متحف لتاريخ التصوير والتجسس فضل سالم

متحف لتاريخ التصوير والتجسس

وفي أحد أحياء مدينة بوسطن الأمريكية يعيش رجل في العقد الثالث من عمره، يعشق البحث في زاوية معينة من زوايا التاريخ، هي زاوية التصوير وآلاته وأدواته.. ومن أجل ذلك، يخصص كل وقته وماله للسفر حول العالم بحثا عن جديد يضيفه إلى مجموعته التي تعتبر أضخم مجموعة من نوعها في العالم كله.

في البداية، كان المهندس الميكانيكي الشاب ثورمان نايلور، يهوى التصوير، وفي أو اخر الأربعينيات عثر بالمصادفة على مجموعة من آلات التصوير القديمة فاشتراها بنصف دولار للواحدة، ويقول عن تلك الحادثة : كنت أريد أن أعرف السبب وراء جودة الصور لدى بعض هذه الآلات، وعدم جودتها لدى الأنواع الأخرى. وبعد البحث والتقصي اكتشف المهندس الشاب أن بعض الكاميرات، تختلف فيما بينها بطريقة لافتة للنظر، وأحيانا بطريقة غريبة نادرا ما يستطيع المرء اكتشافها، ما لم يكن متخصصا في صناعة آلات التصوير أو صيانتها.

وحتى يتمكن من إشباع هوايته الجديدة، راح نايلور يشتري الكاميرات القديمة المختلفة الأنواع والأشكال بمعدل خمس إلى عشر كاميرات كل سنة.

ولحسن الحظ يعمل هذا المهندس في مطلع الستينيات مع شركة كبيرة لها فروع في العديد من دول العالم، وكان عمله يتطلب منه السفر إلى هذه الدول، فسنحت له الفرصة للتعرف على أسواق جديدة، يمكنه فيها الحصول على أنواع أخرى من الكاميرات القديمة يقول: كثيرا ما كنت أسافر وبحوزتي حقيبة واحدة وأعود إلى بوسطن وأنا أحمل حقيبتين، وربما ثلاثا أو أكثر بعد أن أكون قد ملأتها بالكاميرات وأدوات التصوير المختلفة والمستخدمة على مر السنين ويضيف قائلا : إنه يشتري الكاميرات، مهما كان شكلها أو عمرها، فلكل كاميرا مكانها في تاريخ التصوير، ولكل كاميرا مكانها أيضا في "متحف نايلور للتصوير" القائم على أرض مساحتها أربعة آلاف قدم مربع، وهو متحف مكيف الهواء ويخضع لحراسة إلكترونية مشددة على مدار الساعة.

6600 كاميرا

عن مجموعته، يقول المهندس المتقاعد ثورمان نايلور، إنها تضم الآن ستة آلاف وستمائة كاميرا، وعدة آلاف من الصور النادرة، ومثل هذا العدد من كتب التصوير والرسائل المتبادلة بين المشاهير في عالم التصوير.

وللوهلة الأولى، لا يستطيع الزائر لهذا المتحف أن يمنع نفسه من الدهشة التي ستغمره حتما وهو يرى أكبر متحف من نوعه في العالم.. كاميرات من كل الأحجام والأنواع والأشكال.. كاميرات تملأ الرفوف الزجاجية الأنيقة التي تغطي الجدران من الأرض إلى السقف، وكأنها لوحات من نوع خاص جدا، يستحيل العثور على مثيل لها في أي مكان آخر.

وعلى الأرض تستريح بهدوء كاميرا ضخمة، ربما تكون الأثقل من نوعها في العالم، إذ يبلغ وزنها ثلاثمائة وعشرين كيلوجراما، وهي مزودة بثلاث عدسات صنعت خصيصا لالتقاط صور متعددة في وقت واحد لانفجار أول قنبلة هيدروجينية صنعتها الولايات المتحدة. وبالقرب منها، توجد إحدى الكاميرات التي كانت على متن طائرة التجسس الأمريكية "يو- 2" التي أسقطها الاتحاد السوفييتي "السابق" فوق أراضيه في الستينيات من هذا القرن وأسر قائدها.

وإلى جانب تلك الكاميرا، توجد عدة صور واضحة جدا من الصور التجسسية التي التقطتها هذه الكاميرا من ارتفاع واحد وعشرين كيلومترا، وهي من الوضوح بحيث تظهر كل التفاصيل على الأرض، حتى تلك التي لا يزيد طولها على عشرة سنتيمترات فقط.

وفي كل مكان من هذا المتحف المتميز، تنتصب الكاميرات المحمولة، وكأنها تماثيل تحدق في الزائرين وتحكي لهم بعضا من أحداث الماضي.. وفي كل زاوية تقريبا، توجد كاميرا أو أكثر مما استخدمها مشاهير المصورين أو مشاهير الشخصيات السياسية المعروفة في العالم. وكما يقول " نايلور" فليست كل الكاميرات التي بحوزته، تحتل مكانا بارزا في تاريخ التصوير، فبعضها لا يزال جزءا من أسرار وغوامض عالم الجاسوسية العجيب.. ففوق أحد الرفوف الزجاجية توجد مجموعة غير عادية من الكاميرات الصغيرة، ذات ألوان مختلفة، وكأنها لعب أطفال.. وحين نطلب مزيدا من المعلومات عن هذه الكاميرات يقول "نايلور" إنها أرسلت سرا إلى بريطانيا سنة 1936م داخل علب الحلوى وذلك لاستخدامها في حفل تتويج الملك إدوارد الثامن.. والمجموعة مؤلفة من خمس كاميرات.

كاميرا الحمام الزاجل

من بين الكاميرات النادرة التي يضمها هذا المتحف، كاميرا صنعها الألمان النازيون واستخدموها بنجاح في التجسس على الفرنسيين.

وقد صممت هذه الكاميرا بحيث تثبت على بطن حمامة زاجلة، بواسطة "زنبرك" معدني صغير جدا، ليتم التقاط الصور بتوقيت زمني متتابع، وبعد عودة الحمامة، يتم تحميض الفيلم وتجميع الصور إلى جانب بعضها البعض بحيث تتكون صورة كبيرة شاملة للمنطقة التي تم تصويرها من الجو. ويقول "نايلور" إنه ظل خمسة عشرة سنة يحاول الحصول على كاميرا من هذا النوع، إلى أن نجح أخيرا في مسعاه، فحصل على واحدة يعتقد أنها الوحيدة الموجودة في العالم كله، بعد أن تحطمت الكاميرات الأخرى، إذ إن الفرنسيين اكتشفوا الخدعة الألمانية فكلفوا جنودهم بإسقاط أية حمامة تحلق فوق مناطق وجودهم.

ويضيف قائلا إنه في سبيل البحث عن الكاميرات القديمة، يجوب دول العالم والأسواق القديمة والمزادات.. وحتى الأسواق الشعبية.

ويقول إن ألمانيا تشهد المزيد من المزادات.. العلنية حيث تباع الأشياء القديمة، خاصة ما يتعلق منها بالتصوير، وبما أنني لا أعرف الألمانية... فإذا رغبت في الحصول على شيء معروض، رفعت يدي.. وأبقيها مرفوعة إلى أن أحصل على ما أريد.

التصوير والتجسس

وعما تعلمه من مجموعته النادرة، يقول هذا المهندس المتقاعد إن التصوير بدأ في مطلع القرن التاسع عشر، حيث كانت الكاميرات عبارة عن "غرفة مظلمة تمشي على عجلات" ومع الأيام، بدأت أحجام الكاميرات تتناقص.. والغريب كما يقول " نايلور" أن الناس ربطوا بين التصوير والتجسس منذ بداية عهدهم التصوير.

التجسس هنا لا يعني بالضرورة أنه تجسس عسكري... فبعض الرجال مثلا خاصة الأغنياء، كانوا يحرصون على تصوير النساء الجميلات اللائي يصادفونهن في الشوارع.

صناعة التصوير في تصغير حجم الكاميرات إلى أن تم صنع كاميرات تثبت على القبعة، أو على ربطة العنق... بل وحتى في كيس المياه الساخنة.

ويقول إن مجموعته تضم كاميرا صنعت سنة 1886 بحجم زر القميص يتم تثبيتها على الصدر، فإذا أراد صاحبها استخدامها، فما عليه إلا أن يأخذ نفسا عميقا، من حركة الصدر يتم التقاط الصورة المطلوبة، وهكذا إذا ما أريد التقاط صور أخرى دون أن يلحظ أحد شيئا غير عادي.

وبالطبع فإن بعض النماذج تدل على ذكاء أكثر، أو أقل من النماذج الأخرى، فعلى سبيل المثال، يوجد في هذا المتحف غير العادي كاميرا صنعها اليابانيون في منتصف الخمسينيات اسمها "دوريو-2" وهي على شكل مسدس عيار 28 ملم، يتم التقاط الصور بها فور الضغط على الزناد.. والغريب أن هذا المسدس مزود بكاتم للصوت حتى لا يسمع أحد صوت فتح العدسة وإغلاقها وقت التصوير.

ويقول " نايلور" إنه واجه مشكلات جمة في ايصال هذه الكاميرا إلى الولايات المتحدة. فما أن هم بركوب الطائرة في ألمانيا حيث اشتراها، حتى صاحت الموظفة المسئولة عن تفتيش الحقائب إلكترونيا : "مسدس.. مسدس" وخلال لحظات تجمع عشرات من رجال الأمن حوله ولم يتركوه إلا بعد تحقيقات موسعة تأكدوا فيها من أقواله، ومع ذلك، سلموا الكاميرا - المسدس إلى قائد الطائرة على أن يعيدها إلى صاحبها بعد الوصول إلى مطار بوسطن.

وعلى الرغم من أن الكاميرا - المسدس اليابانية أثبتت أنها غير عملية بالمرة.. فعلى الرفوف الزجاجية في المتحف، مئات الأنواع من الكاميرات الصغيرة الحجم، مما يمكن استخدامه لأغراض التجسس، فمعظمها يمكن إغلاق راحة اليد حوله إذ إن هناك كاميرات على شكل علب كبريت وولاعات وعلب سجائر وأقلام حبر وخواتم وساعات.

ومن بين هذه الكاميرات واحدة على شكل علبة سجائر ذات ماركة إنجليزية معروفة ويستحيل على أي شخص التمييز بين هذه الكاميرا، وأي علبة سجائر عادية، بل إن علبة السجائر المزيفة، تحتوي فعلا على سيجارتين عاديتين " للتضييف " إذا ما تعرض الجاسوس لضيف غير متوقع ويريد سيجارة.

ويقول المهندس المتقاعد إن هذه الكاميرا النادرة استخدمها الجواسيس السوفييت العاملون في بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وقد كلفه الحصول على واحدة منها ألفين من الدولارات، وذلك لندرة هذا النوع من الكاميرات السوفييتية في الدول الغربية، ومن المحتمل أن تكون هذه الكاميرا هي الوحيدة من نوعها في إحدى الدول الغربية الآن، كما يقول.

جبن فاخر لفأر جائع

عن أكثر التجارب غرابة في حياته يقول ثورمان نايلور إنه سمع عن سيدة ترغب في بيع منزلها القديم الذي لا يبعد سوى خمسة كيلومترات عن منزله، وعندما ذهب إلى هناك لاستطلاع الأمر، عرف بطريق المصادفة أن السيدة ورثت هذا المنزل عن والد جدها الذي كان مصورا محترفا ما بين عامي 1848 و 1862 ..وما إن شاهدته السيدة حتى سألته عن المبلغ الذي يريده لتخليصها من الأغراض القديمة الموجودة في مستودع البيت، فدخل إلى المستودع ليشاهد أكواما من الكاميرات القديمة.

يقول عن ذلك العرض إنه أشبه ما يكون بتقديم جبن فاخر لفأر جائع خارج المصيدة.. " لم أكن أحلم بشيء كهذا من قبل"

تطلب الأمر منه العمل في المستودع القديم لمدة أسبوع، تمكن خلاله من تنظيف أجزاء من الكاميرات القديمة.. وفي النهاية نجح في تجميع سبع كاميرات، وبقيت اثنتان تحتاجان إلى بعض القطع التي يستحيل العثور عليها في أي مكان من العالم.

يقول إنه دفع للسيدة ثمن الكاميرات السبع، لكنه رفض الكشف عن المبلغ الذي دفعه لها، بعد أن كانت مستعدة للدفع لأي شخص يخلصها مما يعطل بيع المنزل، ويقلل من قيمته، حسب قولها.

من الكاميرات الموجودة أيضا، واحدة تصور باتجاه خلفي.. فإذا أراد مستخدمها تصوير أي شيء، فإنه يصوبها بالاتجاه الآخر فتلتقط صورة للأشياء خلفها، وليس للأشياء التي أمامها كما هو الحال مع الكاميرات العادية.

كذلك توجد كاميرا تستخدم عدسة بزاوية 180 درجة، فيستطيع حاملها التقاط صور للأشخاص أو الأشياء الموجودة على يمينه أو شماله من دون أن يلحظ أحد حقيقة ما يفعل.

وهناك كاميرا يمكن إخفاؤها في علبة ماكياج السيدات، وأخرى على شكل منظار مكبر، وثالثة مزودة بتسع عدسات لالتقاط تسع صور للشيء الواحد من زوايا مختلفة.

إنه بالفعل متحف نادر لا يكاد يوجد له مثيل في العالم كله، والمهم أنه جهد فردي لشخص يعشق التصوير، ويمتلك القدرة المالية لإشباع هوايته وإعطائها حقها من الاهتمام والرعاية.

 

فضل سالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




كاميرا مزودة بتسع عدساتصورة بانورامية للقاعة الرئيسية في المتحف الذي يضم ستة آلاف وستمائة كاميرا





كاميرا مزودة بتسع عدسات بزوايا مختلفة (1870).





كاميرا ساعة جيب صممها وليام ديكسون





كاميرا ولاعة (اليابان 1950)





كاميرا- قلم (اليابان 1953)





كاميرا على شكل ساعة صنعها الألمان





كاميرا الحمام الزاجل





كاميرا مخفية في علبة ماكياج نسائية.





منظار مكبر.. وكاميرا في وقت واحد (اليابان 1950)..





كاميرا





كاميرا تلتقط 18 صورة