حتى لا نظل في فناء العالم الخلفي.. موقع العرب في عصر المعلومات

حتى لا نظل في فناء العالم الخلفي.. موقع العرب في عصر المعلومات

حديث الشهر

العالم يتغير بسرعة نتيجة توغل التقنيات الحديثة في حقول المعرفة، وما لم نتأهب ونتأهل للحاق بهذا التغيير فإننا سنخسر كثيرا كثيرا

تقول الإحصاءات إن من شاهد كأس العالم في دورته الأخيرة في فرنسا والتي انتهت في أواخر الشهر الماضي، وصل عددهم إلى أربعة مليارات مشاهد، أي حوالي ثلاثة أرباع سكان هذا العالم الذي نعيش فيه، وعند المقارنة بين هذه الدورة الأخيرة في نهاية القرن والدورة التي سبقتها في سنة 1994 أي قبل أربع سنوات فقط حيث قدر عدد المشاهدين وقتها ببليون مشاهد فقط نرى بوضوح الفرق الهائل، أي انه خلال أربع سنوات تضاعفت أعداد المشاعدين أربع مرات، أما إذا أردنا أن نقارن بين ذلك وبين الدورة الأولى لكأس العالم التي عقدت في الأورجواي في سنة ،1930 أي قبل اقل من سبعون عاما من الدورة الأخيرة فإننا سوف نحصل على رقم متواضع لا يتعدى بضعة الآلاف من الذين حضروا تلك المباريات في تلك الدولة الأمريكية اللاتينية. المهم انه خلال الأربع سنوات تقدم الاتصال العالمي بما يشبه الثورة.

مثال عدد المشاهدين الضخم لمسابقة كأس العالم الكروية الأخيرة هو فقط لتقريب المقارنة لما يشهده عصرنا من تطور في مجال الاتصالات. لقد كنا نقول لطلابنا إن المعرفة الإنسانية تتضاعف كل عشر سنوات، وها هي اليوم تكذب قولنا ذاك لأنها تتضاعف كل بضع سنين.

مثلما غير اختراع الطباعة إلى الأبد الطريقة التي بها نتعلم ونتواصل ونحصل على المعلومات والتي في أثرها شهدت البشرية ثورة صناعية وتقنية هائلة سماها المؤرخون الحضارة الجديدة، فإن تقنية عصر المعلوماتية والإتصال ستغير من جديد طرق حصولنا على المعلومات، ولكنه تغير ثوري خارق إن صح التعبير إذ تعجز المخيلة الآن عن تصور أبعاده والنتائج الإنسانية المترتبة عليه.

ثورة المعلومات التي نشهدها هي نتيجة لمزج صناعتين سريعتي التطور هما الكمبيوتر الشخصي والاتصالات الرقمية، هاتان الصناعتان كانت بدايتهما العملية قريبة، فقط في أوائل الثمانينيات، عندما بدأ الكمبيوتر الشخصي يغزو العالم ويحصل على مكانة عالمية، وأخذت التقنية الموظفة فيه تمد يدها وتتفاعل مع نقل المعلومات، فأصبح التطور في الصناعتين يتغذى على نفسه وينمو بشكل هائل مثل وحش خراقي يتجسد في الواقع. ولقد اهتمت الدول المتقدمة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وعلى اعلى المستويات ومنذ انتخاب الرئيس بيل كلينتون 1992 بهذا التطور التقني إلى درجة أن صناعة الطرق السريعة للمعلومات وما يتفرع منها قذ أخذت جزءاً كبيراً من شغل الإدارة الأمريكية الجديدة لمعرفتها بالأهمية الاستراتيجية لهذه الصناعة، وفرغ لها جزئيا نائب الرئيس آل جور، على هذا المستوى وبتلك الأهمية تواجه الدولة العظمى الأولى في العالم هذا القادم الكبير وتحتضنه.

دول الاتحاد الأوروبي هي الأخرى لم تبتعد عن مراقبة هذا التطور الهائل في "المجتمع المعلوماتي"، ويعرف هذا التجمع الدولي الجديد في أوروبا مدى تأثير هذه الصناعة البالغ على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لذلك فإن لجنة خاصة هي لجنة البحث والتطوير الأوروبية لتقنية المعلومات والاتصال قد عقد لها اللواء منذ مطلع الثمانينيات للتأكد من مواكبة أوربا لهذه الصناعة المتطورة، وفي وسط الثمانينيات أطلقت أوربا ثلاثة برامج في هذا القطاع، وهي في مجالات الصحة، والأمن على الطرق، والتعليم عن بعد، وهي مجالات تستخدم فيها تقنية التعامل الحاسوبي مع المعلومات ونقلها بكثافة من أجل مصالح الجمهور الأوسع في الاتحاد الأوروبي الجديد، ولكنها ليست ولن تكون المجالات الوحيدة التي تستفيد من هذه التقنية.

الموجة الرابعة:

ثورة الاتصالات كما يراها الخبراء قد تطورت خلال ثلاث موجات رئيسية في ثورة التقنية، ومن البسيطة إلى المعقدة، وهي اختراع التليجراف، ثم التلفون. أما طرق المعلومات السريعة فقد حصلنا عليها كنتيجة لتفاعل الثلاثة اختراعات الأولى مع بعضها البعض، فهي الموجة الرابعة في هذه السلسلة من الجهد الإنساني المبتكر، أي تلك التي تنقل المعلومات "الصوت والصورة والنص المكتوب" عبر التلفون والكمبيوتر والتلفزيون، معا بسرية وبسرعة وبوضوح أيضا من أية بقعة في المعمورة أو القضاء إلى أية بقعة أخرى، ليدخل في المنازل والمكاتب متيحا إمكانية الاتصال المتعدد، والتنقل بين أكثر من طرف في زمن قصير، هذه الموجة الرابعة من الاختراع في هذا المضمار ستمثل للإنسانية من الأهمية مثل ما مثلته السكة الحديد، والكهرباء والسيارة، والطائرة عندما اخترعت.

شبكة الطرق السريعة للمعلومات تفترض شيئا آخر هو دخول مستخدميها من الأفراد والدول إلى عالم "العولمة" من أوسع أبوابها، فبناء شبكة وطنية لاستقبال هذا القادم الجديد يفترض بعده ان تخفض الأسوار الوطنية في الحماية والمنع، فتزال الحواجز، ويتأهل الموانطون كي يستقبلوا ويتفهموا ويتواءموا مع متطلبات القادم الجديد، بفهم أبعاده الصناعية والتقنية والمالية، والذي يتطلبه التعامل مع شبكة الطرق السريعة للمعلومات.

إن تمكن المعلومات من الوصول إلى الناس ببساطة ورخص نسبي في استقبالها وبثها بطرق مختلفة، سوف يساعد على تطوير مفاهيم عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر، الانغماس في السوق العالمي وقبول المنافسة وتسريع الإنتاج مع فهم جديد للثقافة والسياسة وكلما تطور المحتوى كلما تطورت الخدمة وكلما غيرت المفاهيم.

المجتمع الإعلامي الجديد الذي نستقبله دون وعي كبير منا، يمثل تحدياً لنا جميعا، يؤثر على القضايا الأمنية، والاقتصاد العالمي، كما يؤثر على النشاط الثقافي والاجتماعي بل وعلى العلاقات الأسرية، وقد يفيد الإنسانية إن تحققت له عوامل النجاح، ولابد من الأخذ بعين الاعتبار سلبياته أيضاً.

وبالتأكيد فإن التقدم التقني الذي اجتاح العالم في العقد الأخير، خاصة وجود شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت" وانتشارها، قد جلب معه تغيراً أساسياً في المجتمع، وبالتالي اثر على كيفية معالجة الأفراد والمجتمع والدول لقضاياهام، ولدينا مثالين عربيين ـ في الصحافة والفضائيات ـ أن أشرك القارئ معي للتفكير في كيفية تأثير ثورة الاتصالات عليهما، وبالتالي على المجتمع العربي الثقافي والسياسي على حد سواء.

الصحافة العربية والحدود

في الصحافة العربية التي شهدت لأول مرة اتساعا خارج حدودها الوطنية، أصبح لدينا صحافة تنظم وتكتب في لندن مثلا وتوزع على عواصم وثغور عربية عديدة، بل من جراء ثورة الاتصال فإنها تطبع في أكثر من مكان في وقت واحد، وهناك أكثر من جانب في هذا الأمر، الأول هو طريقة إدارة الصحف العالمية الحديثة في منطقتنا، أو إدارة الصحف بشكل عام، ما هي المسؤولية الملقاة على المحرر نفسه وكاتب الموضوع، وما هي المسؤولية الملقاة على المسؤول العام عن التحرير في الجريدة أكان رئيس التحرير أو من ينوب عنه، وكذلك مسؤولية المالك.

والجانب الثاني ما هو نطاق المسموح به وغير المسموح به للنشر، خاصة أن هذا النشر يتعدى الحدود للبلد الممول للمطبوعة، وما هو مستوى الحقائق في الموضوعات المنشورة، وما نصيبها من الإشاعات العامة التي يبتلي بها المجتمع الإعلامي في العالم الثالث، والتي تنشر عن أشخاص أو دول دون دليل، وما هو الميزان بين ما يجب على الصحفي نشرة عن الشخصيات العامة دفاعا عن مصالح الجمهور، وما هي المناطق المحرمة والشخصية التي لا يجوز الاقتراب منها إلا بدليل قاطع، وما مدى قدرة صحيفة عربية ما تنشر في الخارج في انتقاد ممارسات حقيقية أو متخيلة لأشخاص ومسؤولين في بلد آخر؟ وما العلاقة هنا بين النشر لوجه إظهار الحقائق للناس والنشر من أجل الإثارة أو النشر في منطقة ضبابية يمكن أن تفسر على أنها موقف سياسي ضد البلد العربي الآخر؟

هذه الأسئلة ليست نظرية، فقد واجهنا حالات منها، عربية، توقفنا عبرها أمام قدرات الإعلام العربي الدولي المتمتع باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، وما هي صعوباته، وحتى لا نظل في إطار التنظير، فإن هناك أمثلة حية نأخذ منها مثالين في الصحافة وفي التلفزة.

فقد نظر القضاء المصري منذ اشهر قضية هامة كان طرفها الصحفي مؤسسة الشرق الأوسط، وهي "كحالة" ملفتة للنظر وتستحق النقاش، أظن أنها ستدخل تاريخ الصحافة العربية من أكثر من مدخل، ليس بسبب المشاركين فيها فقط، وإنما أيضا بسبب مجموعة من الظواهر الصحفية التي ظهرت أخيرا منها على سبيل المثال لا الحصر المعركة الصحفية والإعلامية الدائرة في الأردن منذ اشهر حول حدود الصحافة وحرياتها، وأين أمن الدولة والمواطن من هذه الحرية، وأين حرية الكلمة منها، وكذلك تعطيل صحيفة معارضة ولأول مرة في مصر، والمعركة نفسها دائرة في لبنان حول الإعلام المشاهد والمقروء، خاصة على مستوى المشاهد ذي البعد الدولي الذي يستخدم وسائل الاتصال الحديثة.

ولقد ذكرت بعض البلاد العربية التي تتمتع بهامش ملحوظ من الحريات الصحفية، ولا داعي لذكر ما هو غير متاح إعلاميا من هوامش الحرية في بلدان عربية لا تعرف من حرية الإعلام إلا إعلانات الدولة الرسمية.

الفضائيات العربية: إغواء أم إقناع؟

القطاع الثاني هو الفضائيات العربية، فقبل عقود قليلة من السنين عندما كان الكتاب هو الوسيلة الأكثر رواجا للثقافة العربية، كان يقال إن القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبقية العرب يقرأون، أما اليوم في عصر الفضائيات التلفزيونية فيمكن أن يقال أن الفضائيات تبث والعرب كلهم يتفرجون، يختلفون أو يتفقون على ما يشاهدون، وليس المهم من أين يأتي هذا البث مادام باللغة العربية، أمن روما قدم أم من لدن، أمن أحدى العواصم العربية، لقد حققت ثورة المعلومات والاتصالات تعددية في التخاطب من خلال الفضائيات العربية كما لم تتتحق هذه التعددية من قبل.

والفضائيات العربية كما نشاهدها اليوم، هي على الأقل نوعان، إما أن تكون حكومية ذات صبغة رسمية وهي أصلا قناة داخلية يعاد بثها فضائيا استخداما لثورة الاتصال تلك، أو هي ذات صبغة تجارية بحتة، وتبث من الخارج العربي، يستثنى من هذه الثنائية المحطة الفضائية القطرية "الجزيرة"، فهي حكومية التمويل تجارية الطابع موجهة إلى الخارج، حتى سماها البعض "محطة ديمقراطية الاتصال من الخارج" ولا اعرف ان كان ذلك في صالحها أم ضدها.

وعلى الرغم من أن كل الدول العربية اليوم تمتلك محطات بث فضائية، إلا أن البرامج المشاهدة بكثرة والمقبل عليها خاصة الحوارية ذات البعد التنموي، تكاد تنحصر في محطتين أو بالكاد ثلاث محطات هي حطراً قناة الأوربت الثانية من مجموع محطات أوربت، وقناتا الجزيرة، وأبوظبي الفضائية في وقت لاحق، كما أن تعد البرامج محدودة تعد على أصابع اليد الواحدة، وان حسبناها بالدقائق والساعات فهي لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من ساعات البث لكل هذه المحطات، ومع ذلك فإن الحوار الساخن الذي يدور اليوم حول الفضائيات العربية، هو تحديد حول هذه البرامج الحوارية في تلك المحطات لا غير، لا غير. أي أن العرب حتى الان لم يستفيدوا تنمويا من ثورة الاتصال العالمي الذي نتحدث عنها إلا بشكل ضئيل.

منذ اشهر قليلة خلت حضر إلى الكويت السيد عماد الدين أديب، وهو الذي يعرفه المشاهد العري كمحاور من خلال برنامجه المعروف "على الهواء" من محطة أوربت الثانية، واحتفل به المجتمع الكويتي المهتم وبث من الكويت عدة حلقات حوارية ناجحة كان آخرها حول معاناة أسرة الأسرى الكويتيين في العراق، وقال لي أكثر من صديق بعد هذا البث إنه لأول مرة يسمع ويرى بوضوح وبقناعة ما تعانيه أسر الأسرى، حيث استطاع المقدم السيد أديب أن يكشف بوضوح كيف تم أسر ذويهم وظروفهم الإنسانية البالغة القسوة في انتظار عودة من يحبون.

هذه الملاحظة ملفتة للنظر، فقد تحدثنا في الكويت كثيرا عن الأسرى وعن غيرها من الموضوعات التي نعتقد أنها موضوعات ووطنية هامة ومع ذلك لم تتح الفرصة لاطلاع الأقربيين ـ فما بالك بالبعيدين ـ على هذه الموضوعات، واحتاج الأمر ـ لبعضنا على الأقل ـ أن تأتي قناة الأوربت مشكورة لإلقاء الضوء الكاشف على مثل هذه القضايا وتبثها دوليا، ومع أن هذه القناة "مشفرة" أن أن نطاق وصولها إلى جمهور عام محدود نسبيا، لأنها تعتمد على الاشتراكات، إلا أن المتابعين لها في الكويت وخارجها، شعروا بارتياح لما قامت به من عرض للحقائق.

وكنت قبل أشهر قد شاركت في برنامج حواري هو الرأي والرأي الآخر الذي تبثه قناة الجزيرة، وعرفت فيما بعد البث، مما وصلني من فاكسات ومكالمات تلفونية دولية وكذلك ما سمعته من تعليقات في بعض المنتديات التي ارتادها، كم هو واسع التأثير مثل هذه البرامج الحوارية وإلى أي حد يستطيع هذا التقدم التقني أن يربط بين المتحدثين بالعربية في العالم من استراليا إلى شمال أوربا.

ثورة الاتصال وثقافة الصورة

ما سبق كان مجرد مثالين لتجسيد المفاهيم أردت أن أشير إليهما وبهما في حديث يهتم بهذا التقدم السريع في وسائل الاتصال وتقنياته، وهو حديث لا يخصنا نحن العرب وحدنا فقط، وإنما يخص العالم اليوم في السباق نحو بناء استراتيجيات عامة للدول، وهذه الاستراتيجيات تتمحور حول أربعة محاور هي السياسة والمال والحرب والثقافة، وتحت الأخيرة تندرج إستراتيجية الإعلام والفضائيات أحد اذرعها الفاعلة.

التسعينيات وثقافة الصورة والبث الالكتروني يلفان الكون، منذ أن بدأت الـ C.N.N. غزو العالم بالصوت والصورة، تبعتها في ذلك شركات بث كبرى في أوربا وآسيا. وفي عالمنا العربي شهدنا منذ التسعينيات، شركات عملاقة مثل الأوربت والـ MBC والـ ART وغيرها من الشركات التي تبث البرامج التلفزيونية عبر الحدود، وتبعتها دول وعواصم أطلقت محطاتها المحلية فضائيا وكثير منها بغير عدة ولا عتاد، ولم نشهد حتى الآن نهاية لهذا السباق العربي الدولي، فنحن نعرف أن دبي مثلا تقوم بالتخطيط لمحطة فضائية عملاقة ستكون متوافرة في سوق الفضائيات العربية بعد فترة وجيزة من الزمن، ونحن نرى البداية ولم نتبين بعد خط النهاية في أفق الاستفادة من هذه التقنيات وهو أفق يبدو بعيدا.

ثقافة الصورة وبلاغتها تخطت بلاغة الكلمة، وهي حالة جديدة من الاستقطاب الثقافي والسياسي، والاحتمال الأقرب لشدة التأثير في جيل المدمنين على الشاشة الصغيرة وبعض التأثير في زهاد الشاشة كما تسميهم بعض الأدبيات الحديثة ومن ثم ستصبح الصورة الإلكترونية والومضة السريعة هي المرجعية الأساسية لثقافة الأجيال القادمة.

ولكن السؤال الذي لم نجب عليه حتى الآن هو: لماذا يتجه المشاهد العربي بشكل عام ولا أقول بشكل حصري إلى الفضائيات الأخرى متخطيا البث الوطني الحكومي؟

لا أقول ذلك رجما بالغيب ولكن الدراسات بين أيدينا تقول لنا ذلك، ففي دراسة لصالح مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية في أبوظبي ـ شاركت فيها ـ ومن خلال عينة كبيرة لأبناء دول مجلس التعاون توصلت النتائج إلى أن الأغلبية من المشاهدين يفضلون متابعة المحطات الفضائية الخارجية.

وفي مؤتمر ذي صلة عقد في نهاية العام الماضي في مدينة الحمامات في تونس توصل المجتمعون إلى ما أسموه "انقطاع حبل السرة" الذي يربط محطات التلفزيون الحكومية وجمهورها. ذلك غيض من فيض من الدراسات العلمية، وبين أيدينا الكثير من الدراسات التي تؤيد هذا الاستنتاج.

فما السر في ذلك؟

بعض السر يكمن في أن هذه المحطات التي قبل عليها الجمهور قادرة على أن تتعامل مع قضايا الاختلاف، وهي كثيرة ومتعددة في مجتمعنا العربي، بعكس المحطات الرسمية التي تتهيب من تناول قضايا الاختلاف وتبتعد عن الخوض فيها. والاختلاف هو سنة الحياة من جهة، وسمة العصر من جهة أخرى، تلك الفلسفة العامة، كما أنه في طرح قضايا الاختلاف علنا، فوائد ناجزة ونافذة، وقد تبين أنه القاعدة الذهبية لانتعاش وتفاعل الجمهور العطش دوماً لمعرفة ما يدور حوله، أما عن تفاصيل تقنيات وتكتيات واسترتيجيات الطرح فإن الأمر يحتاج إلى مساحة من التدريب والابتكار والدعم المادي والمرونة الفائقة في اتخاذ القرار، وهو ما تفتقده بالضرورة المحطات الرسمية، والتي كثيرا ما يديرها بيروقراطيون وموظفون خاضعون للوائح وسلم درجات فهم مقموعون إبداعياً وممنوعون من الابتكار والتنويع، لذا فإن الإقبال الكبير على المحطات الفضائية الخارجية ليس لأن هذه المحطات محايدة أو تقدم الأفضل، بل هو في أغلبه هروب من واقع أليم تعيشه الأجهزة الإعلامية المحلية، ويستطيع توصيفه أي عامل متفتح في هذه الأجهزة، وهو من جانب آخر استفادة تجارية خلاقة من هذه الثورة التقنية الجديدة.

وهناك معادلة أصبحت معروفة لأهل الشأن الإعلامي والمعلوماتي، تقول إنه كلما ضيقت المحطات المحلية على المواطنين في تقديم الحوارات النافعة والترفيه الممتع والجديد في العالم، اتجه الجمهور المحلي إلى المحطات الفضائية الخارجية، ودليلنا على ذلك أنه حتى المنازل المتواضعة في عالمنا العربي تجد من الأولويات التي يحرص عليها ساكنوها، تركيب اللاقط القضائي "الدش" على منازلهم، فأصبحت سمة من سمات الفخر الظاهر للحاق بالعصر الإلكتروني المتفجر.

إن التقنية الحديثة تساهم اليوم في تعديل شبكة الاتصال التقليدية، فهي- من خلال وسائطها المختلفة- سواء التلفزيون أو الإنترنت، تشارك في التنشئة الاجتماعية وتوجيه السياسة والأخلاقيات غير المحسوسة للشعوب، وتلقن هذه الوسائط الجمهور العام أصول وقواعد الانخراط الاجتماعي في المجتمع، كما أن التقدم الهائل في تقنية البث وما تقذفه علينا هذه التقنية من ابتكارات ووسائل وطرق تتغير كل فترة وجيزة بشكل جذري، وتساعدنا على التقاط البث الخارجي أو الاستقبال الكمبيوتري، الذي تصبح أجهزته أسرع وأصغر كل يوم، ويفرض عليها هذا كله تحديات لاتتيح حتى التروي.

ولكن السؤال المطروح عليها جميعاً هو: هل هذه الفضائيات الموجودة اليوم والتي تبث الساعات الطوال ووسائل الاتصال الأخرى، هي لإقناع المواطن بالصواب من الأمور أم لإغوائه بتحسين المنكر السياسي الاجتماعي، خاصة في برامج الحوارات السياسية والاجتماعية والأفلام والمعلومات، وهل الشكل المبتور من المعلومات الجزئية والسريعة التي تُقدم دون قدرة ولا وقت للمشاهد أو المتلقي للتدقيق الصحيح تصب في دمقرطة الجمهور أم زيادة ردم قدرته على الحكم الصحيح على الأمور الحياتية عن طريق غمره بالعبث الغوغائي؟ هنا تدخل عوامل كثيرة تحدد مخرجات ونتائج البث واستخدام هذه التقنية، فالفارق بين "الدمقرطة" والغوغائية هو فارق تفصله شعرة، وتعتمد هذه الشعرة على فلسفة القائمين على إرسال المعلومات وثقافة المقدمين للبرامج وفلسفتهم الاجتماعية.

العرب وتقنيات الاتصال

في عالمنا العربي تختلط حاجتنا للمعلوماتية بمتطلبات الإثارة والاستعراض بالمعلومات المضادة والسباق المتقطع الأنفاس لحشد المشاهدين، لذلك أصبحت هناك معالجات معينة، لمواضيع بعينها، مثار انتقاد أو ارتياب في مدى حياديتها وعلى سبيل المثال الموضوع الكويتي، خاصة في تناول محطة الجزيرة له، وبصفتي من المهتمين والقائلين أيضاً بشعار التعاون مع النقد، فقد طفقت أبحث عن أسباب هذا التحيز أو شبهة التحيز لدى بعض المقدمين للمادة الخاصة بالكويت في محطة الجزيرة، فوجدت أن في أرشيفي موضوعاً عن مستقبل التفاوض بين أوربت والمحطة التلفزيونية العربية الصادرة من الـ BBC ويعود إلى سنة 1994 وقتها كانت المفاوضات جارية بين الأوربت الـ BBC العربية للنقل الفضائي، وكانت الآمال معقودة على تراث هذه المحطة في التوازن الإخباري الذي يمكن أن يقدم للمشاهد العربي من محطة تلفزيونية تتكئ على تراث من الموضوعية، ونقل محرر الموضوع حديثاً للسيد سامي حداد الذي وصفه المحرر بأنه أرفع الموظفين العرب رتبة، وتطوع لبث النشرات الأولى التجريبية بنفسه نظراً لخبرته وقال السيد حداد للمحرر وقتها "نحن نعمل في هذه المهنة منذ خمسة وعشرين عاماً ونعرف ما يثير المشاعر وما لا يثيرها، ولم نتلق حتى الآن اعتراضات جذرية حول ما نتحدث عنه، ولن يختلف الأمر في برامجنا العربية. وأريد أن أؤكد أن هيئة الإذاعة البريطانية اكتسبت شهرتها لأنها تركز على الحقيقة والوقائع ولا تختلق الأخبار وهذا ما سنستمر في فعله" هذا ما قاله السيد حداد وقت ذاك، ونحن نعرف بعد ذلك ما آلت إليه تجربة الأوربت مع الـ BBC التي انتهى جل عامليها للعمل في محطة الجزيرة بالدوحة.

ولا اعتراض لي ولا يحق لغيري أيضاً أن يكون له اعتراض، فأنا أعرف قبل غيري أنه لايوجد إعلام محايد تماما، وقد نشرنا في سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت منذ زمن كتابا سماه مؤلفه الأمريكي "المتلاعبون بالعقول" وكان إثباتاً حيا على عدم حيادية الإعلام الأمريكي الموجه للمجتمع الأمريكي نفسه، فما بالك والبيئة الثقافية تختلف كليا؟ ومع إيماني المطلق بأن الحوار لايفسد للود قضية، فإنني أتمنى أن تسود أخلاقيات مهنية متعارف عليها في البث الفضائي العربي، حتى يمن الركون إلى بقايا تجربة " هيئة الإذاعة البريطانية"، حيث يكون فيها مقدم البرنامج حيادياً ما أمكن، خاصة في وجود متحاورين اثنين أو أكثر لهما بالضرورة وجهات نظر متعارضة، هنا يكون التكافؤ في الفرص مطلوبا. حتى لو قلبنا بأن يثير قائد الحوار بعض نقاط متساوية لطرفي الحوار، فلا تظهر المحطة التي يمثلها بأن لها وجهة نظر مسيقة في الموضوع المطروح، وخوفي أن يتآكل تراث الـ BBC في الدقة المهنية بسبب افتقاد المرجعية التي كانت تحددها، وخوفي الأكبر أن يدعي البعض أو يظن خطأ أنه لا مرجعية أة تراث للحوار في الجزيرة.

قلت هذا الكلام للأخوين فيصل القاسم وسامي حداد في الدوحة، وقاله غيري لغيرها، ربما احتفاء وحبا وتصميما وغيرة على نجاح تجربة يحتاج إليها الجمهور العربي، وقد جاءتني رسائل كثيرة من مشاهدين محايدين لاحظوا عدم الحيادية في المقدم، وأرسلت بعضها للسيد سامي حداد طمعا في أن يعرف أن الجمهور له وعي أكثر منا جميعاً، حتى تكون الجزيرة الخارجة من الدوحة دوحة للحوار البناء لنا جميعاً.

هذه الإشارة لحالة بعينها لاتعني أبداً أنها حالة وحيدة، بغض النظر عن مقدار الشك أو اليقين فيما قيل حولها. لكنها كانت حالة أقرب للراصد بحكم قرب الموضوع المثار، فهذا لايعني أبداً تحويل إشارات المفارق إلى أو عن محطة الجزيرة، فالثابت لدي ولدى الكثيرين أن هذه المحطة العربية الفضائية أبلت ولاتزال تبلي بلاء حسنا في مجالها، وفي مجالها تتمتع بدرجة عالية من البراعة والخبرة المهنتين. لهذا فالمثال أثير للإيضاح العام من ناحية، وللحرص على الرقي واستمرار الترقي من ناحية أخرى، سواء للجزيرة أو للمحطات الفضائية العربية الأخرى. ففي المحصلة النهائية سيكون الرابح الأكبر من هذا الترقي هو المشاهد العربي الجائع والعطشان لمعرفة مايدور هو فيه ومايدور من حوله.

الديمقراطية في رأيي ليست رصيد خبرة مطلوبة أو موقوفة على الشعوب، فهي رصيد خبرة للحكومات أيضاً عندما تختا الديمقراطية نهجاً لتحسس آمال وآلام شعوبها. والفضائيات العربية، بل كل وسائل نقل المعلومات إلكترونياً، هي آداء نجاحه، وارتقاؤه مرهون برصيد الخبرة الديمقراطية لدى الشعوب ولدى الحكومات أيضاً. وهي خبرة نأمل أن تتسع وتتراكم، لتتسع وتسمق خبرة أدوات الاتصال ونقل المعلومات في عالمنا العربي حتى لانظل في الفناء الخلفي للعالم المعاصر، خاصة عالم الغد.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات