وفي العقود الأولى
من هذا القرن، احتار العلماء حول خواص هذه الجسيمات. فمثلا لماذا يكون للإلكترون
والبروتون شحنة كهربائية متساوية القيمة ومتعاكسة الإشارة برغم أن البروتون أثقل من
الإلكترون بمقدار 1836 مرة ؟.
لقد بقي هذا السؤال
أحجية ومعضلة علمية حتى عام 1929 ، حيث جمع الفيزيائي الإنجليزي بول ديراك النظرية
الكهرومغناطيسية ونظرية النسبية الخاصة والنظرية الكمومية، ضمن ما سمي بنظرية تكميم
المجالات الكهرومغناطيسية، وأوجد في ذلك أجوبة عن الأسئلة الصعبة حول طبيعة
الجسيمات.
لكن نظريته الجديدة
تنبأت بوجود جسيمات مضادة، تماثل تماما، في جوانب عدة، الجسيمات العادية، لكن بعض
صفاتها الحرجة تمثل صورة مرآة للجسيمات العادية. وهكذا ظهر للوجود (نظريا) مضاد
البروتون ومضاد الإلكترون (البوزيترون) وتنبأ ديراك بأنه عندما يلتقي الجسيم ومضاده
فإنهما يتفانيان إذ يحذفان شحنتي بعضهما بعضا وتتحول كتلتاهما كليا إلى طاقة على
شكل أشعة جاما. وقبل مضي فترة زمنية طويلة اكتشف الفيزيائيون التجريبيون مضاد
الإلكترون (البوزيترون) في الأشعة الكونية عالية الطاقة، والتي تأتي إلينا من
النجوم والمجرات البعيدة جدا. وهذا التأكيد على وجود الجسيمات المضادة حفز العلماء
على التفتيش والبحث عن الجسيمات المضادة المكافئة للجسيمات الثقيلة أي البروتونات
والنترونات، إلا أن إيجاد ذلك استغرق بعض الوقت.
إن ضغط الحرب
العالمية الثانية ومشروع مانهاتن (الذي جمع علماء العالم في صحراء نيومكسيكو في
سباق مع العلماء الألمان لإجراء أول تفجير نووي من نوعه. وقد نتج عن ذلك أول ثلاث
قنابل نووية ألقي منها اثنتان على هيروشيما وناجازاكي). دفع العلماء في الخمسينيات
من هذا القرن لبناء مسرعات ذات طاقة كافية لإنتاج مضاد للنترونات ومضاد للبروتونات
ومضادات للجسيمات الأثقل. ووفقا لذلك فقد اكتشف في عام 1955 أول مضاد للبروتون في
جامعة كاليفورنيا في بيركلي وبعد ذلك بعام واحد اكتشف أول نترون مضاد ثم في عام
1965 اكتشف أول مضاد للديترون (المؤلف من بروتون مضاد مرتبط مع نترون مضاد) بعد ذلك
بفترة وجيزة. وفي عام 1978 استخدم العلماء في مركز الأبحاث النووي الأوربي
"CERN" في سويسرا "المسرع
البروتوني الجبار " لإنتاج أعداد كبيرة من مضادات الجسيمات.
لكن لسوء الحظ
عندما أرسلت الجسيمات المضادة هذه إلى الكاشف لتسجيلها وكشفها تلاشت نورا. وسوف يمر
عقد آخر قبل أن يصبح من الممكن تخزين كمية مماثلة من تلك الجسيمات المضادة، إذ حتى
تاريخه لم يتم تخزين سوى البروتونات المضادة.
لكي نحصل على
بروتون مضاد نسرع البروتونات باستخدام مجالات مغناطيسية حتى تصل سرعتها إلى نصف
سرعة الضوء. بعد ذلك تصدم تلك "الرصاصات البروتونية " بعنف وبشكل مباشر ورأسي ببعض
ذرات سلك معدني من التنجستن أو النحاس وينتج عن ذلك إطلاق كمية كبيرة من الطاقة
الحركية عند موضع صغير جدا، مما يولد رذاذا من الأشعة السينية وأزواجا من الجسيمات
المختلفة ومضاداتها، وجزءا من تلك الأزواج، هي بروتونات ومضاداتها.
بعد التقاط وأسر
البروتونات المضادة فإنها ترسل إلى كاشف هو عبارة عن مسرع بروتوني يعمل بشكل معاكس
(خلفي) آنئذ يتحول مسرع البروتونات المضادة إلى مخزن حلقي طويل الأجل يسمى مجمع
البروتونات المضادة ذات "الطاقة المنخفضة". وتباطؤ وتخزين تلك البروتونات المضادة
يمكن أن يتم بكفاءة تصل إلى 90%، لكن إذا أخذنا بالاعتبار الخسارة الكبيرة في
العمليات الأولية عند تخليق وأسر البروتونات المضادة فإن الكفاءة الكلية لا تتجاوز
واحدا من ستين مليونا، ونتيجة لذلك فإن البروتونات المضادة تبقى أغلى وقود، إذ
يساوي المتروجرام (جزء من مليون جزء من الجرام) عشرة بلايين دولار . لكن هناك
أشياء لا يمكن أن ينجزها سوى البروتونات المضادة، ومن هنا تأتي أهميتها وستزداد تلك
الأهمية عند إيجاد طرق جديدة لتحسين الكفاءة.
وبالتالي تقليل
نفقات الحصول على البروتونات المضادة.
تصوير وتدمير وقفص
ليزري
بعد مرور فترة
زمنية طويلة ستستخدم المادة المضادة في المختبرات المجهزة تجهيزا جيدا. فقد وجد
(تيد كالو جيروبولوس) وزميله (تيد غراي) الفيزيائيان اللذان يعملان في جامعة
سيراكوس في ولاية نيويورك أن كمية صغيرة من البروتونات المضادة تكفي لتشكيل خيالي
داخل الجسم، بما في ذلك الجسم البشري.
إن لهذا النوع
الجديد من تشكل الأخيلة (التصوير) فوائد عديدة مقارنة بالطرق المستخدمة حاليا لأخذ
صور لداخل الجسم البشري، مثل التصوير الشعاعي الطيفي المبرمج (CT) بالأشعة السينية. إذ إن تقنية
التصوير بوساطة البروتونات المضادة، والتي تطور حاليا في جامعة سيراكوس ستعطي صورا
أفضل من التصوير الشعاعي الطبقي كما أن كمية الإشعاع التي يتعرض لها المريض أقل
بمائة مرة.
والأمر الأكثر
أهمية هنا هو أن الحزمة التي تستخدم لتصوير ورم سرطاني يمكن أن تستخدم لإزالته، إذ
بزيادة عدد البروتونات المضادة المحتواة في الحزمة الموجهة إلى الورم، يتمكن
الأطباء من تدميره كليا. إضافة إلى ما سبق فإن عدد البروتونات المضادة الضروري
للتصوير ليس كبيرا، فمليون جسيم مضاد يعطي صورة ذات جودة عالية لشريحة خلال الجسم،
وبوساطة بليون جسيم مضاد يمكن للأطباء أن يحصلوا على صورة ثلاثية الأبعاد لحجم كبير
مثل الرأس أو الصدر. لكننا نحتاج إلى جسيمات مضادة عديدة لقتل الورم السرطاني، تبعا
لحجمه. وما تحتويه المصيدة في CERN أو في مختبر "فيرمي" يكفي لتصوير ألف مريض ولمعالجة
العشرات من المرضى.
والخطوة التالية في
تطور تقنية الجسيمات المضادة هي تصنيعها وتخزينها على شكل ذرات وجزيئات هيدروجين
مضادة.
وهذا لن يكون سهلا،
إذ يجب تفخيخ عدد كبير من البوزيترونات (وهذه خطوة سهلة) ومن ثم وضع بروتونات مضادة
في نفس المصيدة. ووفقا للنظرية، فإن البروتون المضاد سيأسر بوزيترون ليكونا
هيدروجينا مضادا، بينما تمتص البوزيترونات الأخرى الطاقة الزائدة المتولدة في
التفاعل.
كما تبين أيضا، أن
تخزين الناتج أصعب من تصنيعه نظرا لأن ذرة الهيدروجين المضاد لا تملك شحنة
كهربائية، ولذا لا يمكن التأثير عليها بوساطة المجال الكهربائي، ولا يمكن أن تحفظ
في القارورة التي تحوي البروتونات المضادة والبوزيترونات. لذلك وضع العلماء عدة
اقتراحات لحفظ وتخزين هذا الجسيم المضاد، يعتمد أحدها على الاستفادة من " قفص"
مصنوع من حزمة ليزرية ما فوق بنفسجية. كما أن هناك اقتراحا آخر يستند إلى كون
الهيدروجين المضاد مادة معاكسة مغناطيسيا، لذا فإن المجالات المغناطيسية الشديدة
تدفعه بعيدا، وللحصول على الترتيب المغناطيسي المناسب فإننا نمرر تيارا كهربائيا
شديدا خلال حلقتين سلكيتين من مادة فائقة التوصيل وتبعدان عن بعضهما البعض ببعد
مناسب، فيتولد نتيجة لذلك مجال مغناطيسي ثلاثي الأبعاد على هيئة " كأس " ويمكن لهذا
الترتيب أن يلعب دور المصيدة للهيدروجين المضاد، وبذا نحصل عليه على شكل كرات
ثلجية. وبالفعل فقد حققت هذه التقنية نجاحا عندما طبقت على الهيدروجين العادي
المثلج بقوة الطرد المغناطيسية، ولذا يعتقد أنها يجب أن تعمل بشكل جيد أيضا على
الهيدروجين المضاد.
وقود أقل.. للسفر بين
النجوم
إن أحد الاحتمالات
الممكنة مستقبلا هو استخدام المادة المضادة في الدفع الفضائي. وربما بدا ذلك وكأنه
خيال علمي، كما في مشاريع سفن الفضاء التلفزيونية. إلا أنه ليس كذلك إذ إن صواريخ
المادة المضادة تبدونسبيا كسفن "العطر البخاري"، وأبسط محرك صاروخي مصنوع من مادة
يتألف من أسطوانة من التنجستين طولها 28 سم وعرضها 28 سم أيضا ووزنها حوالي 330
كيلوجراما !، وبضخ البروتونات المضادة إلى قارورة مملوءة بغاز الهيدروجين في مركز
الأسطوانة التي تقوم بدور "المرجل" تتولد نتيجة لتفاني البروتونات والبروتونات
المضادة، أشعة جاما التي تستخدم لإطلاق الهيدروجين الساخن في الفوهة بسرعة أعلى من
سرعة صاروخ في الوقود الكيميائي بمرتين أو ثلاث مرات.
إن دراسة التصاميم
لحمل صواريخ المادة المضادة أظهرت بعض النتائج غير المتوقعة فقد تبين أنه من أجل
الرحلات حول الأرض وضمن المجموعة الشمسية فليس هناك ضرورة لاستخدام كميات متساوية
من المادة والمادة المضادة. بل إن أفضل ترتيب هو استخدام عدة ملليجرامات من المادة
المضادة لتسخين أطنان من مادة الدفع (مثل الهيدروجين أو الميثان أو الماء) والذي
سيصبح الغاز المستهلك في الصاروخ والذي يخرج منه ويدفعه.
والاكتشاف غير
المتوقع الثاني هو أن نوعا واحدا من صواريخ المادة المضادة يستطيع أن يقوم بالمهمة
مهما كانت صعبة بينما من المعروف أنه في الصواريخ ذات الوقود الكيميائي فإن كمية
الوقود التي يحملها الصاروخ تتناسب مع المسافة التي سيقطعها، وينتج عن ذلك زيادة
حجم الصاروخ. لكن ذلك لا يحدث في حال صاروخ المادة والمادة المضادة سواء كان
الصاروخ في مدار حول الأرض أو حول القمر أو حول المريخ أو يسافر ما بين النجوم فإن
المهمة يمكن أن تتم بنفس النوع من الصاروخ. كما أظهرت الدراسات أن أفضل تصميم
لصاروخ المادة المضادة يسمح باحتواء الصاروخ على كمية من الوقود تعادل أربعة أضعاف
كتلة الصاروخ. بعكس حالة الصواريخ الكيميائية التي تحمل عادة كمية من الوقود
ومقدارها (20 - 60) ضعف كتلة الصاروخ، وبذا ففي صواريخ المادة المضادة فإنها تحمل
نفس كمية الوقود مهما تكن المهمة فللمهمات السهلة كالدوران حول الأرض يكفي أن تحمل
السفينة عدة ملليجرامات من المادة المضادة التي تستخدم لتسخين الوقود بهدوء معطية
سرعة دفع بطيئة.
أما من أجل مهمات
أبعد مثل الذهاب إلى النجوم القريبة، فإن كمية المادة المضادة قد تصل إلى عدة أعشار
من الجرام. وهذه الكمية كافية كمشعل متوهج للوقود. إن المادة المضادة لم تعد علما
مستقبليا، بل أصبحت حقيقة وتصنع كل يوم، ولكن حتى الآن للأهداف العلمية فقط. لكن
خلال بضع سنوات فإن المصائد التي تحوي البروتونات المضادة ستنقل حول العالم ليس من
أجل الأبحاث، بل من أجل الأهداف الطبية. وقبل انقضاء القرن فإن مضاد الهيدروجين،
وربما مضاد ذرات أخرى، سوف تصنع وتحفظ في مخازن. ومع تقدم القرن الواحد والعشرين
ستوجد تطبيقات جديدة للمادة المضادة، وبزيادة إنتاج هذه المادة المضادة فإن أسعارها
ستنخفض، وعندئذ قد تصير الرحلات إلى النجوم في متناول كثير من الناس، إذ سيكفي
للقيام بمثل هذه الرحلات جرامات قليلة من المادة المضادة !.