التجربة اليابانية شوقي جلال

التجربة اليابانية

المؤلف: نجم الثاقب خان

ولم يقتصر أمر البحث والتساؤل على القوى المتقدمة التي تجد في اليابان منافسا جادا وخطيرا لها، بل إن الظاهرة اليابانية أثارت تساؤل واهتمام كل البلدان النامية المستقلة حديثا، الطامحة إلى الاهتداء لسبيل للتقدم، الطامحة إلى شق طريق يرفع عن شعوبها نير المعاناة بعد أن سقط عنها نير الاستعمار وتلحق بركب الحضارة والتحديث.

والكتاب الذي نعرض له أحد هذه الجهود الطموح لمؤلفه نجم الثاقب خان وقد صدر عام 1993 تحت عنوان "التجربة اليابانية وبناء الأمة في جنوب شرق آسيا" ويقع في 217 صفحة، ونشرته دار اليابان تايمز - طوكيو.

المؤلف أحد المسئولين وشهود العيان الدارسين المحللين. راوده منذ شبابه حلم التقدم بأن يرى بلاده، الهند الكبرى أولا قبل الاستقلال، ثم باكستان بعد الاستقلال، وقد شقت طريقها صاعدة مدارج التقدم. وكان حلمه الإنساني رحبا يتجاوز حدود بلده إلى جميع بلدان جنوب غرب آسيا بل وجميع البلدان النامية، ومن هنا تقلبت حياته منذ شبابه بين إعجاب بالزعامات الكاريزمية وخطاباتها الحماسية وقدرتها على تجميع الصف الوطني، ولكن حول شعارات وكلمات بلاغية سرعان ما خبا وهجها، وخلفت إحباطا ملأ النفوس أسى لأن الزعماء حلقوا وراء أوهام، وأداروا رءوس شعوبهم بكئوس العبارات الإنشائية وأحلام اليقظة، ولم يقفوا أبدا على أرض الواقع قيادة وهدفا. ودفعهم هذا إلى إحكام القبضة المتسلطة، وإهدار الحقوق المدنية.. حقوق المشاركة النشطة في تحمل مسئولية إدارة شئون الأمة.. شئونهم هم.. حقوقهم وواجباتهم.. وضاع الزعماء، وضاعت شعوبهم.

ولكن المؤلف في ختام حياته الدبلوماسية عاش في اليابان وعايش التجربة اليابانية، وناقش وناقض فكره. وتعرف أسباب نهضتها ولم يشأ أن يظل محصورا ومحاصرا داخل كهف أيديولوجي، بل انطلق بفكره جريئا ليحاور نفسه، ويقدم خبرته ورؤيته للشعوب النامية.

اليابان بطل القرن الحادي والعشرين

المؤلف نجم الثاقب خان دبلوماسي باكستاني، تنقل بين العديد من العواصم العالمية الكبرى من بينها عواصم لبلدان العالم الثالث في مراحل مواجهتها لتحديات التطور ثم إلى اليابان. وأبدى المؤلف طوال رحلة حياته الدبلوماسية اهتماما كبيرا بدراسة التاريخ والاقتصاد والعلاقات الدولية. صاغ نظرته عن شئون الإنسانية في ضوء الدراسات المقارنة ومناهج البحث المتداخلة، مما يسر له سبر أغوار الظاهرة موضوع بحثه واكتشاف علاقاتها وأسبابها. وكان دائما مفتونا باكتشاف أنماط التحول والنموفي المجتمعات واستظهار نتائج عمليات التطوير والتقدم ورفاهة المجتمع. ويبدي اهتماما بالسلام في عالم ما بعد الحرب إذ يراه مناخا ملائما للتقدم إذا صدقت النوايا وصحت العزائم. ويعمد المؤلف في دراسته هذه إلى تفسير التجربة اليابانية وبيان دلالتها بالنسبة لبلدان جنوب غرب آسيا موضحا كيف أن اليابان تجربة جديرة بأن تحتذيها الأمم لا أن تحاكيها.. ويرى أن اليابان الآن مؤهلة لأن تكون بطل القرن الحادي والعشرين ومعها البلدان الآسيوية المطلة على المحيط الهادي. إذا كان يدعوإلى الاقتداء الواعي لا إلى المحاكاة العمياء فإنه يوضح أن حافز التحديث في بلدان جنوب غرب آسيا سيكون حتما مختلفا ومتمايزا وإلا وقعنا في خطأ التغريب ويقول: إن ثمة تحديات بفعل عوامل سلبية: قدرة البشر على فهم قضايا تخلفهم والقدرة على الاستجابة الصحيحة لحوافز التقدم والارتفاع بأنفسهم إلى نوعية حياة أفضل وأن يكون سبيلهم إلى ذلك إرادة قوية، ومعارف علمية، وممارسات صحيحة.

ومن هنا فإن أولى المهام هي التنمية البشرية، أداة وأساس وهدف التنمية الاقتصادية، وتتمثل التنمية البشرية في بلوغ المواطن العام مستوى رفيعا من حيث التعليم والمهارات والحقوق والواجبات. ويؤكد هنا دور الصفوة، ويقارن بين الصفوة في اليابان وفي بلدان جنوب غرب آسيا. إذ كانت الصفوة في اليابان بما حملته من مسئولية وقيم عاملا أسهم في حل مشكلة التقدم الاجتماعي، بينما هي بتخلفها الفكري والقيمي تمثل جوهر المشكلة الاجتماعية في بلدان جنوب غرب آسيا لما تفرضه وتشيعه من قيم وتقاليد واتجاهات تتعارض مع عملية التقدم وتتمحور حول المصالح الأنانية.

اختلاف دور الصفوة

للصفوة في رأي المؤلف دور أساسي لإيقاظ الأمة، هذا إذا ما كانت الصفوة تجسيدا صادقا ومسئولا للقيم الجديدة في سلوكها وممارساتها وفيما تستنه من معايير للإنجاز في الحياة الشخصية والعامة، وفي تحديد الأولويات وما تقيمه وتدعوإليه من مؤسسات تحقق التقدم الوطني السريع.

ويشير المؤلف إلى نقطة مهمة مفادها أن الظروف الجغرافية والتطور التاريخي والتقاليد الثقافية تؤثر جميعها تأثيرا كبيرا في مواقف مجموعات الصفوة ونظرتها وتفضيلاتها. ومن ثم يطرح سؤاله: ما هي طبيعة هذه الفوارق بين صفوة هنا وصفوة هناك؟

الصفوة في اليابان حملت هموم أمتها صادقة إذ أدركت أن الفجوة بينها وبين الغرب فجوة معرفية وعلمية وتكنولوجية صناعية. ولكن الصفوة في جنوب غرب آسيا تصورت أنها فجوة دستورية وسياسية حقوقية، ومن ثم توهمت أن الاستقلال السياسي هو الهدف أولا وفيه الكفاية دون حاجة إلى استكمال ذلك بمؤسسات ديمقراطية وهياكل اقتصادية واجتماعية وثقافية.

والصفوة في اليابان بحكم ثقافتها تؤمن بالتغير والفضول المعرفي والشورى وتوافق الرأي. ولذا كان أهم إسهام محلي لليابان في مجال علم الحكم هو وجود نظام عالي التطور للمناقشة وتسوية الخلافات وبناء توافق الرأي والمسئولية المشتركة، أما الصفوة في بلدان جنوب غرب آسيا فإنها لا تؤمن بأن التقدم مسيرة تغيير وتحول عن المجتمع التقليدي، وإنما ثقافتها سكونية، وتؤمن بأن الثبات والاستقرار فضيلة.

الثقافة والتنمية

وفي استعراض مهم لدور الثقافة الحاكم لنوع الاستجابات السلوكية على الصعيد الاجتماعي يقارن المؤلف بين استجابة اليابان واستجابة الصين للتحدي الغربي.. ويناقش الاستجابة عند كل منهما في ضوء عوامل متعددة الوحدة الوطنية - التدخل الأجنبي - دور السلطة - دور الصفوة - الجغرافيات - الثقافة والقيم.

ويوضح هنا أن الصين واجهت التحدي الغربي وهي تعاني من افتقار للوحدة الداخلية وعدم استقرار وصراع على السلطة وعجز عن حشد الموارد المالية للتنمية وندرة المواهب الإدارية لمعالجة قضايا الحكم الحديثة، وفقدان مرونة التقبل والتغيير. وكانت الصفوة الصينية تتقن الكلاسيكيات فقط أي علوم السلف قانعة بها، عازفة عن سواها. وساد الصين مزاج مقاومة الابتكار والتقدم، والنزوع إلى الانغلاق والاكتفاء الذاتي. وأفضى بها هذا الوضع إلى هزائم متلاحقة أفقدتها الثقة بالنفس وأعجزتها عن وضع إستراتيجية وطنية للتنمية وعن الابتكار والتقدم.

ولكن اليابان هي الوجه المقابل لهذا كله. ولقد تحولت مع عصر الإصلاح الذي بدأ مع تولي الإمبراطور ميجي السلطة عام 1868 إذ حققت ثورة ثقافية ودستورية وتعليمية وتشريعية واقتصادية.. أي ثورة تحديثية شاملة لبناء دولة حديثة.

ويشير المؤلف في معرض تحليله النقدي الذكي إلى وحدة الأصول التراثية بين الصين واليابان.فالصين واليابان تسودهما القيم الكونفوشية التي تركز على التعليم والانتظام، ولكن الممارسة مختلفة بينهما. فاليابانيون عمليون في تفسير الكونفوشية وفقا للظروف المتغيرة، والتطويع الانتقائي لكل أساسيات الحياة. ولكن الصينيين حرفيون غير فضوليين، والصفوة من المتعلمين البيروقراطيين.

لهذا لم يكن غريبا أن الصينيين لم يحاولوا استيعاب الأسلحة الغربية التي تهددهم ليحسنوا مواجهتها على نحو ما فعل اليابانيون. ونلاحظ أن طموح المواطن الصيني محصور في أن يتعلم ويدخل في زمرة البيروقراطية والثراء الشخصي. وإذا سلمنا بأن الصين واليابان كان لهما موقفان غير متماثلين في التصدي لتحدي الحداثة فإن السؤال الضروري في نظر المؤلف: هو كيف كانت التقاليد والقيم ومجموعات الصفوة معرقلة أم ميسرة لعملية تحويل الاقتصاد والمجتمع في كل منهما؟ ويجيب عن السؤال في ضوء ما أسلفناه بأن اليابان تؤمن بضرورة معرفة العدوواستكشاف سر قوته، وامتلاك هذا السر، أما الصين فقد استنامت إلى عقدة عظمة هي إرث الماضي.

التعليم والمشروع الياباني

يختم المؤلف الفصول العشرين من كتابه بفصل يوجز فيه الدروس المستفادة من التجربة اليابانية من أجل بناء الأمة الحديثة، الفصول التسعة عشر هي استقصاء ومسح للقطاعات الأساسية للمجتمع والاقتصاد الياباني منذ عصر الميجي لبيان السمات المميزة للتجربة اليابانية والتي أغفلها - خطأ - المثقفون في بلدان العالم الثالث لعدم توافقها مع معتقداتهم وأهوائهم.

ولقد ناقش الكاتب في الفصول السابقة وبإفاضة عهد الميجي والسياسات الرئيسية التي تمثل انفصالا واضحا عن الماضي والتي أخذت بها اليابان في سبيل التحديث. وأعطى أهمية لعهد الميجي لما رآه من تماثل مرحلي تنموي بين هذا العهد ومراحل النموفي بلدان جنوب غرب آسيا.

وبحث السياسة الصناعية في إطار دولة التنمية ونظام المشروع الياباني والجوانب التنافسية والمجتمعية للشركات اليابانية والانفتاح على التكنولوجيا ونشرها، وهنا ناقش دور التعلم كعامل محوري في الأداء الاقتصادي، جمع بين التقليد والابتكار، وكذلك بين الأصالة والحداثية، وأوضح أن التعليم الأولي الشامل كان ركيزة النهضة وتنمية الإنسان الياباني وتهيئته لتلقي علوم وتكنولوجيا العصر الحديث وتوحيد قيمه ورؤاه ونظرته إلى ذاته وتاريخه وإلى العالم من حوله وإلى مستقبله إزاء التحديات التي تواجهه، ولذا فقد أسهم التعليم في دعم أخلاقيات العمل والاعتماد على الجهد الذاتي والمثابرة في اكتساب المعرفة والمهارات.

وتناول المؤلف على نحو شجاع وحذر مسألة تفرد اليابان أو المعجزة اليابانية، وأبرز هنا سمات ثقافية أساسية تميز اليابان حتى عن بلدان أخرى تشاركها حكمتها، ومعتقداتها الكونفوشية مثل الصين. وأوضح دور توافق الرأي كدعامة للسلطة ولحركة المجتمع والوعي الوطني واختيار الأولويات. وقد ساهم هذا في اختزال قرون التخلف إلى بضعة عقود، وضاعف من حراك المجتمع التقدمي.

ويخلص إلى تحديد مجالات معينة يعتقد أن التجربة اليابانية كشفت عن أهميتها بالنسبة لبلدان العالم الثالث وهي بمنزلة دروس حري بنا استيعابها.

1 - نشر مفهوم التقدم مع الجمع بين الحداثة والتراث والتقدم يعني التغيير انطلاقا من عدم الرضا عن الواقع. ولا بد أن يكون التقدم بهذا المعنى هو المزاج الاجتماعي السائد في مواجهة تحديات واقعية، وهو شرط الأمان الاجتماعي والأمن القومي، ويتعين التفرقة بين التحديث والتغريب. وإذا كان التحديث بدأ في الغرب إلا أنه يتضمن أفكارا ومبادئ لها انطباق عالمي مثل زيادة سيطرة الإنسان على قوى الطبيعة وإجراء تغييرات هيكلية في المجتمعات توفر حقوقا مدنية وسياسية واقتصادية للإنسان العام دون تمييز، وتحول المعرفة والعلم إلى قوة. ولكن دون أن يعني هذا كله التخلي عن قيم تقليدية وميراث ثقافي وروحي تماما مثلما فعلت اليابان "علوم الغرب وروح اليابان".

2 - مجموعات الصفوة والحكم القائم على توافق الآراء: توضح تجربة اليابان أن الالتزام بالأهداف الوطنية وتوافق الآراء في القيادة بشأن أولويات الإصلاح ومحتواها أمر ضروري لنجاح عملية التحديث.

3 - أولوية قصوى للأمن الاقتصادي في تخصيص الموارد: أعطت اليابان بعد الحرب أولوية قصوى للتنمية، ووصلت بالإنفاق العسكري الدفاعي إلى أدنى حد من الناتج القومي الإجمالي وتوجيه الوفورات للتعليم والرفاه الاجتماعي والخدمات، ومن ثم فإن رسالة اليابان إلى بلدان العالم الثالث الغارق في المنازعات أن الإنفاق العسكري الذي يفوق طاقة الاقتصاد يدمر التنمية، وأولى بها أن تضع في الصدارة القضاء على الفقر والتنمية البشرية.

4 - نشر التعليم على نطاق واسع: حظي التعليم في اليابان باهتمام بالغ لجوانبه النفعية لاكتساب المهارات والمعرفة وتنمية البشر وخلق أساس لنشر التكنولوجيا وتنمية القدرة على المنافسة الدولية، كما أن التعليم كان أساسا للحفاظ على الهوية القومية وتدعيم التكامل الوطني وجذب الجماهير إلى التيار الرئيسي للحياة الوطنية. وأوضحت اليابان أن التعليم أرخص وأنجح وسيلة للدفاع عن الوطن ومسيرة تقدمه وتوحيد رؤية الأمة والتحول عن البلاغة العاطفية إلى العقلانية. لذلك لم يستهدف التعليم الإلزامي في اليابان توفير مهارات القراءة والكتابة والمهارات الأساسية فحسب، بل استهدف أيضا تعليم الفضائل المدنية، وغرس عادات الكد والتعلم، وإيقاظ وعي المواطن لإمكانات التغيير والنمو في حياته.

5 - الإصلاح الزراعي ركيزة التحديث والتنمية هو أهم الإصلاحات قاطبة خاصة أن الأسر الزراعية تمثل أغلبية السكان، وأسهم في الإقلال من الفقر في الريف، وكان أساسا لسياسة التنمية الاقتصادية والبشرية، وأساسا للاستقرار الاجتماعي السياسي، وتشير الدراسة إلى تقرير يؤكد أن العالم مهدد بأخطار داهمة تتفجر في البلاد التي يبلغ فيها الفلاحون المعدمون نسبة 30 بالمائة من جملة السكان.

6 - القدرة على المنافسة والتصدير ورفع مستوى المعيشة كان سبيل اليابان إلى ذلك هو دعم قدرتها على المنافسة في مؤسساتها التعليمية وفي اقتصادها ومجتمعها.. تنافس الطلاب لضمان الالتحاق بالكليات أو المهن المطلوبة. ولم يكن أمام اليابان غير الاعتماد على الصادرات للحفاظ على اقتصادها وتطويره، ومن ثم مواجهة تحديات المنافسة العالمية باكتساب المهارات وتطويع التكنولوجيا الجديدة.

7 - اتخاذ القرارات وتنفيذها: من السمات البارزة في المجتمع الياباني القدرة على تنفيذ القرارات بسرعة وفعالية حيث يتم بمشاركة جامعة من قبل مختلف الفئات والمسئولين والعاملين والمنفذين، على أساس من التشاور والتفاوض والبحث عن أكبر مساحة للاتفاق وتجنب الصدام.

 

شوقي جلال

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




التجربة اليابانية وبناء الدولة في شمال آسيا





أجيال جديدة تحلم بالمستقبل في اليابان