المرأة ونشأة الرواية العربية

المرأة ونشأة الرواية العربية

لابد أن نضيف إلى صفة "الأفندية" من الرجال في سياق نشأة الرواية العربية ما يدل على بواكير "نزعة نسائية" طالعة من شرائح الطبقة الوسطى في تكويناتها المدنية والمدينية المحدثة، خصوصا بعد أن أشاع رفاعة رافع الطهطاوي "1801- 1873" نظرة جديدة إلى المرأة في كتاباته، ابتداء من كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي طبع لأول مرة سنة 1834 بعنوان "خلاصة الإبريز والديوان النفيس "، وانتهاء بكتابه "المرشد الأمين في تربية البنات والبنين" الذي طبع سنة 1873. وهي الكتابات التي سبقت بداياتها ما حاوله أحمد فارس الشدياق "1809- 1887 " في سرديات كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق " (وقد صدرت طبعته الأولى في باريس سنة 1855 على نفقة رافائيل كحلا الدمشقي " من إثبات ترقي المرأة في الدراية والمعارف بحسب اختلاف الأحوال عليها، وتقديم النموذج على ذلك بزوجه الفارياقية "مؤنث الفارياق، وهي التسمية المختصرة لكلمتي الاسم : فارس الشدياق " التي تدرجت في المعارف، بعد أن كانت لا تفرق بين الأمرد والمحلوق اللحية وبين البحر الملح وبحر النيل، إلى أن صارت تجادل أهل النظر والخبرة، وتنتقد الأمور السياسية والأحوال المعاشية والمعادية في البلاد التي رأتها أحسن انتقاد.

وكانت كتابات فارس الشدياق حلقة تتوسط ما سبق به رفاعة الطهطاوي في مصر وما دعا إليه بطرس البستاني "1819- 1883 " في لبنان. وكلا الاثنين أثمرت جهودهما في الدعوة إلى تعليم المرأة وتأكيد حضورها في المجتمع. وقد مضى بطرس البستاني في الطريق نفسه الذي بدأه الطهطاوي من قبل أن يصدر مجلته الشهيرة "روضة المدارس" في شهر أبريل سنة 1870 م. وارتبط اسم البستاني بالتعليم المدني منذ أن أنشأ المدرسة الوطنية في بيروت سنة 1863، كما أنشأ مجموعة من الصحف، أبرزها جريدة " الجنان " التي نشر على صفحاتها ابنه سليم البستاني " 1847- 1884" رواياته الأولى ابتداء من العام الأول لصدورها سنة 1870، وألح على أهمية تعليم المرأة ضمن مسعاه التنويري الذي اكتسب طابعا موسوعيا منحه صفة المعلم، خصوصا بما كتبه في "قاموس محيط المحيط " و"دائرة المعارف " في أجزائها الستة الأولى التي صدر مجلدها الأول سنة 1876. وربما كان بطرس البستاني أول المترجمين البارزين لفن الرواية، فقد ذكر يوسف إليان سركيس في موسوعته "معجم المطبوعات العربية والمعربة" أن المعلم بطرس البستاني عزّب "قصة روبنسون كروزي، عن الإنجليزية، وطبع التعريب في مالطة سنة 1835 "في 252 صفحة".

رائدة الكتابة الروائية

أحسب أن مناخ الاستنارة الذي أشاعه حوله بطرس البستاني، وأضاف به جذريا إلى ما سبقه غيره، هو المسئول عن اتجاه ابنته أليس إلى الإسهام في "فن الرواية" الذي مارسه أخوها على صفحات "الجنان " منذ سنة 1870، وذلك بإصدار روايتها الأولى والوحيدة "صائبة" التي طبعتها المطبعة الأدبية في بيروت سنة 1891، فأصبحت بذلك رائدة الكتابة الروائية التي تتابعت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ، وأبرزت أسماء كاتبات من طراز لبيبة هاشم " 1880-1947" بينما تاريخ الرواية العالمية يشيرالى علامات فارقة من مساهمات النساء الكاتبات في الغرب، فإن تاريخ الأدب العربي يفتقد مثل ذلك وزينب فواز"1860- 1914" إلى جانب اسم أليس بطرس البستاني.

كان ذلك في سياق غير بعيد عن تأكيد المكانة الأدبية للمرأة التي استهلتها القصائد والكتابات النثرية لعائشة التيمورية " 1840- 1902 " التي تعد رائدة الحضور النسائي في الإبداع العربي دون منازع. وقد وجدت كتاباتها النثرية من يمضي بعدها إلى شوط أبعد، خصوصا من بنات الطبقة الوسطى اللاتي سرعان مابرز من بينهن في الشام زينب فواز التي كانت مقالاتها فى" الفتاة " و" أنيس الجليس " و " المؤيد " و" النيل " استهلالا حذريا وتمهيدا فعليا لما كتبه قاسم أمين "1865" 1908" عن "تحرير المرأة (1899)و "المرأة الجديدة" في الانتشار النسبي للتعليم المدني للمرأة. وذلك هو التعليم الذي استهله علي مبارك "1823- 1893" فى مصر، حكوميا، حين فرغ من إنشاء المدرسة السنية سنة 1873، تحت رعاية الخديو إسماعيل وتنفيذا لأوامره التي أصدرها إليه في السادس من 1869 وكان ذلك بعد بدايات أهلية قامت فيها الجاليات الأجنبية بالدور الأكبر، ابتداء من إنشاء مدررسة راهبات الراعي الصالح في شبرا سنة 1844، ثم مدرسةالأمريكان للبنات بالأزبكية سنة 1856، ثم مدرسة راهبات الفرنسيسكان الإيطالية سنة 1859. ولم تكن هناك مدرسة أميرية للبنات في مصر قبل المدرسة السنية سوى مدرسة القوابل التي أنشأها محمد علي"1769- 1849" سنة 1831 بعشر جوار سودانيات صغيرات السن انتخبهن كلوت Clot بك "1793- 1868" لفن الولادة ، ومعهن اثنتان من أغوات الحريم لتعليم الطب والجراحة النسائية. كان ذلك بعد أربع سنوات من إنشاء محمد علي سنة 1827 للمدرسة الطبية التي أدارها كلوت بك.

وفي موازاة التعليم الأهلي للبنات في مصر، اتجهت خطى التعليم في الشام وإن اكتسبت طابعا طائفيا لافتا. ويبدو أن أسبق مدارس البنات في الشام، حسب ما نقرأه في الجزء الأخير من تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان، هي المدرسة الانجليزية التي أنشأتها مسز بوين طمسون سنة 1860 وعرفت باسم مدرسة مسز "طوم ". وجاءت بعدها بعام واحد المدرسة الكلية الإنجيلية للبنات سنة 1861، ولحقت بهاتين المدرستين مدارس أخرى منها مدرسة الراهبات العازاريات، ومدرسة راهبات المحبة والناصرة، ومدرسة بروسيا، ومدرسة مس تيلور، ومدرسة زهرة الإحسان التابعة لجمعية زهرة الإحسان لطائفة الروم الأرثوذكس. وهي الجمعية التي أنشأها عقائل وجهاء هذه الطائفة في بيروت سنة 1880 بغرض تعليم الفتيات وترقية نفوسهن. وتولت إدارتها السيدة لبيبة جهشان.

ولاشك أن اتساع رقعة التعليم المدني للبنات قد أفضى في مصر، كما أفضى في الشام، إلى أن أصبح حضور المرأة قرين عدد دال من كاتبات الرواية اللائي سبقن قاسم أمين في الدعوة إلى " المرأة الجديدة " وتحريرها بواسطة الكتابة ومن داخل فعل الكتابة في الوقت نفسه. ويلفت الانتباه من هؤلاء الرائدة الأولى أليس بطرس البستاني التي نشرت روايتها "صائبة" سنة 1891 قبل ثماني سنوات من نشر الرواية الأولى للبيبة هاشم بعنوان "حسناء الحب " سنة 1898. وهي الرواية التي تبعتها بعام واحد رواية زينب فواز الأولى "حسن العواقب " التي نشرتها مطبعة هندية بالقاهرة سنة 1899. وتعد الكاتبات الثلاث- أليس بطرس البستاني ولبيبة هاشم وزينب فواز- رائدات الرواية العربية في القرن التاسع عشر بحق، فنحن لا نعرف سواهن كاتبات للرواية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خصوصا إذا استثنينا المحاولة السردية التي نشرتها في كتاب عائشة التيمورية بعنوان "نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال " سنة 1887 (=1305 هـ) طبعته مطبعة محمد مصطفى"في 107 صفحات". وهوالكتاب الذي قرظته شعرا السيدة وردة اليازجي "1838- 1924 " أخت إبراهيم اليازجي "1847- 1906 " وابنة الشيخ ناصيف اليازجي " 1800-1871 " صاحب المقامات الستين التي نشرها بعنوان "مجمع البحرين " بعناية الخواجة نخلة يوسف مدور في بيروت سنة 1856 بعد عام واحد من نشر"الساق على الساق " في باريس. وكانت وردة اليازجي شاعرة من جيل عائشة التيمورية، سبقتها في المولد بعامين، وخلفت ديوان "حديقة الورد" الذي طبع في بيروت سنة 1867. ويبدو أنها هاجرت إلى مصر مع أخيها إبراهيم سنة 1894 واستقرت بعض الوقت قبل أن تنتقل إلى الإسكندرية التي توفيت فيها بعد أن أسهمت في بواكير الإبداع النسائي العربي. لكنها لم تقترب من سرديات المقامة كما فعل والدها الذي بعث فن المقامات القديم. ولا من الحكي الذي حاولته عائشة التيمورية في كتابها "نتائج الأحوال ".

نزعة مؤثرة

مهما يكن من أمر، فقد كان "نتائج الأحوال" محاولة تمهيدية أفضت على نحو غير مباشر إلى روايات الرائدات الثلاث : أليس البستاني ولبيبة هاشم وزينب فواز. وسواء كشف لنا البحث في المستقبل عن كاتبات أخريات أسهمن إلى جانب الرائدات الثلاث في ريادة فن الرواية أو لم نجد فمن الدال حضورهن اللافت بما نشرن في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، الأمر الذي كان ثمرة تراكم مقدمات سابقة أفضت إلى استهلال نزعة نسائية مؤثرة.

أتصور أن الكتاب الذي أصدرته زينب فوازبعنوان "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" وطبعته مطبعة بولاق سنة 1312 هـ (=1894 م) هوعلامة دالة على حضورهذه النزعة، ابتداء من صفحة الغلاف التي حملت هذين البيتين من نظم زينب فواز:

كتابي تبدى جنة في قصورها تروح روح الفكر حور التراجم

خدمت به جنسي اللطيف وإنه لأكره ما يهدى لغر الكرائم

وما يعنيه البيت الثاني بخدمة الجنس اللطيف هو ما أشارت إليه المؤلفة في مقدمة كتابها من أنها لم تجد في اختصار تاريخ المتقدمين واختيار أهم المشهورين من السالفين من أفرد لنصف العالم الإنساني بابا باللغة العربية، جمع فيه من اشتهرن بالفضائل وتنزهن عن الرذائل، مع أنه نبغ منهن جملة سيدات لهن المؤلفات التي حاكين بها أعاظم العلماء وعارضن فحول الشعراء. وقد قامت زينب فواز بهذه المهمة التي انتدبت نفسها إليها، بعد أن لحقت بها الحمية والغيرة النوعية على تأليف سفر يسفر عن محيا فضائل ذوات الفضائل من الآنسات والعقائل في كل زمان ومكان، وجعلت من هذا التأليف بعد إتمامه وتنقيحه خدمة لبنات نوعها، ودعما لحضورهن الواعد بما يؤيده من ميراث الإبداع النسائي، قديما وحديثا، في الشرق والغرب. وذلك ينطوي الكتاب على نزعة انسانية تصل بين نساء العالم القديم والجديد، وتجاور بين الملكة إليزابيث "اليصابات" ملكة انجلترا وأم سلمة زوجة العباس السفاح، وبين بلقيس ملكة سبأ ويوران ابنة الحسن بن سهل، وبين جورج صاند "سند" صاحبة الروايات العاطفية وآن رادكليف التي عرفت برواياتها التاريخية، وبين الأميرة زينب هانم أفندي أصغر كريمات محمد علي باشا وفاطمة علية ابنة جودت باشا ناظر العدلية العثمانية، وبين عائشة التيمورية ومريم مكاريوس التي ألفت مع صديقات لها جمعية نسائية أدبية في بيروت سنة 1880 أطلقت عليها اسم "باكورة سورية"، وتصدت للدكتور شبلي شميل وردت على ما كتبه في "المقتطف " "بعد سنة 1885 وقبل 1888 " من تحامل على المرأة والإجحاف بحقها في مقال له من قسمين بعنوان: "الرجل والمرأة وهل يتساويان؟ ".

ولم يكن هناك ما سبق كتاب زينب فواز سوى كتاب باللغة التركية لمحمد ذهني بعنوان "مشاهد النساء" أشارت هي إلى إفادتها منه في المصادر التي عددتها في مطلع كتابها، ذلك الكتاب الذي أقام للسيدات ظهيرة فضل وأدب، فيما قال حسن حسني صاحب جريدة "النيل ". وكانت زينب فواز واعية بأهمية الدفاع عن بنات جنسها اللائي هن نصف العالم البشري والقائمات على تربية الملكات الأولى والشريكات الأمينات في الأعمال الحياتية.

ولذلك قدمت لكتابها بتقريظ شعري له صاغته عائشة التيمورية التي أعجبها الكتاب، واستهلت الكتاب بمقتطفات دالة من كتابات كاتبات الحركة النسائية التي أحاطت بها، مثل السيدة سارة نوفل وجليلة نخلة موسى ومريم خالد التي كتبت عن وجوب تعليم البنات، فضلا عن استيرا زهوري التي كتبت عن الإحسان الكتابي بوصفه إبداعا غير مقصور على الرجل.

وتختتم زينب فواز مقتبساتها بما تنقله عن سارة نوفل التي قالت: "يجب علينا أن نتحد من الآن فصاعدا على نبذ كل عادة مضرة بأجسامنا ومصالحنا، ونعرف مالنا من الحقوق وما علينا من الواجبات". وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على بواكير نزعة نسائية فرضت حضورها في زمن نشر كتاب زينب فواز ونشر كتابها على السواء.

ومن المفيد أن نؤكد، من منظور هذه النزعة، أن كتاب فاسم أمين عن "تحرير المرأة" صدر بعد تسعة أعوام من نشر ألبس بطرس البستاني روايتها الوحيدة التي لم يصلنا غيرها مع الأسف، وبعد سنة واحدة من نشر لبيبة هاشم روايتها الأولى، وفي السنة نفسها التي صدرت فيها رواية زينب فواز الأولى في سياق متصاعد من مقالاتها عن حقوق المرأة التي بدأتها سنة 1892 في مجلة "الفتاة". وذلك أمر يدل على أن كتابي قاسم أمين لم يكونا بمثابة انبثاق مفاجىء لفكر تحرري يسعى إلى صياغة ملامح واعدة للمرأة الجديدة وإنما كانا حلقة من حلقات سياق متصل ومتواصل من الجهود التي أوصلتها الكتابة النسائية إلى دورة من ذراها التي تمثلت في كتابي قاسم أمين،، وهي ذروة تكشف في جذورها وتتبع سياقاتها عن الحضور المبكر لرائدات الكتابة النسائية منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ضمن سلسلة متعاقبة الحلقات من المبدعات اللاتي كان حضورهن المتزايد بمثابة استجابة إبداعية إلى التصاعد المئزايد للمجموعات النسائية من القارئات بوجه عام وقارئات الرواية بوجه خاص. وهي المجموعات التي تركت بصماتها على آليات إنتاج الرواية وعلاقات استقبالها في الوقت نفسه.

حضور إبداعي

ويبدو أن التصاعد المتزايد لمجموعات القارئات وما أثاره من أصداء هو المسئول عما كتبته مريم نمر مكاريوس عن مطالعة النساء للقصص، ونقلته عنها زينب فواز في ترجمتها لها "ص 498- 499" على النحوالتالي : "نحن نميل طبعا إلى قراءة سير الناس ولذلك نرى أكثر نساء العالم تقتبس معارفهن وفوائدهن من قراءة الكتب التي من هذا الباب. ولا يخفى عليكن أن المرأة الصادقة لا تقصد بمطالعة الروايات وسير الناس مجرد تسلية الخاطر وإشغال المخيلة بما يبهج الأطفال ويسلي الأولاد الصغار، ولكنها تقصد أولا تحصيل الفوائد اللازمة لها في حياتها مثل معرفة الأخلاق واختلاف الأحوال وصروف الزمان والتصرف في النوائب وفضل ممارسة الفضيلة ووخامة مرتع الرذيلة واعتبار العواطف الشريفة والاقتداء بالذين فاقوا في حسن صفاتهم وكرم أخلاقهم وفازوا بجميل صبرهم وأفادوا بحسن تربيتهم .. وإصلاح شئون هذه الفضائل وأمثالها تقصده المرأة الحكيمة أولا في مطالعة الروايات والسير وتقصد الفكاهة والتسلية ثانيا. وإني طالما وددت لو كان لنا نحن بنات اللغة العربية ما لغيرنا من الروايات التي إذا قرأناها لم تعل وجوهنا حمرة الخجل، ومن السير التي نجد فيها ما يوسع العقول ويهذب الأخلاق ويلطف العواطف ويكمل الأدب ويعلم أحوال العالم ويكشف لنا خبايا الطبع البشري، فلم أنل المنى إلا في القليل مما وقفت عليه. ولم أزل اضطر إلى مطالعة كتب الإفرنج لتحصيل ما أشتهيه من هذا القبيل مع أننا في زمان تتبارى فيه أقلام الكتاب ويتباهى فيه أولو النباهة والذكاء".

هذا الزمان الذي تبارت فيه أقلام الكتاب والكاتبات هو الزمان الذي تولدت فيه الصحافة النسائية، وظهرت فيه مجلاتها الخاصة، مثل مجلة " الفتاة" الشهرية التي أنشأتها هند نوفل "مدام دبانة" في الإسكندرية وصدر عددها الأول في العشرين من نوفمبر 1892، وعلى منوالها سارت مجلة " الفتاة" الأسبوعية التي أنشأتها نبوية موسى في القاهرة، وهي مجلة متأخرة صدر عددها الأول في العشرين من أكتوبر 1937. وقد صدر بعد مجلة "الفتاة" الأولى بسبع سنوات مجلة "أنيس الجليس " التي أنشأتها ألكسندرا مليتادي أفرينو، وصدر عددها الأول في الحادي والثلاثين من يناير 1898. وكانت حلقة من حلقات السياق نفسه الذي أنتج مجلة "السيدات والبنات " الشهرية التي أنشأتها في أبريل 1903 روز أنطون حداد شقيقة فرح أنطون وزوج نقولا حداد، وكلاهما كاتب رواية. وقد عادت روز حداد وأصدرت مجلة أخرى بعنوان "السيدات والرجال " ظهر عددها الأول في نوفمبر 1925، بعد أن اتسعت دائرة الصحافة النسائية، وظهرت مجلة "فتاة الشرق" التي أصدرتها لبيبة هاشم، ومجلة "المرأة المصرية" التي كانت تصدرها باسم عبدالملك. وكلها مجلات تضافرت مع صحف النهضة الداعية إلى الاستنارة والمعبرة عن الوعي المديني المحدث، سواء في تأكيد دور المرأة الكاتبة المهتمة بقضايا تحرر المرأة وتحريرها، أو تأكيد الحضور الإبداعي للمرأة كاتبة الرواية التي لم تتأخر طويلا في اللحاق بالرجل، فالفارق الزمني بين تاريخ نشر الرواية الأولى لفرنسيس فتح الله المراش "غاية الحق 1865 " وتاريخ نشر الرواية الأولى والأخيرة لأليس بطرس البستاني "صائبة 1891 " لا يجاوز ربع قرن إلا بعام واحد على وجه التحديد.

والفارق بين اكتمال إنشاء المدرسة الأميرية الأولى لتعليم البنات في القاهرة "سنة 1873 " ونشر مقالات زينب فواز عن المساواة بين المرأة والرجل في مجلة "الفتاة" "سنة 1892 " في القاهرة نفسها أقل من عشرين عاما، هي مدى الإنجاز الذي حققته المرأة الكاتبة في مجتمع تقليدي ، نقلته علاقات التحديث والحداثة من حالة إلى حال، مبرزة معنى أساسيا من معاني المجتمع المدني الذي لا يعرف التمييز بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات.

ولولا هذا المدى المتميز من الإنجاز النسائي، ضمن علاقات مجتمع مدني واعد، ما تأسست ظاهرة الصالونات الأدبية التي رعتها النساء المستنيرات من بنات الأسر الحاكمة أولا، ثم بنات الشرائح الميسورة من فئات الطبقة الوسطى ثانيا. وكان ذلك ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر، في سلسلة الصالونات التي تبدأ بصالون نازلي هانم فاضل، حفيدة إبراهيم باشا وابنة فاضل باشا الملقب بأبي الأحرار، ولا تنتهي بصالون مي زيادة "1886- 1941" التي لم تجاوز أسرتها طبقيا شريحة ميسورة نسبيا من شرائح الطبقة الوسطى. والصالون الأول هو الصالون الذي قيل إن كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين كتب بتوجيه من صاحبته التي جمعت في صالونها الأدبي السياسي ما بين قاسم أمين ومحمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم من أقطاب حركة الاستنارة والمتحمسين لفن الرواية في الوقت نفسه.

وسبق صالون مي زيادة في تحرره الذي جمع كتاب عصرها المبرزين من أمثال عباس العقاد وطه حسين وعلي عبدالرازق ومحمد حسين هيكل، صالون ملك حفني ناصف "1886- 1918" الذي اقتصرعلى النساء وحدهن، واتخذ شكل منتدى قصدته كثيرات من السيدات الغربيات والشرقيات ليستنرن به في الوقوف على مبلغ رقي المرأة العربية وما ينتظر من شئونها المستقبلة. وكان ذلك الصالون النسائي منبرا موازيا لمقالات ملك حفني ناصف وخطبها التي نشرتها في صحف العصر، وأصدرتها مطبعة "الجريدة" في كتاب خاص بعنوان " النسائيات " سنة 1928، وهو الكتاب الذي بدأت مي زيادة من أفكاره الإصلاحية، مقتحمة أفقا أكثر جسارة وجذرية في كتابة المرأة.

والفارق بين صالونها الذي بدأ متأخرا في الزمن وصالون ملك حفني ناصف لا ينحصر في اقتصار صالون باحثة البداية على النساء وانفتاح الصالون الآخر على الرجال فحسب، وإنما يمتد إلى مدى أبعد في دلالته على التطور الذي قطعته الحركة النسائية في مصر، منذ أن دخلت ملك حفني ناصف "ابنة حفني ناصف مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف العمومية قبل إنشاء الجامعة المصرية سنة 1908 التي تولى التدريس فيها ، وزوج عبدالستار بك الباسل فيما بعد" المدرسة السنية سنة 1893، أي بعدعشرين عاما من افتتاحها ، وحصولها منها على الشهادة الابتدائية سنة 1900، وهي السنة الأولى التي تقدمت فيها الفتيات في مصر لأداء الامتحان للحصول على تلك الشهادة وكان ذلك بداية انتقال ملك حفني إلى القسم العالي بالمدرسة السنية وحصولها على شهادتها التي أهلتها للاشتغال بالتعليم في مدارس البنات الأميرية التي اتسع نطاقها مع الشيوع النسبي للأفكار التحررية عن "المرأة الجديدة" التي دعت إليها الصحافة، وجسدتها الشخصيات التي ابتدعتها كاتبات الرواية ابتداء من أليس بطرس البستاني.

روابط فكرية

ويبدو أن إدراك كاتب مثل محمد حسين هيكل "1888- 1956" الذي ينتمي إلى الأجيال الأحدث لأهمية هذه الصالونات في نشأة الرواية وازدهارها هو ما دفع به إلى أن يكتب في جريدة "السياسة الأسبوعية" سنة 1930 عن أسباب فتور القص العربي، ويرد بعض هذه الأسباب إلى عدم وجود معاضدة من السيدات، وعدم وجود صالونات تحتفي فيها السيدات بالإبداع الروائي وتدعم المتميز منه. ويقول هيكل إن كتاب الشرق لو وجدوا مثل ما وجد كتاب القرن السابع عشر، ولايزال كتاب أوربا يجدونه في العصر الحاضر، من حـماية فضليات السيدات وعطفهن وتشجيعهن لعرف الأدب القصصي من صور الإلهام ما لم يعرف من قبل، ودبت فيه ألوان النشاط والحدة والإبداع في الخيال ما يمكن لأدب الشرق أن يسبق فيه أدب الغرب. والطريف في دلالته أن محمد حسين هيكل الذي عرف صالون مي زيادة يتجاهل كتابة المرأة التي سبقته هوشخصيا إلى فن الرواية، ولا ينتبه للأثر الذي يمكن أن تنركه المرأة الكاتبة بحضورها الإبداعي الذي يجاوز الصالون الأدبي إلى إشاعة وعي جديد بالمرأة، وعي يؤدي إلى تطبيع علاقة الكاتب الرجل بالمرأة الكاتبة، وإلى تعويد القراء الذكور على أفكار النساء الكاتبات، وتحرير دوائر القراءة النسائية من أمثال التحفظات التي أبدتها ملك حفني ناصف عندما استنكرت أن تقتصر قراءة الفتيات في سن المراهقة على الروايات الغرامية، لأنهن في ذلك الوقت قابلات لشدة الانفعالات النفسية والتأثر بحوادث العشق التي تنطبع في ذاكرتهن كالصور المتحركة. ولحسن الحظ، لم تكن بقية النساء الكاتبات في تحفظ باحثة البادية، ولم يتجاهل كل الكتاب الرجال "ومنهم هيكل نفسه " كتابة المرأة، وإنما احتفوا بها وشجعوا على وجودها في الصحافة التي حملت أصواتهن إلى دوائر أكثر اتساعا من الدوائر المحدودة للصالونات الأدبية.

وأحسب أن روابط القرابة العائلية والفكرية والطائفية قد لعبت دورا في هذا المجال، خصوصا ما اتخذ من هذه الروابط شكل المجموعات الثقافية المترابطة. أقصد إلى المجموعات التي تركت ثأثيرها على عضواتها بما أسهم في تحرير الوعي النسائي ودفع العضوات أنفسهن إلى عوالم الكتابة، سواء بتشجيع أفراد التجمع الطائفي على نحو ما نقرأ في مقدمة رواية "قلب الرجل" التي قدمتها لبيبة هاشم إلى جمعية السيدات المارونيات التي انتسبت إليها، أو بتشجيع من أفراد الأسرة على نحو ما حدث في حالة أليس بطرس البستاني ابنة المعلم بطرس البستاني وشقيقه سليم البستاني صاحب الروايات الرائدة الذي قيل إنه ساعد شقيقته في كتابة روايتها الوحيدة. وينطبق الأمر نفسه على كتابة روز حداد شقيقة فرح أنطون صاحب روايات : " الدين والعلم والمال " و" اورشليم الجديدة " و"الوحش.. الوحش " وزوج نقولا حداد الذي ترك لنا عددا لا بأس به من الروايات التي أضافت إلى ملامح نشأة الرواية العربية.

ولاشك أن هذه العوامل في علاقاتها المتفاعلة مع غيرها من العوامل المؤثرة قد أفضت إلى اتساع دوائر التسامح الاجتماعي والإبداعي التي تقبلت بالاعتراف وجود المرأة الكاتبة إلى جانب وجود الرجل الكاتب، ومن ثم الاتساع بدائرة التعاطف التي تخلقت حول ما كتبته كاتبات من طراز زينب فواز سنة 1888، دفاعا عن المرأة وردا على الهجوم الذي شنه حسين أفندي فوزي في مقال له بعنوان: "السراج الوهاج في ذكر العوائد وحقوق الزواج " نشره على صفحات جريدة " فرصة الأوقات ". وكان ذلك بداية مناظرة حامية استمرت من منتصف رجب إلى شهر المحرم من سنة 1311 هجرية. وهي المناظرة التي كتب عنها حلمي النمنم في كتابه الكاشف عن زينب فواز "الرائدة المجهولة".

 

جابر عصفور