إبداع المرأة وإبداع الرجل شاكر عبدالحميد

إبداع المرأة وإبداع الرجل

لماذا نجد أن معظم كبار المبدعين في الأدب والعلم والفن هم دائما من الرجال؟ وإذا كانت هناك إضافات بارزة لبعض النساء في مجال الإبداع العلمي (ماري كوري) مثلا وإضافات أكثر نسبيا للمرأة في مجال الإبداع الأدبي (بيرل بك والأخوات برونتي ومرجريت ميتشل وماري كوريللي وفرجينيا وولف وجورديمر) مثلا فلماذا لم تظهر امرأة واحدة مبدعة كبيرة في مجال الموسيقى أو النحت أو التصوير والرسم؟

هل يختلف الذكور عن الإناث في التفكير والشعور والسلوك؟

الأفكار والمعلومات الشائعة حول الفروق بين الجنسين بعضها وهمي، وبعضها خلافي وبعضها الثالث حقيقي : فمثلا من الأفكار الوهمية ما يقال من أن الذكور أكثر اجتماعية من الإناث أو العكس، فقد أظهرت الدراسات أن الضغوط والمؤثرات الاجتماعية هي المحدد الحاسم (إضافة إلى سمات الشخصية) في جعل بعض الذكور أكثر اجتماعية وبعضهم أكثر انطوائية، وأن نفس الشيء صحيح بالنسبة للإناث أيضا.

ومن المعلومات الخلافية ما أظهرته بعض البحوث من أن الإناث أكثر اعتمادية، بينما الذكور أكثر استقلالية، أو أن الذكور أكثر فضولا وحبا للاستطلاع من الإناث، والنتائج هنا غير متسقة وغير حاسمة.

أما فيما يتعلق بالمعلومات الواقعية حول الفروق بين الجنسين فلعل أهمها :

1 - فيما يتعلق بالجوانب الجسمية والحركية والحسية : تكون الإناث أكثر تقدما من الناحية الجسمية والعصبية عند الولادة مقارنة بالذكور، كما أنهن أكثر تبكيرا في المشي وفي البلوغ، أما الأولاد فيحدث لديهم ارتقاء عضلي أكثر نضجا، ويكون حجم القلب والرئتين لديهم أكبر، كما أنهم يكونون أقل حساسية للألم عند الولادة.

وتحدث لدى الأولاد معدلات وفاة أكبر، كما أنهم أكثر عرضة للأمراض وسوء التغذية والتشوهات الوراثية مقارنة بالبنات، وبذلك فإن البنات - ومن ثم النساء - لسن هن الجنس الأضعف - يقينا - كما يشير بعض علماء النفس.

2 - فيما يتعلق بتكوين المخ ووظائفه فقد أظهرت التحليلات السيتوباثولوجية (علم أمراض الأنسجة) أن نمو عمليات الميلنة (أي تكون العنصر الأساسي في المادة البيضاء في الخلايا العصبية)، وكذلك ارتقاء شجيرات الخلايا العصبية، (التي تساهم في نقل الرسائل العصبية عبر الخلايا) في النصف الكروي الأيسر من المخ يكونان أكثر تقدما لدى الإناث (خاصة الأطفال). أما لدى الذكور (من نفس السن) فإن النصف الكروي الأيمن من المخ يكون أكثر ارتقاء. وقد قدمت هذه البيانات لتأييد القضية المؤكدة لحدوث تمكن أو اقتدار لغوي مبكر لدى البنات، لكن الدراسات الحديثة أشارت إلى أن البنات يكن أكثر إنتاجية من الناحية اللفظية المرتبطة بالطلاقة (عدد الكلمات) والمرتبطة بسرعة التعلم، لكن الفروق بين الذكور والإناث فيما يتعلق بالفهم اللفظي والاستدلال وحجم المفردات ليست فروقا دالة. إن القول بوجود بعض الفروق في تكوين المخ لدى الذكور والإناث هو نقطة جوهرية في هذا المقال، ولذلك فهو يحتاج منا إلى مناقشة أكثر تفصيلية.

المخ والإبداع

1 - يشتمل المخ بشكل عام - سواء لدى الذكور أو الإناث - على نصفين شبه كرويين، يشتمل النصف الأيسر على مراكز اللغة الكبرى، وعادة ما يكون هذا النصف لدى الإناث أكبر حجما وأقوى في عملياته اللغوية، مقارنة بمثيله لدى الذكور. أما النصف الأيمن فيتعلق بالوظائف الخاصة بالإدراك البصري المكاني والخيال والأحلام، وهو لدى الذكور أكبر حجما مقارنة بمثيله لدى الإناث.

2 - يربط بين هذين النصفين شبه الكرويين للمخ قنطرة يطلق عليها اسم "الجسم الجاسئ" وأحيانا ما تسمى أيضا "المقرن الأعظم" وذلك لأنها تقوم بعقد القران أو إحداث التزاوج بين الرسائل البصرية الخاصة بالنصف الأيمن من المخ والرسائل اللغوية الخاصة بالنصف الأيسر من المخ. وهذه القنطرة العصبية هي أكثر اكتنازا بنسبة 40% لدى الإناث مقارنة بحجمها لدى الذكور، ولذلك فهناك احتمالات أكبر لنقل الرسائل العصبية البصرية واللغوية بشكل أكثر سهولة لدى الإناث مقارنة بالذكور.

3 - لكن هناك احتمالات أيضا لأن يكون حجم ومحتوى الرسائل اللغوية التي تنقل من النصف الأيسر من المخ إلى النصف الأيمن (البصري - الخيال) لدى الإناث أكثر من حجم ومحتوى الرسائل البصرية التي تنقل من النصف الأيمن إلى النصف الأيسر لديهن، بينما يحدث عكس ذلك لدى الذكور.

4 - الوظائف الأساسية للنصف الأيسر من المخ هي : النشاطات اللفظية والعددية، النشاطات المنطقية والعقلانية، والمتسلسلة أو المنظمة، والخاصة بالتحليل وتنظيم الأجزاء، وهي بشكل عام نشاطات اتفاقية اتباعية، ملتصقة بالحقائق والواقع.

5 - الوظائف الأساسية للنصف الأيمن هي : الإدراك البصري المكاني، التفكير الحسي والإدراكي، الحدس، التلقائية، الإبداع، الربط بين الأجزاء لتكوين الكل أو المشكلة، الخيال والأحلام والأساطير والتفكير التباعدي، الرمزي الاستعاري الإبداعي المجازي.

6 - ينشط هذان النصفان معا لدى أي إنسان - سواء كان ذكرا أو أنثى - وهما يتفاعلان معا في نشاطات عديدة : مثلا خلال القراءة أنا أقرأ أساسا بالنصف الأيمن من المخ (إدراك بصري) لكني أعبر عما فهمته بالنصف الأيسر (اللغوي) وخلال مشاهدتي لأحد الأفلام السينمائية الأجنبية والتي تصاحبها ترجمة باللغة العربية، أشاهد الفيلم وأقرأ الترجمة بالنصف الأيمن، لكني أفسر معاني الكلمات وأفهمها بالنصف الأيسر، وبذلك يكون استمتاعي بالفيلم محصلة لتفاعل نصفي المخ معا. لكن حجم ونشاطات النصف الأيمن من المخ التي سبق أن ذكرناها هي أكثر نشاطا لدى الذكور، مقارنة بالإناث، بينما حجم وظائف النصف الأيسر هي أكثر نشاطا لدى الإناث، وربما كان هذا الفارق هو المسئول عن ظهور مبدعات من الإناث في مجال الأدب أكثر منهن في أي مجال آخر. ومع ذلك فهن لسن الأكثر إسهاما في الإبداع الأدبي حيث يظل إسهام الذكور عبر تاريخ الإبداع الأدبي أكثر بروزا. كذلك أظهرت الدراسات التي أجريت على الإبداع الموسيقي أن الذكور أكثر تفوقا من الإناث فيما يتعلق بعنصري اللحن والهارموني بينما الإناث أكثر استجابة للإيقاع.

هل هناك فروق بين الرجل والمرأة في التذوق الفني؟

تشير الدراسات السيكولوجية الحديثة إلى وجود فروق بين الذكور والإناث في التذوق الفني وفي التفضيل لبعض الأعمال الفنية، إذا وضعت في مواجهة أعمال فنية أخرى (أعمال تجريدية في مقابل أعمال تمثيلية مماثلة للواقع). لكن هذه الدراسات تشير إلى أهمية وضع سمات الشخصية والفروق الحضارية في الاعتبار أيضا. قد أظهرت بعض الدراسات أن الإناث يفضلن الألوان الأخف تشبعا وكثافة، بينما يفضل الذكور الألوان الأكثر تشبعا وكثافة، وأن تفضيلات الإناث لبعض الأعمال الفنية تتوجه من خلال اللون أكثر من توجهها من خلال الشكل، بينما العكس صحيح لدى الذكور. لكن دراسات أخرى أظهرت أن الإناث يفضلن أيضا الأشكال المركبة أكثر من تفضيلهن للأشكال البسيطة، وقد كانت هذه النتيجة محيرة لعديد من العلماء وذلك لأنهم افترضوا أن تفضيل الأعمال الفنية المركبة يرتبط بالإبداع، وأن الذكور يفضلون الأعمال المركبة ويتذوقونها أكثر، بعكس الإناث اللائي لأنهن - في رأيهم - أقل إبداعية، فهن يفضلن الأعمال الفنية البسيطة. وقد قدم بعض الباحثين تفسيرا لهذه النتيجة الغامضة من خلال طرحهم للفكرة القائلة بوجود توجه قوي لدى المرأة نحو الفن، لكن هذا التوجه لا يتم تحقيقه في معظم الحالات لأسباب اجتماعية من بينها دفع المجتمعات في عمومها المرأة نحو المسايرة والانصياع، كما أن صورة المرأة عن نفسها من الأمور المهمة هنا، فهي في كثير من الحالات لا تعتبر نفسها فنانة أو مبدعة، بل ربة منزل، كما أن المجتمع لا يشجعها على الفن بقدر ما يشجعها على رعاية الأسرة، بينما يحدث عكس ذلك تماما بالنسبة للرجل.

توسيع حدود الإبداع

في كتابه "الدافعية والشخصية" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1970 يتحدث عالم النفس الأمريكي إبراهام ماسلو عن ارتباط الإبداع بتحقيق الذات، وأن تحقيق الذات هو شكل من أشكال الإبداع، وأن الإبداع هو أيضا أحد أشكال تحقيق الذات. وقد طالب ماسلو في هذا الكتاب، (أعاد تلاميذ ماسلو طبعة مزيدة عام 1987 بعد وفاة صاحبه) بتوسيع حدود فهمنا لمعنى الإبداع، فالإبداع ليس شرطا أن يكون موجودا فقط في تلك المجالات المعروفة كالعلوم والأدب والموسيقى والرسم...إلخ. لكنه يمكن أن يكون موجودا في أي مجال من مجالات الحياة. في السياسة، في العلاج النفسي، في الخدمة الاجتماعية، في تضميد جراح الآخرين النفسية، في رعاية الأطفال، في التدريس، وفي تعليم البشر بشكل عام. وقد ذكر ماسلو مثالا خاصا بامرأة قام بدراسة عليها كانت ربة منزل وأما ولم تكن تقوم بأي نشاط إبداعي من النشاطات المعروفة المألوفة لكنها كانت زوجة وأما، وربة منزل شديدة المهارة، لقد كانت قادرة من خلال نقود قليلة على جعل منزلها يتسم بالجمال الشديد، وكانت تتمتع بحاسة فائقة في اختيار الملابس والفضة والأواني الزجاجية والفخارية والأثاث المنزلي، كما كانت في سلوكياتها تتسم بالأصالة والفطنة والتجديد والقيام باختيارات سلوكية بارعة وغير متوقعة وجديدة. ومن ثم لم يتردد ماسلو في أن يسميها "ربة منزل مبدعة" وقال إنه تعلم منها أن "حساء من الدرجة الأولى" يمكن أن يكون أكثر إبداعية من لوحة من "الدرجة الثانية" وأيضا أن "فن الطهو والأمومة الراقية يمكن أن يكونا أكثر إبداعية من قصيدة لا تتسم بالإبداع"0 لا يهدف كاتب هذا المقال بأي حال من الأحوال إلى المناداة بتضييق حدود إبداع المرأة، بل العكس هو الصحيح، فالهدف هو توسيع مدى إبداع المرأة، بحيث لا يقتصر على المجالات التقليدية فقط (أدب - فنون - علوم.. إلخ). وبحيث يمتد إلى آفاق الحياة المختلفة. هذا صحيح سواء بالنسبة للمرأة أو بالنسبة للرجل، فالإبداع الذي يشتمل في جوهره على تقديم كل ما هو جديد ومناسب يمكن أن يكون موجودا في شتى نشاطات الحياة، سواء كانت هذه النشاطات خاصة بالرجل أو خاصة بالمرأة.

 

شاكر عبدالحميد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات