. سنة بعد سنة ينتقلان دائما باتجاه الغرب بينما كانت نظرته الغريبة والمعقدة التعبير تخيف وتزعزع نيكولا، ويزداد صمتا أكثر فأكثر.

كان متجر بابا خيفي، كباقي المتاجر، يعرض مجموعة متنوعة من التحف التي تثير إعجاب نيكولا أياما طويلة : ساعات عجيبة، مصابيح وقناديل ساحرة، بنادق وآلات موسيقية، خواتم وأساور، ميداليات، عملات ورقية ونقود ذهبية أجنبية، أطباق فضية، رسومات جميلة.. مجموعة واسعة من التحف الفريدة، كنز صغير من التحف النادرة.. كان نيكولا ينظر إلى هذه التحف ككنوز اكتشفت مصادفة، كل قطعة منها تحكي عن مغامرات عاشها سكان البلدان البعيدة، فكان يتعلم تاريخه فقط بمشاهدة هذه التحف.كان هذا سهلا كالخيال.

عندما كان بابا خيفي ينهمك في ترتيب محتويات المتجر وتنظيم الواجهة.. كان نيكولا يحمل آخر مكتشفاته ويختفي في الأماكن المعتمة بشكل فريد حيث لا يمكن لأحد أن يميزه عن الأشياء الأخرى المحيطة به.

لم يكن هناك مترددون كثيرون على المتجر. كان بابا خيفي يقابل الزبائن بخشونة وغلظة، يقترح أسعارا مرتفعة ويرفض تخفيضها حتى ولو تعلق الأمر بقطعة ذات قيمة دنيا أو تافهة، وبذلك لم يكن يشجع البيع. وحين يدفع بعض الزبائن الثمن المطلوب بعد فشل مساومتهم، ويأخذون ما اقتنوه، يبقى بابا خيفي متوترا طيلة النهار. لكنه كان يستقبل بترحاب ورقة، كل من يأتون لرهن بعض مقتنياتهم ولو كانت قيمتها تافهة : يقيم القطعة، يتأمل الضحية، يخمن الحاجة التي دفعته إلى قرار كهذا، ثم يمنح مقابلا أكبر من السعر المطلوب.

أحيانا يأتي البوليس للبحث عن الأشياء المسروقة، عندها يصبح بابا خيفي كله ابتسام. وفي كل مرة يبقى نيكولا بعيدا عن أنظارهم. لأن أباه يكره البوليس (لم يعرف أبدا لماذا؟ ) وحينما يغادرون المتجر كان بابا خيفي يدور في مكانه وهو يدمدم. حدث في إحدى هذه المناسبات، عندما سمع وقع خطوات البوليس الموزونة، أن اكتشف نيكولا المرآة. اختبأ خلف المتجر والغرفتين الضيقتين اللتين يعيشان فيهما. عادة كان ينتظر ذهاب البوليس، لكن في هذه المرة تولد لديه انطباع بأن خطواتهم الثقيلة تلاحقه. أسرع جهة الرواق ناسيا أن بابا خيفي لا يترك بابه مفتوحا إلا أنه وجده مفتوحا هذه المرة .. صعد الدورة الأولى من السلم دون أن يغلق الباب خلفه استمع بهلع لوقع الخطوات الثقيلة وهي تبتعد وتموت، بينما قلبه يخفق خفقانا إلى حدود الإنهاك...

عند الدورة الثانية من الدرج توجد نافذة وحيدة، غامر بإطلالة عبر زجاجها المتسخ.. نظف بيده الغبار العالق على الزجاج، لم يميز إلا طابقا أو طابقين لبعض العمارات وصفوفا من الآجر، وفي البعيد تبدو الحافة المنحدرة شاقوليا فوق النهر.. عندما استدار لمح من خلال الضوء الباهت المتسلل عبر النافذة حزما مكدسة مغلفة بأوراق مصغرة تغطي البراميل الموجودة حولها. كما توجد صناديق مملوءة عن آخرها.

إنه عالم جديد يضم العجائب : كتبا مكدسة، إطارات وحقائب، أقمشة متدلية كأغطية المكاتب، صناديق من الحديد الأبيض وأشياء كثيرة من البضائع أمام عينيه.. توجه نحو لفائف من الورق المنمق وصحاف للألوان وفرشاة تيبست عليها كتلة من الأصباغ، وتوجد منضدة عمل عليها أدوات صدئة.

تجول نيكولا عبر أكوام هذا الكنز المختلف عما يعرض في المحل. تطلب منه اكتشاف محتويات هذه الأنبار (Grenier) عدة أسابيع.. محتويات كدسها في هذه البناية كل من ملكها.. أقل بيت عنكبوت (شع) وجده كان ينثني تحت غبار السنوات.

في جانب من أرضية الأنبار ميز نيكولا بين عدة إطارات ومصاريع شيئا مخالفا، ربما صفيحة زجاجية عريضة وثقيلة، أو مرآة. أزاح المصاريع والإطارات وتمكن من استخراج المرآة. قد تكون مرآة متميزة ليتم إخفاؤها هكذا..

عندما رفع آخر إطار انقبض قلبه من الخيبة، فقد كانت طبقة من الطلاء الأسود تغطي مجموع سطح المرآة تذكر أنه رأى في ركن من الأنبار إناء وفرشاة تصلب عليها طلاء من نفس اللون.. إذن فقد كلف شخص ما نفسه عناء طلاء سطح المرآة سابقا وجعل المرآة غير صالحة للاستعمال. لماذا ؟ كان من الأسهل تكسير المرآة.. لماذا تجنب تكسيرها في الوقت الذي ألغى فيه سبب وجودها ؟ ! هناك سر خفي، وهذا يمثل دعوة لبداية مغامرة. عاد نيكولا إلى منضدة العمل وأخذ مقصا ليقوم بإزالة الطلاء عن المرآة.

بعد ساعة من العمل المضني تمكن نيكولا من تنظيف مساحة تعادل مساحة كفيه.. برغم ذلك تابع العمل ساعة أخرى إلى أن تعبت يداه. استولت عليه إثارة غريبة، ذلك أن الأمر يتعلق بمرآة سحرية. انتبه إلى ذلك حينما نظف مساحة تعادل حجم طبق. إنها مرآة كباقي المرايا تعكس صورة، إلا أنها ليست صورة نيكولا أو أي شيء آخر يحيط به. لم يستطع أن يميز شيئا أو أن يحدد الطبيعة الحقيقية للصورة، فليس أمامه سوى منظر خادع لهذا الانعكاس المحبوس.

منهوك بعمله وفي حالة من القلق واللهفة أعاد نيكولا إخفاء المرآة ببعض المصاريع، ثم نزل على أصابع قدميه. حين تهادى إلى سمعه صوت بابا خيفي الغارق في ورعه، شعر ببعض التحسن ولكن دون خلاص. في الأنبار توجد العقدة المعتمة لهذا اللغز أو العين البراقة للثروة بشرط أن يظل باب الأنبار مفتوحا أمامه لاحقا. قضى الليل مضطربا، لم يجد فيه راحة. وفي الصباح كان متمزقا إذ بقي خياله مسكونا بالافتتان الذي أحدثته المرآة دون انقطاع. كان يمشي خلف بابا خيفي الذي أمره فجأة بأن يذهب إلى مكانه، فخرج نيكولا من قاعة العرض وهو متضايق خشية أن يجد باب الأنبار مغلقا.

فتح الباب بسهولة. من البديهي أن بابا خيفي لم يفكر فيه أبدا. بشىء من الحظ وكثير من الاحتياط يمكن لنيكولا الاحتفاظ بالباب مفتوحا لعدة أيام. ليس هناك أي داع يجعل بابا خيفي الآن يستعمل الأنبار مادام قد تفقد كل ما فيه.

المرآة لا تزال حيث تركها، المساحة التي نظفها تعكس نفس النظرة المحيرة كالأمس. تناول المقص وتابع عمله. كانت طبقة الطلاء تزول ببطء كبير فتتناثر ذراتها على الأرض الخشبية وأحيانا تدخل عينيه مسببة له وخزا مؤلما.. لكنه بدأ يتعود على العمل مصمما أكثر على اكتشاف ما تخفيه المرآة السحرية. استطاع أن ينظف مساحة تعادل ثلث المرآة تقريبا..

ظل المشهد غير محدد : تخطيط لمنظر طبيعي مقفر، مدخل، ثقب أو حفرة، سرداب، كهف أو تل يرتفع بشكل عنيد في السهل.. وأطراف هارب أسير يهرب. ماذا؟ بعيدا عن مطارد، عن وحش..؟ نحو ملجأ في الفضاءات الشاسعة التي مازالت تخومها محجوبة بالطلاء الأسود؟

حاول أن يتمثل المشهد كما يمكنه أن يتجسد في مجموعه. تساءل عن رؤية الجزء الذي بقي له أن يصقله ويجليه. وبما أن الأمر يتعلق بمرآة سحرية فإن رد فعلها سوف يكون مخالفا لمرآة عادية. فبدلا من أن تعكس ما يوجد بالقرب منها فهي تعكس أشياء ذات أبعاد كبيرة، وفي هذه الحالة فإن نيكولا لن يعرف تحديد المكان بدقة.. حتى حينما أخذ قسطا من الراحة فإن عقله يبقى متأهبا بعصبية وتوتر تحت تأثير الصورة مهتزا بفعل قواها ومرتعشا بحمى السبق لمعرفة ما تخفيه المرآة.

حين صعد إلى الأنبار للمرة الثالثة، وجد المرآة كما تركها.. عثر على مبرد شحذ به المقص.. أصبح حماسه لاكتشاف سر المرآة لا يسمح بأي تأجيل إضافي. الطلاء يزول دائما كذرات صغيرة ولكن بسرعة أكبر. حدود المنظر الطبيعي المتخيل تتسع، الكهف انفصل كلا عن الصحراء. شعر نيكولا بوميض شاحب انعكس في عينيه من خيال يوجد عند مدخل الكهف.. كشفت المرآة بعد تنظيفها من الطلاء عن صحراء منبسطة، امتداد بلا زرع حيث لا شيء يكسر الرتابة، سواء كان حجرا، كثبانا رملية، أحراشا، جداول أو كائنات. فراغ يمتد بلا نهاية في كل الاتجاهات. فوق كل هذا القفر ينتصب الكهف على شكل حدوة حصان. ينفتح سرداب يبتعد في الفضاء. من باب الكهف يظهر شكل غير محدد باستثناء وجهه الذي يشع بضوء شاحب.

الكائن الصغير يبدو هاربا من الكهف.. يظهر كخيال معدني، كلعبة، كدمية تقريبا، فهي جد بعيدة في أعماق المرآة، عيناها مغمضتان، وجهها يعبر عن رعب، كأنها تفر بغباوة. ماذا؟ أي صدى لخطى سريعة ينبعث من هذا الدهليز الطويل، قد سبب كل هذا الهلع للطفل / الطفلة، الدمية، إلى حدود أن تحتفظ بعينيها مغمضتين؟

حدق نيكولا في المشهد لعدة ساعات مسحورا بوهم الفضاء ذي الأبعاد الثلاثة للمرآة.. شعر بأنه عاجز عن طرد الصورة من ذهنه، لأنها ظلت تسكنه وتشغله طوال ساعات سهاده، واستمرت في أحلامه حية قوية..

الدمية البعيدة تحدق فيه بقوة. استولى عليه دوار غريب، كما تعصف هبة ريح بالأشياء المألوفة. فجأة تيقن أن المرآة لا تعكس مشهدا لجانب بعيد من الأرض، ولكنها تملك عالما باطنا جوهريا خاصا. الإشعاع الشاحب اللا طبيعي يغطي المنظر الجوي والدمية بضوء صادر عن نجم يومي يتابع سباقه في سماء هذا العالم الداخلي ما وراء إطار المرآة. تحت هذا الإشعاع تكتسب حدقتا الدمية لمعانا باهرا ممغنطا وترسل خطابا غير مسموع عبر الفضاءات. خطاب ؟ أي خطاب ؟ حدق نيكولا في المشهد الصامت اللامتناهي.. علامات الرعب ترتسم على وجهها، وفي شحوب خديها وشفتيها المنفرجتين ولهاثها المتشنج.. لكن الأمل (لا شيء أكثر من نجاتها) عاد إليها عندما لمحت نيكولا.

أحس بوخز كهربائي يسري في جسده، دورة، دورة، ساخنا حارقا ثم باردا مثلجا. لم يعد قادرا إلا على المشاهدة وكله وهن، مرغما على الانتظار بسبب الحاجز الذي يفصل بين عالميهما. حجاب لا يقدر لا هذا ولا ذاك على تمزيقه أو اختراقه لكن الأمل في لقائهما يبقى قائما إذا ما لعب الزمن لصالحهما.

طوال الأيام التي قضاها في تنظيف المرآة، لاحظ أن الدمية لم تقترب إلا بخطوة واحدة كي تفتح عينيها. عالم يتحرك ببطء بالمقارنة مع عالم نيكولا. تبدو كأيقونة رائعة لعبة مذهبة تملك جمالا خطيرا. لاحظ نيكولا أنها برزت من الكهف كليا. وعندما استدار وجد ظلال المساء قد غمرت الأنبار. مضى النهار وهي قد تقدمت دون أن يعي ذلك. تساءل : أي ذهول وإعجاب تملك عقله؟ لكنه الآن لا يستطيع أن يخلص نفسه من سلطانه ونفوذه.

نظر من جديد إلى المرآة، وبرغم العتمة التي تغرق الأنبار فإن ضوءا شبحيا أثيريا يشع من الصغيرة. ارتعد نيكولا وسرت في جسمه قشعريرة مثيرة. زال كل خوف عن وجه الدمية المذهبة (تقريبا برونز مذهب تحت هذا اللمعان الذي يتعذر لمسه).

أميرة الأجواء بجسدها الممشوق المقولب بإحكام أكثر من الشكل الذي فتنه وسحره.. تأتي نحوه متناسية الهلع الذي تملكها داخل الأعماق المظلمة.

نزل الدرج في حالة أقرب إلى الغيبوبة، وكل باله مشغول بالأسيرة البرونزية المذهبة. الجمال المنحوت لصورة الهاربة المذهبة. يأسره ويعذبه يهيجه ويرديه بلا مقاومة.

لم يستطع أن ينام، سمع نداء أو صوتا يشبه رنين جرس يأتي من الأنبار.. همس الفتاة الشفاف. بقي في شبه هلع من أن تهرب خلال الليل وتضيع تاركة له الأثر الخفي لرعبها في شق طريق خارج النفق.

توتره المحموم وشعوره بهذه العقدة جعلاه يتصور أن الليل لن ينتهي، ولهفة الانتظار غذت في أعماقه نارا، كشمس خفية لا يترك شعاعها لديه أي سلام لا يسمح بأي ملجأ مريح للنوم.

صعد مرة أخرى إلى الأنبار على أطراف أصابعه، كانت أذناه تحاولان التقاط أي صوت ينبعث من الأعلى : انكسار زجاج، رنين بلوري شفاف، وقع أقدام خفية.. إلا أن الصمت ازداد، بغرابة، أكثر عمقا، إلى حدود تخيل له معها أنه سمع خوارا، نتيجة التوتر الذي كان يسيطر عليه وهو يجهد نفسه ليرى شيئا.

هل هو تدفق الدم في عروقه الناتج عن تسلق الأدراج بعنف؟

عندما وصل إلى الأعلى انتهت كل الاحتمالات. فيض الإشعاعات الشبيه بضوء القمر المنعكس على فضة صافية، ينبعث من المرآة. الأسيرة البرونزية المذهبة أصبحت هائلة بقامة كهل، هائلة بالمقارنة مع الصحراء اللامتناهية خلفها. تبدو على حدود اختراق جوانب المرآة. عيناها تدعوانه، وذراعاها تمتدان نحوه توسلا في الهرب.

تقدم نيكولا نحو المرآة مادا ذراعيه لتلتقيا بذراعيها، فانحلتا وامتزجتا، وبقوة عظيمة وجد نفسه مسحوبا إلى الأمام رأسه الأول ثم رجلاه وكانه قذف بمنجنيق، ثم تأرجح بطريقة خارقة غير طبيعية.

أحس بأنه متصلب، متجمد وعاجز عن الخروج من بحر من الزجاج الصلب. بعيدا في الجانب الآخر من المرآة خلف الحاجز البلوري الذي يسجنه داخل عالم لا بداية له، رأى جسده الشرعي، نيكولا، يتفحص هذا الشخص الغريب الذي تحول إليه هذا الخيال المشع لكائن المرآة. خلفه يتفتح السرداب والرعب الكامن فيه.

ارتسمت ابتسامة شيطانية على محيا نيكولا البعيد. تراجع لكي يعود حاملا الطلاء الأسود والفرشاة، وبدأ يغطي وجه المرآة خطا خطا.

حاول أن يحرك جسده الغريب، أن يصيح، أن يحفر طريقا عبر الحاجز الزجاجي.. لكن دون طائل.

لقد وقع في الفخ. الليل يجتاح الأنبار المعتم. إلى الأبد سيبقى سجين هذا التمثال البرونزي المذهب الصغير. نظرته اليائسة تراقب نيكولا البعيد : بصيص سعادة مشبوبة تترنح في عينيه وهويكمل حجب وجه المرآة بالطلاء الأسود.

لقد أصبح ومع الأسف أسير عالم مظلم صامت لا حدود له، وساكن إلى الأبد.

 

دونالد واندري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات