نقل التقنية نعمة أم نقمة؟
تظل قضية التقدم التقني، واقتناء التقنية، واحدة من مشكلات العالم الثالث، وأحد محاور الاختلاف بين عالم الأغنياء وعالم الفقراء. لكن القضية ليست بسيطة، كما يبدو لبعض الناس، فلها جوانب وآثار وعواقب.
على الرغم من التباين بين مختلف النظريات التنموية، بخصوص فهم ظاهرة التخلف، وطبيعة الحلول المقترحة لتجاوزها، فإن هذه النظريات كلها تنظر إلى التنمية نظرة واحدة، أو تكاد تكون واحدة. بتعبير آخر: إن كل نظريات التنمية المعاصرة تسعى صراحة، أو ضمنا، إلى هدف واحد، وإن كانت كل واحدة تتشفع إليه بطرق ووسائل خاصة. وهذا الهدف هو: التنمية بمفهومها المادي السلعي الذي يتجسد في رفع الإنتاج، بمعدل يوازي معدل الاستهلاك، على غرار ما هو حادث فيما سمي العالم المتقدم. لأجل ذلك فإن دول العالم الثالث التي تأثرت بهذه النظريات سارعت، منذ استقلالها، إلى تبني سياسات اقتصادية، تهدف بالدرجة الأولى إلى الدفع الكمي من الإنتاج القومي. ولقد كان من الضروري أن تعتمد هذه السياسات الاقتصادية على التقنية التي باتت تشكل العمود الفقري لاقتصاديات العالم المتقدم. ومن ثم كان نقل التقنية إلى دول العالم الثالث عملية لا مفر منها لتحقيق التنمية. ولم تكن هذه العملية في البداية تستدعي أي نوع من التحفظ، لأن التقنية مكسب إنساني، ومن حق كل الشعوب الاستفادة منها، مهما كان مصدرها، بل لقد كانت الدول النامي تعتقد أنها محظوظة بسبب إمكان استغلالها للرصيد الهائل من المعارف والفنون والخبرات المتراكمة لدى الدول المتقدمة، فتختصر بذلك الفترة اللازمة لتحقيق التنمية والتصنيع السريع، مع توفير تكاليف الأبحاث والتصنيع السريع، مع توفير تكاليف الأبحاث العلمية والتجارب التطبيقية التي سبق أن تكبدتها الدول المصنعة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الاعتقاد بالطبيعة الحيادية للتقنية الذي كان سائدا من قبل، بدأ يتغير مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، بعد أن تأكد من خلال التجارب أن التقنية المستوردة - على الرغم من أنها حققت مكاسب مادية لا يستهان بها - فإنها لم تخل من آثار جانبية، انعكست سلبيا على مختلف الأصعدة (ركود القطاعات التقليدية، بروز تناقضات إقليمة، تفاقم البطالة)، وهذا ما حدا ببعض الأصوات أن ترتفع، لتطالب بإعادة النظر في عملية " نقل التقنية " لأن هذه الأخيرة ليست بريئة كما كان الاعتقاد سائدا.
حول مفهوم نقل التقنية
إن عبارة "نقل التقنية" الشائعة عبارة مغلوطة حسب رأي كثير من الكتاب الاقتصاديين، فهؤلاء يرون أن التقنية ليست بالضرورة شيئا قابلا للانتقال، لأنها لا تتجسد دائما في سلعة يمكن نقلها من مكان إلى مكان آخر بيسر وسهولة، وبالفعل فإن التقنية لا تشمل الآلة فحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن أول وهلة، لكن تشمل أيضا أسلوب استخدام هذه الآلة والإطار الذي تستخدم فيه. وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم التقنية حسب إمكان نقلها أو عدم إمكان هذا النقل إلى ثلاثة أقسام
1 - قسم قابل للنقل: يشمل المستلزمات العينية المجسدة كالآلات والمعدات والسلع الوسيطة والنهائية. وهذا القسم هو ما يسمى " التقنية الصلبة ".
2 - قسم قابل للنقل بحدود: ويتعلق الأمر هنا بالطاقات البشرية، وطرق التنظيم والتسيير والخبرات الفنية والاقتصادية المؤهلة لوضع " التقنية الصلبة " موضع التنفيذ، ويسمى هذا القسم " التقنية اللينة ".
3 - قسم غير قابل للنقل: ويشمل النظم الإدارية والقانونية والاقتصادية والسياسات المتعلقة بالتعليم والبحث العلمي، وكذا هياكل البنيات الاجتماعية والثقافية.
وهكذا يتضح أن التقنية بمفهومها الواسع وحدة غاية في التعقيد، غير قابلة للتجزئة إلا في حدود ضيقة جدا. والنتيجة الحتمية التي تتمخض عن فصل عنصر من عناصرها في وحدته المتكاملة تتجلى في ضعف المردود، فضلا عن مضاعفات أخرى جانبية، غالبا ما لا تكون في الحسبان. وهذا ما يجرد التقنية من صفة الحياد التي طالما وصفت بها، وحتى الجانب القابل للنقل في " التقنية الصلبة " فإنه ليس بالضرورة بريئا بحسبان أنه يعكس - عادة - خصائص ومتطلبات البيئة التي أنتجته. ولعل مقولة "الحاجة أم الاختراع " تعبر أصدق تعبير عن ذلك، فالحاجة هي التي تدفع الإنسان إلى التفكير في الوسيلة التي تمكنه من إشباعها، مستغلا في ذلك، إلى جانب قواه العقلية، كل القوى الطبيعية المحيطة به.
فشكل التقنية، في أي مجتمع، يعبر عن مستوى التطور الذي بلغه هذا المجتمع بالنسبة للمجتمعات الأخرى، كما تنبئ عن مراحل التطور التقني التي مر بها المجتمع المعني. وهذا ما يمكننا من القول بأن نقل التقنية لا يتم في ظروف حسنة، إلا إذا كان البلد الناقل والبلد المنقول إليه متقاربين في مستوى تطورهما، بحيث تكون العلاقة بينهما علاقة " تبادل تقني "، بمعنى أن كل بلد يمكن أن يكون مصدرا ومستوردا للتقنية، دون أن يكون مصدرا دائما أو مستوردا دائما. ( حالة الدول الغربية فيما بينها ).
نقل التقنية والتنمية
مما لا جدال فيه أن استيراد التقنية قد مكن العديد من دول العالم الثالث من رفع إنتاجها الوطني، خصوصا على مستوى القطاع الصناعي، إلا أن تأثير التقنية المستوردة لم يكن ذا طابع تقني صرف، بل شمل أيضا المجالين الاقتصادي والاجتماعي. فعلى سبيل المثال، من اليسير ملاحظة التغييرات التي طرأت على البنيات الاجتماعية التي أحدثها اعتماد التقنية المكثفة كخيار لتجاوز التخلف الاقتصادي (ارتفاع سريع في معدل المشتغلين في القطاع الصناعي، تزايد الهجرة من الأرياف نحو المدن). وفي هذا الصدد يرى بعض الناس أن ما صاحب التقنية المستوردة من سلبيات يكاد أحيانا يتجاوز النتائج الإيجابية لهذه التقنية على المستوى التقني. وبما أن التقنية الحقيقية لا بد أن تكون تنمية شاملة، فإنه من اللازم رصد كل الآثار الإيجابية والسلبية للتقنية على جميع المستويات، حتى يتسنى لنا معرفة مردودها الحقيقي.
- على المستوى الاقتصادي: إن رفع معدل الإنتاج وتنويعه اللذين ميزا المشاريع الصناعية المعتمدة على التقنية المستوردة لا يمكن بحال الاكتفاء بهما معطيين للتدليل على مدى نجاح هذه المشاريع، إذ لا بد من الأخذ بعين الاعتبار كلفة هذه المشاريع، فثمة مجموعة من العوامل جعلت عملية نقل التقنية إلى البلدان الأقل نموا عملية باهظة التكاليف. ومن ذلك:
- أساليب نقل التقنية: في مرحلة أولى تزامنت مع موجة سياسات التصنيع لإحلال الواردات، خصوصا في الوطن العربي، كان نقل التقنية مرتبطا بمساهمة الشركات الأجنبية في المشاريع الصناعية. ونسبة هذه المساهمة لم تكن تتجاوز 49% كحد أقصى، حتى تبقى أكثرية الأسهم للدولة المعنية. إلا أن هذا الأسلوب في نقل التقنية ( أسلوب المساهمة ) سرعان ما تم تجاوزه، لفائدة أسلوب آخر، ربط مع استراتيجية التصنيع من أجل التصدير التي أخذت تنتشر بعد القفزة التي عرفتها أسعار النفط في بداية السبعينيات. ويتعلق الأمر بأسلوب " المصانع الجاهزة "، أو ما يطلق عليه اسم أسلوب " تسليم المفتاح "، وهذا الأسلوب غاية في التعقيد، نظرا لأنه يتم في شكل حزمة تقنية مترابطة. وهو ما يسمح لموردي هذه الحزم بالمبالغة في تسعير مكوناتها وأجزائها، دون أن يفطن المستورد لذلك. وهكذا يتم تنفيذ مشاريع صناعية في العالم الثالث بكلفة تساوي أضعاف كلفة مشروع مماثل في الدول المصنعة أو نصف المصنعة. في الجزائر مثلا كلف مصنع الجرارات الذي أقيم قرب قسنطينة مبلغ 78 مليون دولار، بينما كانت كلفة مصنع مماثل له في الحجم والمواصفات في الهند 33 مليون دولار فقط.
- مصادر التقنية: إن أكثر الصفقات التجارية التي تخص التقنية تتم مع الشركات المتعددة الجنسيات التي تحتكر ما يربو على 97 % من براءات الاختراع في العالم الثالث، وإن التقنية في نظر هذه الشركات ليست قوة لازمة للمساعدة في حل مشكلات العالم النامي المحلية، بل هي عنصر تجاري يرتبط بالتسويق، ويستخدم وفق حاجات الإنتاج الدولي الذي تديره هذه الشركات بهدف واحد هو الربح. ويلاحظ أن مبالغة الشركات الغربية في تقدير أسعار السلع الرأسمالية والهندسية والخدمات التقنية تؤدي إلى ارتفاع حاد في تكاليف الإنشاء. ومما لا شك فيه أن ارتفاع تكاليف نقل التقنية هو الذي كان وراء تفاقم مديونية دول العالم الثالث التي راهنت على سياسة التصنيع السريع المعتمد على التقنية المستوردة وسيلة لتجاوز التخلف. فمن بين أكثر دول العالم مديونية البرازيل والمكسيك والأرجنتين وكوريا الجنوبية واندونيسيا ومصر. وهي كلها تعد من الدول نصف المصنعة.
- ضعف القوة التفاوضية للدول المستوردة
للتقنية: مما ساعد الشركات المتعددة الجنسية المصدرة للتقنية على فرض شروطها
المجحفة على الدول النامية وافتقار هذه الأخيرة إلى الخبرات البشرية القادرة من جهة
على تفكيك " الحزمة التقنية "، واختيار العناصر الأساسية واللازمة منها فقط، ومن
جهة أخرى على المفاوضة والمساومة.
ومن النتائج المنطقية لارتفاع كلفة التقنية المستوردة ارتفاع كلفة المواد والسلع المنتجة، الشيء الذي يجعل تسويقها أمرا غاية في الصعوبة، خصوصا مع سياسة الحماية الجمركية التي تنتهجها الدول الرأسمالية تجاه صادرات البلدان النامية، خصوصا الصناعية منها. وقد كان من الممكن التخفيف من أزمة التسويق هذه، لو أن العالم الثالث توصل إلى إيجاد سوق خاصة بمنتجاته، بانتهاجه سياسة تكاملية بين مشاريعه الصناعية والزراعية. لكن غياب مثل هذه السياسة فوت على بلدان العالم النامي فرصة انتعاش صناعاتها، فاضطرت غالبية مشاريعها إما إلى العمل بطاقة إنتاجية منخفضة ( أقل من 50%) وبمردود هزيل، وإما إلى الإفلاس التام. - على المستوى الاجتماعي: إن الإغراءات
المالية والتسهيلات القانونية والضرائبية التي تعرضها الدول النامية في إطار قوانين
الاستثمار، من أجل استقطاب الشركات الأجنبية تسعى إلى إيجاد فرص للعمل، والتخفيف
بذلك من حدة البطالة التي تعاني منها، إلا أن التجارب أثبتت غير ذلك، إذ تعد فرص
العمل التي تتيحها الشركات الأجنبية في منطقة العالم الثالث غاية في الضآلة، نظرا
للطبيعة المرسملة جدا للبنيات والهياكل الصناعية لهذه الشركات. على سبيل المثال نجد
أن فرص العمل التي أتاحتها شركات الانفتاح في مصر (553 شركة) لم تتجاوز 18600 فرصة
عمل، بل إن مشروعات المناطق الحرة لم تهيئ سوى 9400 فرصة عمل، وبذلك يكون مجموع فرص
العمل التي هيأتها المشروعات العاملة، في ظل سياسة الانفتاح، 28000 فرصة عمل فقط
حتى نهاية عام 1979.
وهكذا نلاحط أن العلاقة التي تربط الإنسان في الوطن العربي أو في العالم الثالث بالتقنية المستوردة علاقة واهية، فهذه الأخيرة تظل أجنبية وغربية على المحيط الذي تحشر فيه، غير قادرة على الاندماج التام فيه، وعموم الأهالي يعدون التقنية الأجنبية مسألة لا تهمهم من قريب أو بعيد ماداموا لا يعملون بها ولا يستهلكون ما تنتجه من مواد ولا تعينهم في شيء على شئون حياتهم العامة.
هل نقل التقنية نقمة؟
هل يمكن أن نستنتج من كل ما سبق أن نقل التقنية شر ينبغي تجنبه؟ إن القول بهذا الرأي لا يمكن أن يجد له أي سند منطقي، فنحن في عصر يستحيل فيه علينا أن نعيش منكفئين على أنفسنا، غير مؤثرين ولا متأثرين بواقع الآخرين.
فعند بداية انطلاقتها الصناعية، استطاعت اليابان أن تستفيد إلى أقصى حد ممكن مما بلغته الدول الأوربية في مجال التصنيع.
وقبل اليابان استفادت فرنسا إبان نهضتها الصناعية من منجزات إنجلترا في هذا المضمار عبر استيراد بعض الآلات وإيفاد عديد من رجال الصناعة إلى إنجلترا، كما استطاعت استقطاب عدد من الفنيين والمخترعين الإنجليز للاستفادة من خبراتهم في النهوض بالصناعة الفرنسية.
ولقد عرف النصف الثاني من القرن الثامن عشر حركة ناشطة في ميدان التجسس الصناعي، وتهريب الآلات لصالح فرنسا، نظرا لأن إنجلترا كانت تحيط اختراعاتها الجديدة بكثير من السرية والكتمان.
والسؤال الذي يطرح بإلحاح هو: لماذا نجحت اليابان وفرنسا فيما أخفقت فيه كل الدول النامية؟ يمكن اختصار الجواب في نقطتين:
- قصر المدة الزمنية التي كانت تفصل بين البلدين- خصوصا فرنسا- والدول التي تمت الاستعانة بخبراتها الفنية.
- لم تكتف الدولتان المعنيتان بالنقل " الميكانيكي " للتقنية، بل تمكنتا من تجاوز ذلك إلى الابتكار.
أما فيما يخص العالم الثالث فإن المرحلة الاستعمارية التي مر بها كانت بمثابة الضربة القاضية التي شوهت بنياته الاقتصادية والاجتماعية، وغيرت بذلك مسار تطورها في الاتجاه الذي يخدم مصالح القوى المستعمرة. وقد تزامنت هذه الفترة مع بروز الحضارة الغربية وتطورها بخاصيتها المادية الدنيوية الصرفة المعتمدة على تسخير العلم وتطبيقه في مختلف المجالات. وفي الوقت الذي تمكنت فيه الدول النامية من الحصول على استقلالها السياسي، وبدأت في خوض معركة التحرير الاقتصادي، كانت الهوة التي تفصل بينها وبين الدول الاستعمارية عميقة جدا.
العالم الثالث والتقنية الملائمة
من الاقتصاديين الأوائل الذين نادوا بضرورة الاهتمام بتحديد مواصفات التقنية الملائمة للدول النامية "آرنست شوماتشر"، فقد حدد هذا الاقتصادي خصائص التقنية الملائمة أو ما يسمى "التقنية الوسيطة" أو "التقنية قليلة الكلفة " بأنها كثيفة العمل، غير معقدة، وتصلح للاستخدام في وحدات إنتاجية صغيرة، ومثل هذه التقنية تكون أعلى إنتاجية من التقنيات البدائية المتهالكة، وفي الوقت نفسه أقل كلفة من التقنيات الحديثة وهي تسهم بشكل فعال في حل مشكلات البطالة والفقر والفوارق الاجتماعية والإقليمية في الدول النامية.
وعلى الرغم من أن كثيرا من الكتاب يتفقون مع " شوماتشر "، فإن هناك آخرين يتحفظون كثيرا بخصوص اقتراحاته، بل إن هناك من وقفوا صراحة ضد الدعوة إلى ما يسمى " التقنية الملائمة"، بحجة أن الهدف الحقيقي لهذه الدعوة هو حمل العالم الثالث على التخصص في هذا النوع فقط من التقنية البسيطة، وإبقاء التقنية المتقدمة حكرا على الدول المصنعة، تجني منها أرباحا هائلة من القيمة الفائضة، الشيء الذي يكرس، بل ويزيد اتساع الهوة بين العالم الغني والعالم الفقير.
في اعتقادنا أن مثل هذا الجدل يحمل مغالطة كبيرة، لافتراضه أن التقنية الملائمة هي نقيض التقنية المتقدمة، الشيء الذي تصعب استساغته لأن المقصود بالتقنية الملائمة تلك التقنية التي تسترشد بالأهداف العامة للتنمية، وتلتزم بنظم المجتمع الحضارية وقواعده. إنها بتعبير آخر: تلك التي تستجيب - بأقل كلفة ممكنة - للحاجات الحقيقية لعامة الشعب.