حالة ما بين الحياة والموت محمد طه الجاسر

حالة ما بين الحياة والموت

يبدو أنه لا يكفي أن يوضع تعريف للموت، وإنما هنالك حاجة لوضع تعريف للحياة، فمن لم يكن ميتا ليس بالضرورة أن يكون حيا وإنها لمعضلة طبية وإنسانية أيضا. ثمة راقدون بين الحياة والموت ليس لهم من علامات الحياة إلا حركات تشنجية للجفن وتقلصات موهنة لعضلات الوجه إثر تنبيه آلي أو كهربائي، هذا ويتلقون دعما مستمرا للتنفس ومتقطعا للقلب، والعناية المعروفة لأمثالهم. ومن مفارقات القدر أن هنالك أناسا يدفنون أحياء.. فحين قررت بلدية (معرة المصري) إحدى بلدات محافظة أدلب السورية إنشاء مقبرة جديدة خارج البلدة، وطلبت إلى الأهالي نقل رفات موتاهم إليها من المقبرة القديمة، فوجئت عائلة بالجدة جالسة القرفصاء!

موت الدماغ

لقد قيل قديما، أفي الموت شك ؟ واليوم أصبحت هذه المقولة بمعناها المادي غير ذات موضوع. ففي الماضي كان توقف القلب كافيا لتشخيص الوفاة. إلا أن التقدم الصارخ في الإنعاش القلبي - الرئوي الذي أضيف إليه أخيرا إنعاش الدماغ، جعل في الإمكان إعادة معظم حالات توقف القلب إلى سابق نشاطه، كما أنه أصبح في الإمكان إنقاذ الدماغ بترتيبات علاجية معينة، تطبق في غضون فترة محددة. ولقد رافق هذا التطور في الإنعاش، تقدم في نقل وزرع الأعضاء. فلقد أصبح ممكنا اليوم نقل العديد من الأعضاء كالقلب والكليتين والكبد ونقي العظام، ويستثنى من ذلك نقل الدماغ الذي مازال متعذرا، مما أثار المخاوف من أن تسبب اللهفة على الحصول على أحد الأعضاء، الاستعجال في إعلان وفاة من لم يمت بعد. كل ذلك كان الدافع للجمعية الدولية لزرع الأعضاء لتصدر قرارها الشهير الذي أصبح راسخا ومعتمدا في معظم المراكز الطبية، وهو: أن تشخيص الوفاة إنما يوضع على أساس موت الدماغ. ولكن، هل من السهل تشخيص موت الدماغ ؟، وأية بقعة فيه هي المستهدفة؟. وهل من الضروري موت الدماغ بأكمله لتشخيص الوفاة؟. للإجابة عن هذه الأسئلة، وضعت تعاريف عديدة، ومعايير متباينة أثارت الكثير من الجدل، مما حمل الرئيس الأمريكي على إحالة الموضوع إلى (لجنة الرئيس لدراسة المشاكل الأخلاقية في الطب) التي عرفت الموت على أحد الأساسين التاليين :

1 - توقف غير قابل للارتداد لكل من الوظيفتين التنفسية والدورانية. أو :

2 - توقف غير قابل للارتداد لجميع فعاليات الدماغ بأكمله بما في ذلك الدماغ الأوسط.

أما تشخيص توقف الوظيفة التنفسية والدورانية توقفا غير قابل للارتداد، فهو ضمن الإمكان بفضل ما يتوافر اليوم من أجهزة ومعدات، وأما تشخيص موت الدماغ، فما في أيدينا من وسائل، تقصر عن تحقيق ذلك يقينا على الصعيد العملي. واقتضى الأمر المزيد من الدراسات لوضع معايير ثابتة لتشخيص موت الدماغ، أشهرها ما تبنته كل من هيئة المستشفى العام في ولاية ماساشوستس و" لجنة هارفارد " في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يقوم على أساس : (أن موت الدماغ إنما يحدث حينما تنعدم جميع علامات الاستقبال والاستجابة، بما في ذلك منعكسات الدماغ الأوسط (تفاعل الحدقتين، وحركة كرة العين، ومنعكسات الجفن والبلع والتنفس) شريطة أن يكون مخطط الدماغ ساكنا خاليا من أية فعالية. وبما أن هنالك بعض حالات التسمم الدوائية التي تترافق بمخطط صامت، فقد اشترط أن يوضع تشخيص موت الدماغ من قبل لجنة تضم ثلاثة أطباء من اختصاصات الجراحة العصبية والداخلية - القلبية والتخدير، وأن يكونوا من ذوي الخبرة والمعرفة، وألا يكون لهم علاقة بنقل وزرع الأعضاء، وأن يتخذوا قرارهم في إطار المفاهيم التالية الأكثر قبولا في مختلف أنحاء العالم :

1 - تشخيص موت الدماغ على أساس تعريف لجنة الرئيس المذكورة آنفا، يجب أن يؤكد من قبل طبيب آخر بالاستناد إلى فحص سريري ومخطط الدماغ، على أن يجري تكرار تلك الفحوص مرة ثانية أو أكثر.

2 - يجب إعلام العائلة عن استحالة عودة الوظيفة الدماغية، كما يجب أن يطلب منها الموافقة على قرار إيقاف المعالجة الطبية. يستثنى من ذلك منح صلاحية محدودة في صنع القرار لذوي مريض كان قد أوصى بالرجوع إلى شخص معين منهم في اتخاذ القرار النهائي.

3 - للطبيب المعالج أن يقوم - بعد استشارة زملائه من المختصين - بوقف جميع التدابير الداعمة، على أساس أنه لم يعد هنالك ما يمكن عمله للمريض.

4 - يجب ألا يؤخذ بعين الاعتبار - أثناء اتخاذ مثل هذا القرار - احتمالات الاستفادة من أعضاء هؤلاء المرضى لنقلها لغيرهم. كما أنه يمكن وقبل إيقاف فعالية القلب، التوجه بالسؤال إلى عائلة المريض فيما إذا كانوا يرغبون بذلك فضلا عن أن بعض العائلات قد تقترح الاستفادة من أعضاء مرضاهم لهذا الغرض.

إنهم يدفنون أحياء

والآن بعد كل ما تقدم، ما النتيجة الناجمة عن ذلك التعريف وتلك المعايير؟ وكم ممن يشتبه بوفاتهم يحصلون على هذا القدر من الدقة والحرص في تشخيص الوفاة ؟ النتيجة غير مشجعة إطلاقا، فنحن الآن في حال ضياع شامل وما تقدم ذكره من عناية وتعامل لا يقدم إلا لمن كتب له الوصول إلى مستشفى متطور. إن شروط تشخيص الموت المقررة لا تطبق إلا على عدد ضئيل من ضحايا حوادث الطرق والكوارث والحروب أو الإصابات المفاجئة التي أدت إلى توقف قلب مرضى أمكن إنعاشهم بصورة متأخرة.. فماذا عن بقية البشر؟ إننا نعلم أن تشخيص الوفاة في مختلف بقاع العالم، وخاصة في الدول النامية، قد يوضع من قبل الأهل أو من قبل طبيب العائلة أو أي طبيب عام، ويقترب الطبيب نحو من اشتبه بوفاته، مترددا وجلا، وغالبا ما يكتفي بجس نبضه أو الإصغاء إلى قلبه، وسرعان ما يحرر تقرير الوفاة والترخيص بالدفن، والنتيجة أعداد من البشر يدفنون أحياء... وتلك ظاهرة تشاهد في كل مكان وزمان. فليس من النادر جدا أن تسمع أصوات استغاثة من أحد القبور عقب الدفن. ولقد سجلت حادثة في إحدى مقابر حلب منذ فترة، ولدى فتح القبر وجد من ظن ميتا جالسا القرفصاء، وقد قضى خنقا. والتاريخ يذكر أن (ابن جميع) وهو أحد أطباء صلاح الدين الأيوبي، كان جالسا في دكان وقد مرت عليه جنازة، فلما نظر إليها صاح بأهل الميت : إن صاحبكم لم يمت ولا يحل أن تدفنوه حيا.. فقال بعضهم لبعض : هذا الذي يقوله لا يضرنا ويتعين أن نمتحنه، فإن كان حيا فهو المراد، وإن لم يكن حيا فما يتغير علينا شيء. فاستدعوه إليهم، وقالوا: بين لنا ما قلت. فأمرهم بالعودة إلى البيت، وأن ينزعوا أكفانه.. فلما فرغوا من ذلك أدخله الحمام وسكب عليه الماء الحار مظهرا فيه أدنى حس أو تحرك حركة خفيفة، فقال أبشروا بعافيته، ثم أتم علاجه إلى أن أفاق وصحا. ثم إنه سئل عن ذلك ومن أين علم أن في ذلك الميت بقية روح وهو في الأكفان محمول، فقال : "نظرت إلى قدميه فوجدتهما قائمتين، وأقدام الموتى منبسطة، فحدست أنه حي، وكان حدسي صائبا." وفي معرض تاريخ حياة بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات المشهورة، ورد عن ابن خلكان أن الحاكم أبا سعيد عبدالرحمن بن محمد بن دوست كتب في آخر رسائله التي جمعها له ما يلي : سمعت الثقات يحكون أنه حاق به السكتة، وعجل دفنه، فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، وأنه نبش عنه فوجدوه قد قبض على لحيته ومات من هول القبر ".

إيقاف الفوضى

إن تشخيص الوفاة في حالة فوضى وعدم وضوح، ولا يلاقي جدية تتناسب مع خطورته، مما يكلف المجتمع نفقات باهظة وخسارة جلى في الأرواح ومعاناة ممضة ومؤلمة للعديد من العائلات. وإذا كان ذلك مبررا في أزمنة كان الطب فيها محدودا ووسائله معدومة، فهو غير مقبول اليوم ونحن نملك من الوسائل والخبرة والمعرفة ما نطمح به لأكثر من ذلك.

 

محمد طه الجاسر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات