تونس .. من قمة المسرح إلى باطن الأرض محمد المنسي قنديل تصوير: سليمان حيدر

تونس .. من قمة المسرح إلى باطن الأرض
تونس..من قمة المسرح إلى باطن الأرض

منذ زمن طويل وأنا أحن إلى تونس. وقليلة هي البلاد التي تملأ روحك بالحنين. لم أزرها من قبل إلا في الخيال. كأن اسمها ينتمي إلى جغرافيا أكثر منه إلى تضاريس الواقع. وكأن "بني هلال" قد تركوا فينا بعضا من حنينهم إلى الخضرة والشبع. في رحلتي الأولى إليها لم تطفئ تونس جذوة أشواقي إليها. بل لعلها قد بعثت فيها الشرر. فقد رأيت فيها جوهر الإنسان، وغرابة المكان. وفوق ذلك جمعت كل أشجان المواطن العربي على خشبة مسارحها، فازدحمت أيامي القليلة بها بلحظات من الفن والجمال والعودة إلى التاريخ.

لأنه لا يوجد خط طيران مباشر بين الكويت وتونس فقد كانت رحلتي طويلة ومنهكة بعض الشيء. ولكن شاطئ تونس الأخضر وهو يغوص في البحر أراح قلبي. كما ردت حرارة الترحيب الروح في بدني. لله ما أشد عذوبتك يا تونس. فهل شعر "بنو هلال" بنفس ما شعرت به عندما أقبلوا عليها من صدى الصحراء. مرحبا بك ياسي محمد.. كيف حالك.. باهي.. لا بأس..

هذه أيام مهرجان قرطاج المسرحية. وبالتحديد الدورة السابعة منها. وفي هذه الأيام تتحول تونس العاصمة وضواحيها إلى خشبة مسرح شاسعة. تقدم عليها الفرق العربية والأوربية - وكان المفروض الإفريقية أيضا - عروضها. والمهرجان يقام مرة كل عامين. يعني أن عمره بالتمام قد أصبح أربعة عشر عاما. وقد قامت مجلة العربي بتغطية الدورة الأولى سنة 1982. وها هو الحنين يعاودنا من جديد لسماع دقات المسرح وهي تدوي لتعلن الحضور الحي لأبي الفنون. يستقبلنا جمع حاشد في قاعة الفندق. كتاب ونقاد وفنانون، أصدقاء ومتنافسون. لا تجمعهم من بلدانهم المتباعدة إلا أمثال هذه المناسبات. أعانق من أعرفه منهم.. هل أتيت لتتابع العروض فقط؟.. كنت فعلا مشوقا لمتابعتها كلها، ولكن هل أترك تونس الحقيقية الرابضة تحت أضواء الشمس وأختفي داخل صالات المسرح نصف المظلمة. لا أحد يستطيع أن ينال كل شيء. لذلك كان علي أن أقسم يومي. النهار لرؤية الناس والمكان. أما الليل فهو لهذه التجارب الفنية التي أتشوق لرؤيتها. ويعني هذا ركضا أكثر ونوما أقل. ومحاولة للتواصل مع الفن والواقع في وقت واحد.أهبط إلى شوارع تونس المليئة بالعشق والمودة. كأني سرت في طرقاتها عشرات المرات. تبادلت التحايا مع بائعي الزهور. وغازلت الصبايا خد الرمان. وشربت الشاي الأخضر، المزدحم بضجة الأحاديث. وسمعت "لطفي بشناق" يغني لليل الصب فذبت صبابة ووقعت في عشق مليحة من أول صوت. يمتد شارع بورقيبة شاقا المدينة الحديثة من منتصفها.. أخذ تصميمه الأساسي من شارع الشانزليزيه الشهير أيام الاحتلال الفرنسي ولكنه الآن يحمل طابعا تونسيا خالصا. ضجة المقاهي، والأكلات السريعة الحارة، والمكان الأوسط المخصص للمشاة والعشاق الصغار وبائعوالكتب والزهور. الحياة لا تهدأ حتى في الليل المتأخر.

أعبر باب البحر تاركا المدينة الحديثة وراء ظهري. باب بلا سور، لا يحجب شيئا. وقد هدم السور، الذي يمسك أطرافه. أدخل في تلافيف المدينة.. تضيق الشوارع لتصبح أزقة ضيقة مسقوفة. المحلات متلاصقة مكدسة بالبضائع والهدايا. مهارة أنامل الصانع التونسي تكشف عن سحرها، العباءات المطرزة والبلغ الملونة، وأقفاص العصافير المجدولة كأنها قلوب نابضة. الشاشية الحمراء ومطروقات النحاس ومشاهد حياة البربر المرسومة على رقائق الجلد. تقودك الطرقات مثل شبكة لا تنتهي. خيوط تمتد من الأرض إلى الروح. التاريخ ينام في وداعة، والأيام تمضي دون مكسب أو خسارة. تقودنا الشبكة المتداخلة إلى مسجد "الزيتونة". تباركت يا ذا الجلال. أضواء خافتة تنبعث من بين الأعمدة. أضواء مصابيح أو أنها ابتهالات مضيئة. ابن خلدون يلقي الدرس الأخير قبل أن يواصل رحلته إلى المشرق. عكس الرحلة التي جاء بها أجداد تونس الأوائل حين ركبوا سفنهم من شاطئ فينيقيا في لبنان. جاءوا إلى هذا الشاطئ الإفريقي وأقاموا أولى المستعمرات، أول الأحلام. ثم توالت موجات البشر، غزاة وباحثين عن الأمان. هبط الرومان من الشمال ليظفروا بثأرهم من قرطاج، وجاء عقبة بن نافع يحمل رايات الإسلام، ودار دياب فوق فرسه يبحث عن منفذ في الأسوار حتى أعياه الصراع مع الزناتي خليفة. ثم تبدد زمن الأساطير والحكايات مع مجيء الاستعمار الحديث حين ربضت فرنسا على صدر تونس لمدة 70 عاما كاملة.

تونس لاتني تكشف عن مفاتنها. فهل يمكنك أن تصمد لغوايتها؟ نركب قطار الضواحي السريع. نعبر سنجة المياه الراكدة على شريط ضيق من اليابسة. نجلس مع الركاب فنتبادل حديثا ضاحكا. تختلف اللهجات والهموم واحدة. نتوقف أمام أعمدة قرطاج المحطمة وبقايا القصور والسجون والحصون. الزمان رابض وسط العشب الطري. رءوس تماثيل مكسورة الأنوف، وأذرعة رخامية، وحركات الأصابع توشك على الإيماء، وأقبية مليئة بالخوف والترقب. نجلس على حافة المسرح الروماني القديم. تذكر، في المساء يوجد عرض آخر. ولكننا الآن في مواجهة عرض صامت مثقل بكل دلالات الزمن. من هذا المكان نشأت بذور عشق المسرح، المكان الذي كان يأتي إليه البشر للتطهر من أحزانهم كما كانوا يفعلون في الزمن الماضي، ومازالوا يمارسون طقس التطهر حتى الآن. نصعد مع تل قرطاج العالي. كم من مدائن دفنت كي تجسد هذا الارتفاع. نقف أمام إحدى الكنائس. صور القديسين والأيقونات تحولت إلى صور الحروب الضارية بين "الزناتي خليفة" و"بني هلال". هبطت المجدلية وصعدت سعدى والناعسة والجازية. واختفت هالات القديسين ليحل بدلا منها أبوزيد الهلالي بشواربه التي تقف عليها الصقور. نعاود ركوب القطار مرة أخرى إلى سيدي بوسعيدي.. أي حلم أندلسي يقام على هذا الشاطئ؟! في متحف الموسيقى تتصاعد ألحان الأيام. يا نديمي.. شفني الوجد وأسقمني الهوى. البيوت بيضاء كالحمائم. الأبواب والنوافذ من الحديد المعشق، الأزرق بلون السماوات البعيدة.. نرشف الشاي المنعنع في مقهى أيوب المطل على خليج تونس. يلوح خط جبل شوه. خط أسود على الأفق تحوم حوله النوارس. كيف يمكن أن تنسى لحظة كهذه أو مشهدا كهذا؟

حان موعد العروض والمساء يقبل عليك.. ولكن لماذا قرطاج؟ لماذا اختارت تونس هذا الاسم حتى تطلقه على كل سلسلة المهرجانات التي تقيمها كل عام سواء كانت مسرحا أم موسيقى أم سينما؟ أهي رغبة في إحياء الحلم الزاهر القديم وحنين إلى ماضي المجد الزاهر.. أم أنه استلهام معاصر لكل روح المغامرة التي حملها أولئك البحارة.. مغامرة في الفن والحياة ؟

قرطاج تنهض

في القرن الثاني قبل الميلاد نهضت قرطاج مثل طائر نورس عفي، فرد أجنحته على مياه المتوسط، وتحكمت سفنه في طرق التجارة به، من صيدا إلى صقلية، ومن قبرص إلى أطراف إسبانيا. كانت قرطاج هي المتحدي الأخطر للدولة الرومانية التي كانت تريد أن تفرض سيطرتها على أطراف البحر المتوسط. "بحرنا" كما كانت تطلق عليه، لذلك بدأت بالإغارة على المواقع القرطاجية في جزيرة صقلية، ولكنهم منوا بالهزيمة. لا يمكن لأحد أن يتحدى بحارة قرطاج أو ينافس سفنهم، لذلك اضطر الرومان للابتعاد والانتظار. ولعبت المصادفة دورها حين قادت الرياح إحدى السفن القرطاجية الجانحة إلى شواطئ روما فوجدوا في ذلك فرصتهم الذهبية. استولوا على السفينة وشكلوا لجنة من أشهر النجارين في روما ليفحصوها بدقة. وصنعوا من هذا النموذج مئات السفن وأصبح لديهم أخيرا أسطول قادر على مجاراة السفن القرطاجية في سرعتها.

ولكن قرطاج لم تهدأ. قرر "هانيبال" القائد الأسطوري القرطاجي الذي اتخذه نابليون بونابرت مثلا أعلى له، أن ينقل المعركة إلى البر وإلى قلب روما نفسها، لذلك أخذ رجاله وخيوله وأفياله وبدأ رحلة الغزومن أبعد مكان لا يخطر على البال، من إسبانيا. كانت قرطاج هي أولى من دربت الأفيال الإفريقية على القتال وحولتها إلى غريم لا يمكن مقاومته. ولكن هانيبال كان يأخذها هذه المرة إلى متاهة لم يتصورها بشر. ولا يزال المؤرخون حتى الآن يحاولون تتبع آثارها. لقد قرر أن يصعد بكل هذا الحشد إلى جبال الألب ويعبر ممرات الثلوج المخيفة ليفاجئ الرومان في المكان وفي الزمن الذي لا يتوقعونه. لا أحد يدري بالضبط كيف عرف طريقه ولم تقبره الثلوج، ولا يدري أحد كيف تحكم في الأفيال الهائجة القادمة من حرارة خط الاستواء. يقول البعض إن السكان المحليين الذين كانوا يكرهون الرومان قد قاموا بدور الدليل لجيش هانيبال. ويؤكد البعض الآخر أن هانيبال قد حمل على ظهور الأفيال قدورا كبيرة من الخل كان يلقيها على الثلوج ليشق بها الطريق أمام أقدام جنوده.. على وجه التحديد لا أحد يدري بالضبط كيف فعلها وكيف استطاع الوصول بالفعل إلى روما.. لقد فوجئت روما بما حدث. ولكنها احتمت داخل أسوارها وقاومت بشراسة. واستولى "هانيبال" على كل إيطاليا ما عد روما لمدة ستة عشر عاما. وتعلم الرومان منه أن ينقلوا الحرب إلى خارج أرضهم فاستغلوا البحر وأرسلوا هم أيضا جيشا للاستيلاء على قرطاج نفسها.. واضطر هانيبال للعودة بسرعة ولكنه عاد متأخرا.. عاد بعد أن أحكم الرومان سيطرتهم على الأرض وتلقى الهزيمة ومات منفيا هاربا.. وتحطم الحلم القرطاجي تحت معاول الرومان. لقد فرض الرومان سيطرتهم على العالم القديم.. ولكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك إلا بعد سقوط قرطاج.. القوة الإفريقية الوحيدة التي قاومتهم طويلا.. ها هو المسرح يتم دقاته الثلاث.. انتهى عرض التاريخ والذكرى.. وجاء الحاضر يجسد همومه ومشاكله عن طريق الفن..

دقات المسرح

عالمنا العربي هو أشد مسرحيات الدنيا غرابة. كل بلد جاء إلى قرطاج يحمل هما مختلفا. وكأن المسرح هو المرآة التي تكشف وجهك الحقيقي مهما بالغت في إخفائه.. ولعل هذا يبين لماذا لا نحتفي بالمسرح كما يجب ونحاول جاهدين أن نخفيه من حياتنا؟ إننا نكره مرايا النفس. وربما كان مهرجان قرطاج المسرحي - الذي أتيح لي أن أحضر قسما من عروضه - هو الأثر الأخير من مهرجانات المسرح العربي، فلم يبق منها إلا مهرجان القاهرة المسرحي التجريبي، وهو يركز على النوعية التجريبية كما يدل اسمه، أما باقي الدول العربية فلم تتبار في شيء بقدر ما تبارت في إلغاء هذه المهرجانات. غابت عن المهرجان الدول الإفريقية التي تمت دعوتها وقبلت الدعوة من قبل. وقيل إن السبب يعود للحالة الاقتصادية التعيسة لهذه الدول فمعظمها لم يكن يملك ثمن تذاكر الطائرة، لذلك لم تحضر فرق ليبيا والجزائر لأسباب مختلفة، ولم تشترك الكويت صاحبة التجربة المسرحية الرائدة في الخليج دون أي مبرر معقول.

يقول الكاتب المسرحي التونسي المعروف ورئيس المهرجان عز الدين المدني. "لقد وضعنا تصورا طموحا يغطي جميع النشاطات المسرحية. كانت هناك أولا النشاطات الفكرية وقد شرعنا فيها بالفعل قبل بداية المهرجان عندما أقيمت في صفاقس ورشة مسرحية لبحث العلاقة بين النص الأدبي والعرض المسرحي، والمنزلة التي يحتلها كاتب المسرح في مجمل العملية المسرحية. وقد اشترك في هذه الورشة العديد من الكتاب والنقاد العرب بالشهادات والأبحاث. وكذلك أقيم يوم لتكريم رائد المسرح الجزائري عبدالقادر علولة الذي اغتالته يد الإرهاب، وقد حضرت أرملته وتم تكريم اسمه من خلالها. كذلك أقيمت ندوتان عن المرأة والمسرح، وأخرى عن وضع المسارح الراهنة وكذلك تكريم عدد من فناني المسرح التونسيين والعرب، منهم المنصف السويسي والبشير الإدريسي من تونس، وفوزي فهمي من مصر وعبدالعزيز السريع وسالم الفقعان من الكويت.

أما بالنسبة للعروض المسرحية التي شاركت في المسابقة الرسمية فقد احتوت على اثني عشر عرضا منها، "ديوان البقر" من مصر، "حلم الهمذاني" من السعودية، "مائة عام من المحبة" من العراق، "كاليجولا" من سوريا، "ميديا" من لبنان، "الخادمات" من الأردن، "وبياع الهوى" و"رجل وامرأة" من تونس، و"الواسطة" من المغرب. وكذلك هناك عروض أخرى من أمريكا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا. وأقيمت على جانب من المهرجان العديد من عروض مسرحيات الهواة ومسرح الطفل والمسرح الجامعي بالإضافة إلى بعض المعارض الفنية التي تهتم بالكتاب المسرحي والصور الفوتوغرافية لرواد المسرح. إننا نأمل من خلال المهرجان أن يضطلع بدور أنجح تنويرا للعقول وخدمة للإنسانية ونشرا للقيم الكونية في الديمقراطية وحقوق الإنسان.

فماذا تخفي الستائر وعن أي شيء تكشف الأضواء؟

جاءت مصر تحمل على كاهلها مشكلة الجماعات الإرهابية التي تعاني منها. والنص برغم أنه يلجأ إلى التاريخ فإنه شديد الوضوح، وشديد الارتباط بمفردات الواقع المعاصر. مسرحية ديوان البقر من تأليف أبوالعلا السلاموني وإخراج كرم مطاوع اعتمدت على حكاية تراثية قديمة، وردت في كتاب الأغاني للأصفهاني عن فقيه خطب في الناس قائلا إن من لمس أنفه بطرف لسانه دخل الجنة. فلم يبق أحد في المدينة إلا وقد حاول أن يفعل ذلك. فكأنهم قد أصبحوا أشباه بقر. من هذا الخيط القديم تأخذ المسرحية تيمتها الأساسية لتصور حالة غياب العقل الجماعي حين يسيطر بعض الناس على الكل الآخر ويسيرونهم وفق منطق موهوم. إن الغرباء قد أقبلوا على المدينة واستولوا على قلوب أهلها وحولوهم إلى بقر سائمة لا تعمل ولا تناقش. فقط تفعل ما تؤمر به، وتدين المسرحية الذين حكموا هذه المدينة لأنهم هم الذين دفعوها إلى ذلك أولا ثم تواطئوا عليها بعد ذلك. قام الفنان المعروف عبدالرحمن أبوزهرة بدور الدجال الذي يستولي على قلوب الناس ففعل ذلك بأسلوب مباشر وخطابي بعض الشيء. وأخرج كرم مطاوع النص بأسلوب غلب عليه الطابع الاستعراضي فكأنه ألبسه ثوبا غير أثوابه. ولكن يبقى للمسرحية أنها قالت كلمة جريئة في مواجهة قضية غاية في السخونة.

من داخل القدس جاء عرض فرقة القصبة بعنوان "رمزي أبوالمجد" اسم مجدول بعناية من ذلك الرمز الشديد الوضوح والمجد الذي لا وجود له. عرض بسيط ومؤثر وجارح. يقوم به فقط اثنان من الممثلين، دون ديكورات تقريبا اللهم إلا شاشة بيضاء في الخلفية. النص مأخوذ عن مسرحية من جنوب إفريقيا وتم تحويله ليتواءم مع الوضع الفلسطيني. وكم كان الوضع متشابها لدرجة البكاء بين أوضاع زنوج تحت ظل قوانين التفرقة العنصرية، وبين فلسطينيي الأرض المحتلة تحت عسف الاحتلال الإسرائيلي. أخرج العرض محمد بكري الفنان الفلسطيني المعروف، وتصف المسرحية نفسها في سطور موجزة. المكان: يافا. الزمان: غزة وأريحا أولا. الحالة: كلنا في الهوا سوا. وهي تدور حول ذلك العامل القادم من غزة للعمل في يافا. ولكنه مطارد فالسلطات قد ختمت جوازه بختم الإبعاد وعليه أن يغادر يافا على الفور. إنه لا يملك ثمن المغادرة. ولا يملك العودة إلى المخيم المكدس بأولاده خالي الوفاض. ويأتيه الحل حين يكتشف جثة عربي آخر مقتول في الطريق فيأخذ  هويته ويقرر أن يغير اسمه وتاريخه ليعيش تحت اسم الشخص المقتول. لا يهم الأسماء مادمنا قادرين على البقاء. غزة، أريحا، فلسطين، كله ماشي. المهم أن نحيا. لا جدوى من البكاء على الماضي. فالحاضر فيه كل أسباب البكاء.

أهم ما في المسرحية أنها تثير الضحك بمرارة، ولا ترفع شعارا، ولا تتوجع وإنما توجع. وهي تقول في نهاية الأمر إن كل الاتفاقيات السياسية لن تغير من واقع الاحتلال الإسرائيلي لأنه تحول إلى واقع اقتصادي واحتياج لا مفر منه وعليك بدلا من أن ترفع عليه يدك بالسلاح أن تمدها إليه طلبا لبعض "الشيكيلات".

وجه عربي وأقنعة عديدة

من تونس جاء "بياع الهوى" عرض مثير للجدل أثار دهشتي وحيرتي أيضا. فهو عرض لا يعتمد على الكلمات بقدر ما يعتمد على التعبير بلغة الجسد. ولا يرتكز على النص المؤلف بقدر ما يصنع توليفة في تيمات أساسية من السينما الميليودرامية. إنه واحد من النصوص التي تعلن موت المؤلف وموت الكلمات البليغة في العملية المسرحية. وقد قامت الفنانة الشهيرة "رجاء بن عمار" بدور أساسي فشاركت في وضع النص - إن كان يمكن أن نطلق عليه ذلك وفي الإخراج وتصميم الحركة والقيام بالدور الرئيسي أيضا. وقد تلقت من أجل ذلك تدريبات قاسية في فنون الأداء على مدى سبع سنوات شملت الرقص والتعبير الصامت بواسطة الإيماءات الجسدية. والمسرحية لا تقدم الواقع بقدر ما تقدم التصورات السينمائية الزائفة عن هذا الواقع لذلك تحتل خلفية المسرح شاشة سينمائية ضخمة تدور أمامها الأحداث بأقل قدر من الكلمات.

إنها قصة امرأة عادية تشتغل عاملة في قاعة السينما تدل المتفرجين على مقاعدهم. ولكن خلف هذه المرأة التي تكاد لا تلحظها في ظلام الصالة. توجد مأساة أم اختطف طفلها وعليها أن تسعى للبحث عنه. وفي رحلة البحث هذه تتداخل قصة المرأة مع الأحداث التي تدور على الشاشة وتذوب الحدود بين الواقع والخيال. ويمضي الجزء الأول من المسرحية على طريقة السينما الصامتة وبنفس مفرداتها ولكن في الجزء الثاني تبدأ الأصوات في الظهور فنسمع مشاهد من أغاني وأفلام عربية ومقتطف كبير من مسرحية "سوء تفاهم" لألبير كامي - وهو بالمناسبة أفضل أجزاء المسرحية في رأيي - وقد نالت هذه المسرحية جائزة أفضل عرض مسرحي. ومهما كانت الأسئلة التي تطرحها المسرحية فلا يملك المرء إلا أن يقف مقدرا  ومعجبا للأداء المميز لممثلة تونس الأولى رجاء بن عمار.

ومن السعودية يأتي عرض "حلم الهمذاني". محاولة شبابية لإضفاء التنوع الثقافي على المملكة ومحاولة أيضا للتمرد على التراث المكتوب، والبحث عن طريق جديد وسط قضايا العصر. إن شخصيات الهمذاني تتمرد عليه وتترك صفحات الكتاب. وقد أخذ المؤلف محمد العثيم من المقامات شخصية عيسى بن هشام وأبي الفتح الإسكندري، وجعلهما يدوران في صراع حاد مع الهمذاني، لم يقتصر على تبادل الكلمات فقط ولكنه ارتفع إلى مستوى القنابل والصواريخ وكل أسلحة الفتك الحديثة. وقد قام بالتمثيل ثلاثة من الممثلين السعوديين الشبان أبرزهم عبدالعزيز الفريحي الذي كان له حضور مميز على المسرح. ولم تقتصر الرؤية على مناقشة القضايا القديمة ولكنها أدخلت مفردات القضايا المعاصرة، من النظام العالمي الجديد، إلى القنوات الفضائية، إلى حرب البوسنة والهرسك إلى نموذج لكل الديكتاتوريين وخاصة العرب منهم.. تناقش هذه الأمور بسطحية أحيانا، ولكنها تأتي من خلال بحث دائب عن الهوية الثقافية.إن تجربة المسرح في السعودية لا تزال حديثة ولكنها حريصة على الحضور باستمرار على الساحة العربية، ولا شك أن هذا التفاعل سوف يعطيها دفعة قوية إلى الأمام. وتقدم سوريا مسرحية "كاليجولا" للكاتب الفرنسي الشهير "البيركامو". يقدم المخرج وممثل العرض الأول جهاد سعد من خلال استخدامه لمفردات مسرح القسوة عرضا طقوسيا لشخصية الإمبراطور الروماني كاليجولا كحاكم مستبد يستمد سلطته من الخوف، الخوف الذي يزرعه في نفوس كل المحكومين فيحولهم إلى خانعين له، أو جواسيس يوقعون ببعضهم بعضا. الإمبراطور لا يناقش، ولا يستمع، ولا يسمح لنفسه بالوقوع في الحب. إنه فقط يقتل لأنه من خلال إزهاق أرواح الآخرين يستمد سلطته المطلقة. لقد قام المخرج باختصار المسرحية. وحذف منها بعض الشخصيات، وجعل خشبة المسرح تمتد في ذراع طويلة إلى نهاية الصالة، وصنع نوعا من الحركة المسرحية تعتمد على السرعة والتدفق وقدم مجموعة من الممثلين المدربين بشكل جيد برزت منهم الممثلة "خديجة غالب" في دور زوجة "كاليجولا" التي يفضل أن يقتلها حتى لا يكون حبه لها هو نقطة ضعفه.. ولقد نال هذا العرض جائزة أفضل إخراج.

محبة أم مرارة؟

ولكن العرض العراقي كان مثيرا للمرارة. إنه يطرح جو الكآبة والعبثية التي يعيشها المواطن داخل العراق تحت ظل نظام مازال متسلطا على مصيره. كتب عرض "مائة عام من المحبة" الشاعر "فلاح شاكر". وطرح من خلاله بجرأة شديدة - وبلغة شاعرية ومسرحية بالغة الرقي والرهافة - ردود فعل العمليات العسكرية الطائشة التي قام بها نظامه. إن الجندي الذي خاض الحرب ووقع أسيرا لمدة عشرة أعوام واعتقد أهله أنه مات يعود إلى بيته ليجد زوجته وقد تزوجت من رجل آخر. إنه المثلث الشهير الزوج والزوجة والرجل الآخر "زوجا أو عشيقا" وقد تحولت أضلاعه وأكسبته الحرب مشروعية قاسية. فالزوجة تجد نفسها وحيدة وهي تحمل عبء طفل تربيه، وبيت عليها أن يظل مفتوحا. والرجل الذي تزوجها قام بذلك على خير وجه. رعى الابن وحافظ على ذكرى الزوج. إنهم جميعا على صواب. ولكن الظروف التي جمعتهم وجعلت مصائرهم تتقاطع هي التي تحمل بذور الخطأ.

إن ثلاثتهم يقفون متواجهين وسط إضاءة خافتة ومعتمة تنبئ بحاضر معتم ومستقبل غير معروف إلى أين يقودهم. ولا تقدم المسرحية حلا لهذا الصراع المرير، ولا أملا للخروج منه. ولكنها تنتهي في مشهد عبثي يموت فيه الزوج الثاني لتتكرر مأساة عودته. إن ممثلة العرض الأولى "شذى سالم" ترفع يدها عاليا وهي تصرخ "أنا أسيرة" فتشعر الجميع عن حالة من الواقع وليس تعبيرا عن نص. لقد نال هذا النص الشعري جائزة أفضل نص مسرحي. ونالت "شذى سالم" جائزة أفضل ممثلة. وقدمت المسرحية شهادة مريرة عن الإنسان العراقي البسيط الواقع تحت قبضة سلطة متحكمة لا تدع له منفذا إلا اليأس. لقد كان السؤال الذي تبادر إلى ذهني عقب مشاهدة العرض: هل تم عرض "مائة عام من المحبة" في بغداد وكان الجواب أن هذا لم يحدث. فقد عرضت مرة واحدة في الأردن واختارها عدد محدود من المسئولين لتمثيل العراق في هذا المهرجان كدعاية لحرية الفكر وسماحة النظام في تقبله للنقد، ولكن من الخارج فقط. ومن لبنان جاءت "ميديا" ليست واحدة ولكن "ميديا.. ميديا". فقد مزجت مخرجة العرض وبطلته الأولى "سهام ناصر" بين نصين كتبا حول هذه الأسطورة الإغريقية. الأول نص مسرحي يعود إلى أيام الإغريق من تأليف "يوربيدس". والنص الآخر منتزع من روح القرن العشرين كتبه الفرنسي "جان أنوي".

لذلك فهي تكرر الاسم مرتين لتقدم رؤية عبر التاريخ تعبر عن تسلط الرجل وتضحيات المرأة اللامجدية التي تدفعها إلى الانتقام الأعمى فيما بعد. إنها مسرحية تقدمها نساء ولا يوجد فيها إلا رجل واحد. وهي قصة عشق لامرأة ساحرة هي "ميديا" تسرق ذهب أبيها ملك أثينا - مدينة المنطق والعدالة - لترحل خلف "جيسون" الرجل الذي أحبته وضحت من أجله بكل شيء. لقد تحملت النبذ من أهلها، والاحتقار من قومها، وتظل خلفه مشردة في البلدان مع طفلين هما ثمرة حبهما. تبدأ المسرحية على مشارف مدينة "كورينتا"، حيث تقف ميديا منتظرة رجوع زوجها الذي ذهب لمقابلة ملك المدينة، ولكن الانتظار يطول وبدلا من عودة الزوج يأتي رسول ليخبرها أنه سوف يتزوج من ابنة الملك، لتبدأ "ميديا" رحلة الغيرة والدمار والرغبة الحادة في الانتقام من زوجها، الذي ينقلب وبالا عليها حين يموت أبناؤها. إنه قصاص مدمر لألعن امرأة في التاريخ "ميديا". قدمت سهام ناصر هذا العرض بدرجة عالية من الحركة المسرحية والجمالية استخدمت فيها العامية اللبنانية لتقريب النص إلى المعاصرة ومزجت بين الكلمة ولغة الجسد في تموجات جمالية وقدمت صرخة امرأة تفتقد منطق العدالة والمساواة.

ولا ينتهي تدفق العروض، عروض عربية وفرنسية وإنجليزية وأمريكية، طوفان من الفن الجميل، ولكننا مرغمون على الانتقاء والاختيار.. ولا نستطيع البقاء طويلا، لأن هناك تجربة بشرية أخرى أكثر غرابة مما يدور على المسرح في انتظارنا.. دائما ما يتفوق الواقع على الخيال.. لقد حان الوقت لكي نهبط من أعلى خشبة المسرح حيث يمتزج الخيال بالفن. إلى باطن الأرض حيث يمتزج الواقع بصهد الصخور. كان لنا موعد مع "مطماطة".

بوابة الصحراء

كانت الطائرة تخترق بنا الضباب الذي يحيط بجزيرة "جربة" كالآس الشفيف. جزيرة صغيرة فيها نعومة المتوسط وشظف الصحراء المجاورة عبر الجرف. مطارها الصغير مزدحم بكل أصناف البشر الذين جاءوا إليها هربا من ثلوج أوربا. في مكتب السياحة كان الموظف مشغولا، ولكنه ما أن عرف أننا بعثة "العربي" وقد جئنا لزيارة مطماطة حتى ترك كل ما يشغله وتفرغ لنا تماما. سار معنا إلى موقف السيارات خارج المطار وعرض علينا سائقا كان سعر السائق مرتفعا بعض الشيء، ولكنه هو أيضا ما أن عرف أننا من "مجلة العربي" حتى قام بنفسه بتخفيض الأجرة إلى نسبة لم نكن نتوقعها. كان هذا الاهتمام وتلك الحفاوة العملية مفاجأة لنا. كنا أبعد ما نكون عن العاصمة وتجمعات المثقفين ومحترفي القراءة، كنا نتعامل مباشرة مع بسطاء الناس الذين تخرج "العربي" من أجلهم كل شهر. وكان عنوان ما يحدث أن رسالتها تصل وتؤثر وتبقى في القلوب.بدأنا رحلتنا على الفور والسيارة تخترق شوارع "جربة" الضيقة متجهة إلى "البطحة" إنها العبارة الضخمة التي تقوم برحلات منتظمة تربط الجزيرة بالشاطئ التونسي مرة أخرى. إن هناك طريقا مرصوفا آخر يسمى الطريق الروماني إلا أنه أطول وأقل إثارة.تحركت بنا "البطحة" ببطء وهي تحمل عددا كبيرا من السيارات والحافلات والبشر، وبدا الجرف القاري تحمل صخوره آثار الجزيرة التي انتزعت منه ذات يوم. كنا ننطلق إلى شاطئ ولاية قابس - أو بوابة الجنوب الصحراوي كما يطلق عليها - لقد احتلت هذه المدينة شهرة كبيرة أثناء الحرب العالمية الثانية، حين دار حولها الصراع بين "روميل" ثعلب الصحراء الألماني و"أيزنهاور" القائد الأمريكي. لقد سقطت قابس أكثر من مرة في يد كل من القائدين كإحدى نقاط التحدي حتى يثبت كل واحد منهما جدارته في مواجهة الآخر.

بلدة هادئة، تظللها أشجار النخيل، مكونة من واحات سبع تفصل بينها هضاب من رمال الصحراء العطشى. قال لنا السائق وهو يشير إلى برك صغيرة من المياه: هذه بقايا الأمطار التي هبطت علينا منذ يومين.. بشائر الخير بعد جفاف طويل. لقد استمر الجفاف في الجنوب التونسي لمدة ثلاث سنوات مهلكة. توقفت العيون وغاضت الآبار، ويبست كل مناطق الرعي، وهربت الحيوانات من مناطق الصيد. ولكن المطر جاء أخيرا وثمار الرمان الحمراء تتألق في زهو، وثمار المشمش مازالت خضراء. أما أسبطة التمور فمن دقلة النور التي تعرفها أوربا بأنها أشهى أنواع التمور.ولكن واحات قابس تنتهي ونوغل في الطريق الصحراوي المؤدي إلى "مطماطة". ملامح الطبيعة تزداد وعورة ونحن نرتفع وننخفض بالسيارة. البشر يختارون دائما الأماكن الصعبة كي يعيشوا ويؤكدوا وجودهم. هكذا كان يؤكد المؤرخ الإنجليزي توينبي. الحضارة لا تزدهر إلا وسط قسوة الطبيعة. كأن التحدي يستثير كل ما في داخل الإنسان من طاقات كامنة.

قبل أن نصل إلى غايتنا أطلت علينا بيوت "مطماطة" الجديدة. بيوت أسمنتية متشابهة بلا ملامح ولا خيال. لقد بنتها الحكومة في محاولة لجذب السكان، ومحاولة تغيير نمط حياتهم القديمة. تماما مثل تجربة قرية "القرنة" التي أقيمت على مشارف الجبل الغربي في الأقصر بصعيد مصر. ومثلما رفض أهل الجبل سكن "القرنة"، رفض أهل "مطماطة" الانتقال في أول الأمر، ولكن تغير الحياة وظهور أجيال جديدة تحلم بالتغيير جعلت البيوت الخالية تمتلئ بضجة الأطفال.

على قمة التل الأخير قبل "مطماطة" القديمة كانت هناك كلمات ترحيب مكونة من الصخور البيضاء ومكتوبة بالعربية والإنجليزية. كان أهالي البلدة بعد موجات كثيفة لا تتوقف من الزائرين قد ألفوا السياحة وعرفوا كيف يتعاملون معها. ظللنا نوغل بين الهضاب المتوسطة الارتفاع حتى توقفت بنا السيارة أخيرا بعد أن أنهكنا من كثرة الارتجاجات. وأشار السائق مؤكدا: هذه هي "مطماطة". نظرنا حولنا فلم نجد شيئا، لا ناسا ولا بيوتا ولا قرية. ولكننا كنا نعرف مسبقا أنها كلها تحت الأرض وأن علينا أن نبحث بأنفسنا عن معالمها المخفية. أخذنا نتقافز فوق الصخور باحثين عن هذه الحفر أو الغيران كما  يطلقون عليها خائفين من أن نهوي في إحداها على حين غفلة.

بدأت "مطماطة" تكشف لنا عن نفسها. وقفنا على أطراف إحدى الحفر نتأمل ما يجري تحتنا. منزل متكامل في جوف الأرض. الفناء هو الجزء المكشوف من المنزل تحيط به الغرف المحفورة داخل جوف الأرض. لا يظهر على أبوابها. سيدة المنزل أو بالأحرى سيدة الحفرة تقوم بنشر الملابس المغسولة في الفناء. يلعب حولها الأطفال. لم يبال أحد منهم أن يرفع رأسه لينظر إلينا. أكد لنا السائق: لقد تعودوا على ذلك من كثرة السياح الذين يمرون عليهم. تعودوا على العيون المحدقة، وتأوهات الاستغراب، وأضواء الفلاشات وعشرات الألسنة التي ترطن متسائلة عن طريقتهم في الحياة. بطنا فوق المنحدر الذي يقود إلى أسفل حيث باب المنزل. فتحت لنا السيدة وسمحت لنا بالدخول حين تحدثنا معها بالعربية ورأت وجوهنا. بدا الكرم وشدة الحفاوة التي يتمتع بها أهالي مطماطة. ومن خلال جولاتي المختلفة فقد تبين لي أنه في أشد البيئات شظفا يوجد عادة أكرم الناس. ربما تحاول النفس البشرية أن تجود بكل ما لديها حتى تعوض الشح في الطبيعة. قلنا لها لماذا الحياة داخل الحفر؟.. ابتسمت قائلة إنها أكثر حنوا علينا من الأسمنت. فهي باردة في الصيف دافئة في عز الشتاء. ولكنه ميراث طويل من المطاردة والتخفي. "فمطماطة" ليست مكانا واحدا. ولكنها قبيلة كبيرة تناثرت شظايا كبيرة من بطونها في المغرب العربي. جدهم الأكبر هو "مصطاب بن مطماط". شعب من البربر الرحل الذين يسعون إلى أرض آمنة. أستقروا أول أمرهم في جبل عال في الجزائر مازال يحمل اسمهم حتى الآن هو جبل "مطماطة" ولكن قطاع الطرق لم يرحموهم. فهاجروا إلى هذا المكان وحفروا واستكانوا، ولكن هل عزلهم هذا عن العالم؟.

يشيرون إلى القبور الموجودة في جانب البلدة. القبور فوق الأرض، ويبدو أن الموت هو الطريقة الوحيدة لإخراجهم من جوفها. بين هذه القبور يوجد رجال من جيش عقبة بن نافع، وفرسان من بني هلال، وجنود من الحلفاء والألمان من معارك الحرب العالمية الثانية. لم يكونوا أبدا بعيدين ولكن هضابهم كانت معبرا لكل أنواع الجيوش التي غيرت وجه المنطقة. لقد منحتهم جيوش عقبة الإسلام. وجاء الهلالية فهبطت إليهم بطون من قبيلة "الطرابلسية" وأعطتهم اللسان العربي وتعلمت منهم كيف تحفر "الغيران". ولم يعطها مقاتلوالحرب العالمية الثانية سوى بعض الطلقات الفارغة والألغام الطائشة ومكان صغير، على خريطة العالم.إنها المعركة الحقيقية التي مازال شيوخ "مطماطة" يذكرونها والتي دارت رحاها حول هضاب المنطقة في سنة 1943. بين القائد الإنجليزي البارد الجنرال "مونتجمري". وثعلب الصحراء الألماني "روميل". لقد كان الأخير في وضع استراتيجي أفضل وكان مهيأ له أن يكسب هذه المعركة ليضيفها إلى سجل انتصاراته، خاصة أنه قد لقن "أيزنهاور" درسا قاسيا. ولكن المشكلة أن الفوهرر كان غاضبا عليه. وبقية القادة أخذوا يحسدونه على هذه الانتصارات فقلت الإمدادات وخاصة إمدادات الوقود. وكان أن تلقى هزيمة غير متوقعة من "مونتجمري". ولم يكتف الجنرال الإنجليزي بهذا بل حمل قواته على ثلاثة آلاف سيارة وقام بالالتفاف حول "مطماطة".. ليقطع الطريق الذي يفصل بينها وبين البحر  ويأسر الجيش الألماني بأكمله. ولكن الثعلب خاض معركته اليائسة واخترق القوات البريطانية من المنتصف واستطاع أن ينجوبنفسه وجيشه من الأسر. وبذلك تأجل الصراع بينهما إلى معركة نهائية في صحراء أخرى عربية هي "العلمين" في مصر.

قادتنا السيدة الكريمة إلى غرف البيت الداخلية. أحيانا يعيش في الحفرة الواسعة أكثر من أسرة وهم يحفرون لمزيد من التوسع. كان البيت نظيفا إلى حد ملحوظ. ومن الواضح أنها تقوم بمجهود مضاعف لحماية بيتها من عصف الريح ودفع الأتربة. كانت هناك غرفة للنوم، وأخرى للأولاد، وغرفة لخزين الطعام مليئة بالقدور الفخارية. ومكان للطهو به موقد للبوتاجاز. الكهرباء موجودة، وتلفزيون صغير والأطفال يغنون "أحبك ليه أنا ما أدري.. " أما دورة المياه فهي خارج الحفرة. في حفرة أخرى مستقلة حتى لا تؤثر رائحتها في بقية المنزل. ولكن المشكلة التي تواجه "مطماطة" بحق هي المياه. في كل بيت يوجد نظام لجمع المطر يبدأ من أعلى المنزل حيث تحفر قناة تهبط إلى أسفل لتصب في خزان صغير بجانب الباب.. ولكن ماذا عن مشكلة المياه بالنسبة لمطماطة كلها؟! يقول الشيخ عياد - أقدم شيوخ "مطماطة" - إنها قصة صراع طويل، لقد زرعنا النخيل والزيتون والتين ولكن المطر كان كثيرا ما يخذلنا. أحيانا لا يسقط إلا في قطرات قليلة، وأحيانا يتحول إلى سيول جارفة لا تجدي أمامها كل الجسور الرملية التي نقيمها.. إنها علاقة قائمة على خطر دائم.مرة أخرى نتحدث عن التحدي الذي تثيره الطبيعة في نفس الإنسان. ولكن "مطماطة" أرض طاردة بلا شك. في كل عام يهاجر الكثير من أبنائها. ومعروف أنه في كل فرن لصناعة الخبز في تونس يجب أن يوجد خباز من "مطماطة" لأن شهرتهم وبراعتهم في المجال معروفة، ويكفي أن يقول أنا من "مطماطة" حتى يقبل للعمل فورا.وهذه الهجرة المستمرة دفعت المرأة إلى مكان الصدارة في المنزل. إنها هي التي تحافظ على استمرار الحياة والبقاء في تلك البقعة الصعبة. وهي لديها الكثير من الحس الجمالي أيضا يبدوذلك واضحا في المنسوجات الصوفية التي تقوم بصنعها في التنسيق الذي يبدوواضحا في البيت برغم جوالخشونة الذي يحيط بها.ذهبنا إلى الفندق. أعني هبطنا إليه. كان فندقا كبيرا مكونا من عدة أجنحة. أعني من عدة حفر. تتصل ببعضها بواسطة ممرات، أعني سراديب. وكان ممتلئا بالسائحين. القليل منهم يقضي الليل في هذا المكان، ولكن معظمهم يأتي مشدودا لغرابة المكان، وللعروض الشعبية ولأكلة "الكسكسي" اللاذعة ثم يعودون إما إلى "قابس" أو إلى "جربة&q uot;.

والفندق يحتوي على عدة غرف، أعني حفرا صغيرة، كل واحدة منها هي غرفة نوم متقشفة إلى أبعد حد. جلسنا لنتناول الغداء داخل ممر طويل. كان الجو داخل الأرض مدهشا.. معتدلا إلى حد رائع. كأنه قد صنع على مقياس درجة حرارة جسدك. وكانت وجبة "الكسكسي" كعادتها دسمة وحارة وشهية.

ولكن هل يستمر هذا النمط من الحياة. أم أن "مطماطة" رغما عنها بدأت تتغير. لقد هاجر البعض إلى "مطماطة" الجديدة. وبدأ البعض الآخر يبني بيوتا أسمنتية فوق الأرض، وبدأ طوفان التغيير- الذي أصاب كل شيء في العالم - يصيبهم هم أيضا.

كيف يمكن أن أودع تونس بعد هذه الرحلة؟! إن الذهن مشغول بالقضايا، والقلب مفعم بالحنين والرحيل إلى تونس لا يشبع منه أبدا.

 

محمد المنسي قنديل 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




تونس..من قمة المسرح إلى باطن  الأرض





مشهد من مسرحية ميديا..ميديا من لبنان إخراج سهام ناصر.





المسرح الروماني، بقايا الحضارة التي غلبت قرطاج





مشربيات وعطر من الماضي





أحمد حلاوة.. ملك خائف من ضياع مدينته في ديوان البقر





مشهد من مسرحية بياع الهوى تونس





رحلة ماركو بولو إلى بلاد الصين كما قدمتها إسبانيا.





جهاد سعد وخديجة غالب في العرض السوري كابجولا





بديع الهمزاني يحمل صاروخا في مسرحية حلم الهمذاني - السعودية





روميو وجوليت إيطاليا. عرض تقليدي للكوميديا ديلارتي





جهاد سعد وخديجة غالب في "كاليجولا".. صرخة ضد الطغيان من سوريا





أحيانا تستلزم حرارة الجو بعض قبعات القش..





أهالي "مطماطة" بالملابس التونسية التقليدية





مدخل أحد بيوت "مطاطة" درج من الحجر.





أزقة ومشربيات نفحات من الأندلس القديم





شارع في سيدي بو سعيدي. قصيدة جملية كلماتها بيوت وأبواب ومشربيات وعطر من الماضي





داخل إحدى الحجرات.. أقصد أحدى الحفر.. غرفة خزين الطعام، كل شيء مرتب ومنظم





القرية كلها تحت الرض .وما فوق الأرض هو مجرد استثناء.





برغم الجبل لا تكف سيدة المنزل عن العمل. لذلك فحفرتها نظيفة دائما





في باطن الأرض توجد الغيران أو بيوت "مطماطة" التقليدية





تونس الخضراء وحنين لايقاوم. شارعها الرئيسي، شريان في القلب