اتفاقية الجات وآثارها الثقافية

اتفاقية الجات وآثارها الثقافية

لابد من أن نتذكر أن أي نشاط اقتصادي له أعظم الأثر في الحياة الاجتماعية وسلوكيات البشر.. ومن هذا المنظور نناقش اتفاقية الجات.

لاشك أن اتفاقات الجات وقيام منظمة التجارة الدولية، بعد جولات عديدة من المفاوضات المضنية التي امتدت لسنوات طويلة، يمثلان تطورات اقتصادية مختلفة تماما عما حدث من تطورات سابقة.. فعندما تؤكد هذه الاتفاقات أن على أعضاء منظمة التجارة الدولية فتح أسواقهم لمختلف أنواع السلع والخدمات المصنعة، أو المنتجة في بقاع أخرى من العالم دون وضع أية قيود أو اشتراطات، ودون منح السلع والخدمات المنتجة وطنيا أية أفضلية، فإن المعنى النهائي لذلك هو أن العالم أصبح كتلة اقتصادية واحدة.

ولذلك لابد أن تنعكس هذه الأنظمة والشروط على بنية الفكر الاقتصادي، وتلغي العديد من النظريات والافتراضات وقيم التنمية المستقلة ومفاهيم الاستغلال أو الاستقلال الاقتصاديين.. فهل يجدي الحديث عن حماية الصناعة الوطنية أو القيود على الاستثمار الأجنبي، أو اشتراطات حقوق الملكية في ظل اقتصاد عالمي خال من القيود القانونية والجمركية؟ بطبيعة الحال هناك من شكا وسيظل يشكو من الهيمنة الاقتصادية للدول الصناعية الكبرى على مقدرات الاقتصاد العالمي، وهناك من سيثير مسائل عدم التكافؤ بين اقتصاديات متطورة وغنية واقتصادات نامية وفقيرة.. لكن هناك أيضا من سيثير ، فى إطار الفكر الاقتصادي الجديد، إن القيم القديمة أدت إلى التخلف وعدم الكفاءة وازدياد الاعتماد على المعونات والقروض الميسرة نتيجة لعدم استثمار الميزات النسبية في كل اقتصاد وطني، فمثلا لماذا لم تستفد العديد من الدول النامية من إمكاناتها الزراعية لتعزيز قدراتها على إنتاج الغذاء، ولماذا ركزت على التصنيع الثقيل في الوقت الذي لا تملك فيه الإمكانات التقنية والبشرية؟

يعتقد بعض هؤلاء الاقتصاديين أن العديد من دول العالم الثالث سوف تستفيد من اتفاقات الجات، ومن عضويتها في منظمة التجارة الدولية من أجل رفع كفاءة الأداء الاقتصادي، ولو أنها سوف تعاني من هذه التطورات لفترة زمنية طويلة.

مفاهيم وقيم جديدة

هذه المفاهيم والقيم الجديدة التي أخذت تطفو على سطح الحياة الاقتصادية لابد أن تشكل قيما ثقافية جديدة. ليس هذا فقط، بل إن اتفاقات الجات أبرزت قضايا تتعلق بمسائل الإنتاج الثقافي، مثل السينما والتلفزيون والإعلام وغير ذلك.. وليس بعيدا عن الذاكرة الخلافات التي برزت بين فرنسا وبعض الأوربيين من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر حول مسألة حماية ودعم الإنتاج السينمائي.. فقد شعر الفرنسيون، إلى حد ما بعض الأوربيين، بأن الولايات المتحدة سوف تهمشهم في أعمال الإنتاج السينمائي إذا تم إلغاء الدعم عن صناعة الأفلام السينمائية، حيث تتوافر في هوليوود الإمكانات المالية والتقنية الضخمة وتتوافر لهذه الصناعة الهوليوودية سوق كبيرة لاستيعاب منتجاتها، بينما لاتتوافر هذه الإمكانات لصناعة السينما الفرنسية.

ولاشك أن هذا التخوف ليس وليد القدرات الاقتصادية الأمريكية مقابل القدرات الاقتصادية الفرنسية في هذه الصناعة، بل إنه أيضا وليد تخوف من قدرة الأعمال الثقافية الناطقة بالإنجليزية على اكتساح العالم على حساب الأعمال الناطقة باللغات الأخرى. ولذلك لابد من الاستنتاج أن لهذه الاتفاقات جانبا ثقافيا مهما سوف يؤكد هيمنة اللغة الإنجليزية، الأمريكية بشكل خاص، على حساب باقي اللغات والثقافات الأخرى.

وقد يتساءل المرء هل يمكن أن تصبح اللغة الإنجليزية بعد تأصل تطبيق الاتفاقات المذكورة، وزيادة قوة منظمة التجارة الدولية، هل يمكن أن تصبح هي لغة التخاطب في العالم؟، أو اللغة المكتوبة والمقروءة في العالم؟ ومتى يمكن أن يحدث ذلك خلال القرن الحادي والعشرين، هذا التحدي يؤكد ما أشرت إليه من قدرة التطورات والتحولات الاقتصادية من هز القيم والثقافات في العديد من دول العالم.. قد يعتقد البعض أن هناك إمكانات للحد من الآثار المذكورة على القيم والتقاليد الوطنية، لكن ذلك لن يكون متاحا في مجتمعات مفتوحة وديمقراطية ومتصلة ببقية بلدان العالم.. قد يكون ذلك ممكنا في بلدان تعيش وراء ستار حديدي، وفي ظل أنظمة قمعية وأنظمة تهدف إلى تجهيل شعوبها، وهنا يمكن أن نتساءل هل ذلك ممكن في عالم اليوم حيث تخترق القنوات التلفزيونية أجواء كشف الأوطان دون قيود، وتشير للتحولات الجارية في كل مكان في العالم..؟

ومما يحول دون التقوقع والتمترس وراء أنظمة الحمائية هو أن العالم المتطور لن يمد يديه لمن يقرر البقاء، في خارج منظومة اتفاقات الجات، أو الذي يرفض الانضمام لعضوية منظمة التجارة الدولية.. ولابد من أن نذكر أن معظم- إن لم تكن جميع- دول العالم تسعى للاستفادة من الاتفاقات ومن العضوية من أجل تمكين منتجاتها من المنافسة في جميع أسوق العالم، ولذلك فإنه حتى الدول التي يثير قادتها- أحيانا- ملاحظات عن سلبية التطورات المعاصرة، حتى هذه الدول لن يفوتها قطار الجات وها هي تدخل زرافات وركبانا في منظمة التجارة الدولية.. ومن المؤكد أن الدول العربية التي اعتمدت على النفط، بشكل أساسي، وعلى سلع تصديرية أخرى، يهمها أن تصبح جزءا من النظام الاقتصادي الجديد، حتى لاتتضرر من البقاء خارجه.

التردى الحضاري

إذن فإننا أمام تطورات اقتصادية ضارية، سوف يكون لها نتائج ثقافية واضحة، وسوف يعيد الكثير من مفكرينا النظر في قيم اقتصادية واجتماعية عديدة تربوا عليها خلال السنوات الخمسين الماضية.. وعلينا أن نعي أن العالم سوف يسير في خطواته سريعا، وإذا قررنا المقاومة لهذه التطورات فإننا لن نجني سوى التخلف والتردي الحضاري. لكن ما هو مطلوب، هو كيف نحافظ على هوية ثقافية وطنية أوقومية في عالم يتكامل اقتصاديا من خلاله مفاهيم ثقافية لانمت لها بصلة؟ إن مواجهة هذه التحديات تتطلب تفهما لما يجري في العالم ومحاولة استشراف ثقافة عربية جديدة مواكبة للعصر، عقلانية في النهج والرؤية بعيدة عن التشنج ورجم الآخرين .. ولاشك أن العالم لن يضيره أن تظل عدة دول عربية أو غيرها من دول العالم الثالث خارج نطاق التطور المعاصر، لكن هذه الدول سوف تدفع ثمنا باهظا مقابل عدم تفاعلها، وعدم قبولها بالقيم الجديدة للاقتصاد والتطورات الثقافية الجديدة.

من الأمور التي قد يكون لها آثار إيجابية مسألة العمالة في الدول النامية وطريقة التعامل معها، فكما هو معلوم أن اتفاقات الجات تحذر من تشغيل صغار السن، أو التوظيف مقابل أجور زهيدة، وهذا لاشك قد يساعد على توفير معاملة إنسانية أفضل لهؤلاء العاملين. وقد يطرح بعض السياسيين في الدول النامية اعتراضات على هذه الإجراءات بأنها تدخل في الشئون الداخلية، أو أن محاولة تحسين شروط العمل وزيادة الاجور سوف تكون لصالح الدول الصناعية التي تعاني من تكاليف العمالة، ومن ثم يحسن من قدرة سلعها على التنافس في الأسواق الدولية، لكن ذلك يعتبر تدخلا حميدا لصالح العاملين في الدول النامية.. ودون ريب فإن هذه الشروط والقيود التي تضعها منظمة التجارة الدولية على الدول الأعضاء سوف تخلق قيما ثقافية جديدة بشأن شروط العمل وحقوق العاملين لاتزال بعيدة عن الوجود في العديد من الدول النامية.

ثقافة جديدة

ولاشك أن الدول العربية بقيمها السياسية والدينية ستكون في مؤخرة الداخلين في عضوية المجتمع الدولي الحديث. وعندما يصر البعض على منع المرأة من العمل في مجالات محددة، وعندما تمنع المرأة من مزاولة حقوقها السياسية فلن تجد شروط منظمة التجارة الدولية أو اتفاقات الجات في تطوير ثقافة جديدة في بلداننا.. ولكن هل يمكن أن نعتبر أن الانضواء في عضوية هذه المنظمة والقبول بهذه الاتفاقات وسيلة لفرض قيم عصرية في مجتمعاتنا؟ ربما، ولكن ذلك يتطلب الاهتمام بالتعليم وتحسين نوعيته، والقضاء على الأمية الأبجدية والأمية الثقافية، وتحسين شروط العمل وغير ذلك من تحويلات.

لكن هل هناك إمكانات اقتصادية في الوقت الراهن لاستيعاب ما هو مطلوب عالميا؟ في ظل تراجع أسعار البترول، وبعد أن أصبحت جميع الاقتصادات العربية النفطية وغير النفطية، مرهونة لاقتصادات النفط لابد أن تكون المهمة عسيرة، حيث إن تطوير الاقتصادات العربية لتكون قادرة على المنافسة في ظل اقتصاد عالمي مبني على كفاءة الأداء لن يكون متيسرا دون إنفاق أموال كبيرة على تحديث البنى المؤسسية والهيكلية في الدول العربية.

 

عامر ذياب التميمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات