كوابيس

 

ترجمها عن الإنجليزية: خليل كلفت

انتظره الجميع قالوا هكذا، عليك أن تنتظر لأنه في حالات كهذه الحالة لا يمكنك أبدا أن تعرف، حتى الدكتور رايموني قال هكذا، عليك أن تنتظر، في بعض الأحيان يكون هنا رد فعل وهذا يحدث أكثر في حالة شخص في عمر ميتشا، عليك أن تنتظر، يا سيد بوتو، نعم، يا دكتور ولكن مر الآن أسبوعان وهي مازالت لا تفيق، أسبوعان وهي راقدة هناك وكأنها ميتة، يا دكتور، أعرف، يا مدام لويزا، إنها حالة غيبوبة كلاسيكية، وكل ما يمكننا أن نفعل هو أن ننتظر. لاورو أيضا انتظر، ففي كل مرة عاد فيها من الجامعة كان يتوقف للحظة في الشارع بالخارج قبل أن يفتح الباب، وكان يفكر، اليوم، اليوم سأجدها أفاقت، ستكون قد فتحت عينيها وستكون منهمكة في الحديث مع ماما، فلا يمكن أن يستمر الأمر كل هذا الوقت الطويل، لا يمكن أن يكون الأمر أنها ستموت في العشرين، من المؤكد أنهـا ستكون جالسة في الفراش تتحدث مع ماما، ولكن كان عليهم فقط أن يظلوا منتظرين، لا تغيير، يا بني، سيعود الدكتور بعد الظهر، إنهم جميعا يقولون إنه لا يمكنهم أن يفعلوا شيئا. تعال كل شيئا، يا بني، أمك ستبقى مع ميت ميتشا، عليك أن تدخل بعض الطعام في جوفك، لا تنس أن أمامك امتحانات، سنشاهد الأخبار معا.

لكن كل شيء مر وتغير، أما الثابت الوحيد غير المتغير، الشيء الوحيد الذي ظل كما هو بالضبط، يوما بعد يوم، فلم يكن سوى ميتشا، أثر ميتشا على الفراش، ميتشا النحيلة والهزيلة، الراقصة الشعبيه ولاعبة التنس، ميتشا المسحوقة والساحقة للجميع طوال أسابيع عديدة إلى الآن، عملية فيروسية معقدة، حالة غيبوبة، يا سيد بوتو، من المستحيل عمل أية تكهنات، يا مدام لويزا، فقط أن نقف إلى جانبها وأن نعطيها كل فرصة، إن الصبا، إن الشباب في ذلك العمر أقوياء جدا، وراغبون جدا في الحياة. ولكنها لا تستطيع أن تساعد نفسها، يا دكتور، إنها لا تلاحظ أي شيء، إنها تشبه..، آه يا إلهي، اغفر لي، أنا لا أدري ماذا أقول.

ولا كان لاورو يصدق ذلك تماما، كان المر أشبه ما يكون بمقلب من مقالب ميتشا، لقد كانت دائما تقوم بأسوأ أنواع المقالب، تتنكر كشبح على السلم، تُخفي منفضة من الريش داخل الفراش، ويضحكان كلاهما بأعلى صوت، وينصب كل منهما للآخر فخاخا، ويعبثان بلعب أنهما عادا طفلين من جديد. عملية فيروسية معقدة، ثم قطعت القوة المباغتة ذات أصيل بعد الحمى والآلام، دفعة واحدة، الصمت، البشرة الشاحبة شحوب الموتى، التنفس المتباعد والهادىء. الشيء الوحيد الهادئ في ذلك المكان المليء بالدكاترة والأجهزة والتحليل والاستشارات، إلى أن سيطر على الموقف بالتدريج مقلب ميتشا، معلقا فوقهم جميعا ساعة بعد ساعة، حيث تفسح صرخات السيدة لويزا اليائسة المجال لبكاء مكتوم تقريبا، للكمد في المطبخ وفي الحمام، أما شتائم الأب فتقاطعها الأنباء ونظرة عجلى على الجريدة الصباحية، وثورة لاورو المتشككة تقاطعها رحلات إلى الجامعة، وفصول، واجتماعات، وبصيص الأمل في كل مرة عاد فيها من وسط المدينة، سأعود إليك، ياميتشا، لا يمكنك أن تفعلي شيئا كهذا، أنت أيتها الحمقاء، سأعود إليك، وسترين. وبصرف النظر عن الممرضة التي عاقدة الحاجبين بهدوء، كانت ميتشا هى الشخص الوحيد الذي بقىهادئا، وكانوا قد أرسلوا الكلب إلى منزل أحد الأعمام، ولم يعد الدكتور رايموندي يأتي مع زملائه، فقط كان يمر في الأمسيات وكان لا يكاد يقضي أي وقت هناك، وبدا أنه هو أيضا يحس بثقل جسم ميتشا يسحقهم أكثر فأكثر كل يوم، فيعودهم على الانتظار، فذلك كل ما يمكنهم أن الانتظار، فذلك كل مايمكنهم أن يفعلوا.

بدأت الكوابيس في الأصيل الذي عجزت فيه السيدة لويزا عن العثور على الترمومتر وعندئذ نزلت والممرضة، مندهشة، إلى الصيدلية على الناصية لتشتريا ترمومتراً آخر. وكانتا تتحدثان عنه، لأنه لا يمكنك أن تفقد ترمومترا بتلك الطريقة، ليس وأنت تستخدمه ثلاث مرات في رزق ليس وأنت تستخدمه ثلاث مرات في اليوم. وقد أصبحوا معتادين على الكلام بصوت مرتفع بجوار فراش ميتشا، فالهمسات التي استخدموها في البداية لم تعد تعنى شيئا، لأن ميتشا كانت غير قادرة على سماعهم، وكان الدكتور رايموندى على يقين من أن الغيبوبة جردتها من كل حساسية، فكان بوسعك أن تقول أي شيء دون ان يتغير مطلقا تعبير وجه ميتشا اللامبالي. وكانتا لا تزالان تتحدثان عن الترمومتر عندما سمعتا طلقات الرصاص عند الناصية، وربما في مكان أبعد، في ناحية "جاؤونا". نظرت كل منهما إلى الأخرى، وهزت الممرضة كتفيها لأن اطلاق الرصاص لم يكن بالشيء الجديد أبدا في الحي أو في أي مكان آخر بالمدينة، وكانت السيدة لويزا على وشك أن تقول شيئا آخر عن الترمومتر عندما رأتا يدي ميتشا تهتزان برعشة طفيفة. ولم يستغرق ذلك سوى ثانية واحدة غير أن كل واحدة منهما لاحظته، وصرخت السيدة لويزا وغطت الممرضة فمها، ودخل السيد بوتو قادما من حجرة المعيشة، ورأوا ثلاثتهم كيف تكررت الرعشة على طول جسم ميتشا بأكمله، كثعبان سريع ينزلق من العنق إلى القدمين، ارتعاشة للعينين تحت الجفون، حيث بدل التقلص الطفيف ملامحها وكأنها تبذل جهدا لتتكلم، لتئن ثم إسراع النبض، والعودة البطيئة إلى الجمود. والتليفون، رايموندي، في الحقيقة ليس هناك تغيير بالفعل، ربما أمل أكثر قليلا رغم أن رايموندي لا يعبر عن ذلك بصراحة، أيتها العذراء الطاهرة، خليها تشفى، خلي بنتي تفيق، خلي هذا العذاب الأليم ينتهي، يارب.. لكنه لم ينته، وبدأ من جديد بعد ذلك بساعة، وصار متكررا أكثر فأكثر، كان يبدو وكأن ميتشا تحلم وكأن حلمها أليم محزن، ويعود الكابوس دون أن يكون أحد قادرا على الهرب منه، حيث يكون الواحد إلى جوارها، يراقبها ويكلمها دون أن يصل إليها أي شيء من العالم الخارجي، مغزوّة بالفعل، بذلك الشيء الذي كان يواصل بطريقة ما ذلك الكابوس الطويل الذي ظلوا يعيشونه، دون أي اتصال ممكن، أوه نجها يارب، لا تتركها هكذا، ويعود لاورو من أحد الفصول، ويقف مثل الآخرين بجوا ر الفرش، واضعا يدا على كتف أمه وهي تصلي.

في تلك الليلة كانت هناك استعارة أخرى، أحضروا معهم جهازا جديدا بضمادات ماصة والتكرودات وقاموا بتثبيتها في الرأس والرجلين، وتناقش طبيبان صديقان لرايموندي الحالة لفترة طويلة في حجرة المعيشة، سيكون علينا أن نواصل الانتظار، يا سيد بوتو، الصورة العامة لم تتغير بعد، ولن يكون من الحكمة أن نفكر في هذا على أنه أحد الأعراض الإيجابية. ولكن هناك مشكلة أنها بدأت تحلم، يا دكتور، إنها تتعرض لكوابيس، لقد رأيت هذا بنفسك، وسيبدأ من جديد، إنها تحس بشيء ما وتعاني، تعاني بشدة، يا دكتو. إنها في حالة خاملة، يا مدام لويزا، كل هذا في اللا وعي، صدقيني، ينبغي أن ننتظر وألا ندع أنفسنا ننخدع، ابنتك لا تعاني، أعرف أن هذا مؤلم لك، سيكون من الأفضل أن تتركيها في رعاية الممرضة إلى أن تظهر علامات على التقدم، حاولي أن تستريحي، يا مدام لويزا، خذي الحبوب التي أعطيتها لك.

ظل لاورو ساهرا بجوار ميتشا حتى منتصف الليل، وكان يقرأ مذكرات امتحانه من وقت لآخر. وعندما سمع صفارة الإنذار، تذكر أنه كان عليه أن يتصل تليفونيا بالرقم الذي كان قد أعطاه لوثيرو له، لكن ليس من البيت وكان من غير الوارد أن ينزل إلى الشارع بعد صفارة الإنذار. رأى أصابع يد ميتشا اليسرى تتحرك ببطء، ومرة أخرى بدا وكأن العينين تدوران تحت الجفون. ونصحته الممرضة بأن يغادر الحجرة، فليس هناك ما يمكن عمله، سوى الانتظار "لكنها تحلم"، قال لاورو، "إنها تحلم من جديد فقط انظري إليها". واستمر ذلك طوال فترة استمرار صفارة الإنذار في الخارج اليدان اللتان بدا وكأنهما تبحثان عن شيء ما، والأصابع وهي تحاول العثور على مسكة على الملاءات. والآن كانت السيدة لويزا في الحجرة أيضا، غير قادرة على النوم. لماذا لم تأخذي، حبوب الدكتور رايموندي؟ سألت الممرضة غاضبة تقريبا. "لا أجدها، كانت على الكومودينو الخاص بي، لكنني لا أجدها"، قالت مدام لويزا، وكأنها غير متأكدة ذهبت الممرضة تبحث عن الحبوب وحملق لاورو وأمه كل منهما في الآخر، وكانت ميتشا تحرك أصابعها الآن بصعوبة وأحسا أن الكابوس استمر، متواصالا بعناد إلى الأبد، وكأنه يعارض الوصول إلى النقطة التي يكمن فيها نوع من الشففة، من رحمة أخيرة، أن يوقظها كما فعل مع كل شخص آخرا أن ينقذها من هذا الرعب. لكنها ظلت تحلم، وفي غضون لحظة ستبدأ الأصابع في الارتعاش من جديد.

لا أجده في أي مكان"، قالت الممرضة: "لقد ضعنا تماما، نحن لم نعد نعرف أين تختفي الأشياء في هذا البيت".

وصل لاورو متأخرا في الأمسية التالية، وسأله السيد بوتو سؤالا غامضا وسط التعليق على كأس كرة القدم مباشرة، دون أن يرفع عينيه عن التليفزيون "التقيت بقليل من الأصدقاء"، قالى لاورو، وهو يبحث عن شىء؟ مايصنع به ساندويتشا لنفسه "ذلك الهدف كان جميلا"، قال السيد بوتو، "الحمد لله أنهم يعيدون عرض المباراة، يمكننا الآن أن نشاهد تلك التصويبات الرئيسية بالتفصيل".

وبدا أن لاورو غير مهتم بإحراز الهدف، وكان يأكل وهو ينظر إلى أسفل نحو الأرضية. "أنا متأكد أنك تعرف ماذا تفعل، يا بني"، قال السيد بوتو، وهو لا يثزال يشاهد الكرة، "لكن كن حذرا، أليس كذلك".

رفع لاورو عينيه ونظر إليه بدهشة، وكادت هذه هي المرة الأولى التي سمح فيها الأب لنفسه، بمثل تلك الملاحظات الشخصية. "لاتقلق، أنا بخير" قال، وهو ينهض واقفا ليضع حدا للحوار.

كانت الممرضة قد جعلت ضوء حجره النوم خافتا وكان يمكن بالكاد رؤية ميتشا. وعلى الفراشي أبعدت السيدة لويزا يديها عن وجهها وقبلها لاورو على جبينها.

"إنها كما هي"، قالت السيدة لويزا "إنها هكذا طوال الوقت. انظر، انظركيف يرتعش فمها يا للمسكينة، ما الذي تراه؟ يارب، كيف يمكن لهذا أن يستمر ويستمر، هذا..".

"أمي".

"لكن هذا لا يمكن أن يكون، يا لاورو، أنا الشخص الوحيد الذي يبدو أنه يلاحظ، لا أحد يدرك أنها في كابوس طوال الوقت وأنها لن تفيق منه..".

"أمي، أنا أعرف، أنا أيضا أدرك هذا لو كان هناك شيء يمكن عمله فإن رايموندي كان سيعمله. لا يمكنك أن نساعديها بالبقاء هنا، عليك أن تذهبي وأن تنامي قليلا، خُذي حبة ونامي".

ساعدها على النهوض واقفة ورافقها في المشي حتى الباب.

"ماذا كان هناك، يا لاورو؟" سألت، وهي تتوقف "لاشيء، يا أمي، طلقات رصاص قليلة في مكان بعيد، أنت تعرفين". لكن ما الذي كانت تعرفه السيدة لويزا؟ لماذا يقول أي شيء أكثر؟ الآن نعم، كان الوقت متأخرا، بعد أن يرافقها إلى حجرة نومها، سيكون عليه أن ينزل إلى المحل الذي في الناصية وأن يتصل تليفونيا بلوثيرو. لم يجد المعطف الجلدي الأزرق الذي كان يحب أن بلمسه في اللليل، وفتش بدقة في الدواليب التي في الصالة ظنا منه أن أمه علقته هناك، وفي النهاية لبس أي جاكيت قديم لأن الجو مائل إلى البرودة في الخارج. وقبل أن يغادر البيت، دخل حجرة ميتشا للحظة، وتقريبا قبل أن يراها في الظلام أحس بالكابوس، بارتعاش اليدين، بالساكن الخفي بنزلق تحت الجلد. في الخارج، صفارة الإنذار من جديد، لا ينبغي أن يخرج إلا فيما بعد، لكن عنيدئذ سيكون المحل مغلقا، ولن يكون قادرا على الاتصال تليفونيا. وتحت الجفون، تحركت عينا ميتشا وكأنها تحاود أن تهرب، أن تنظر إليه، أن تعود إلى جانبه. وربت على جبينها بإصبع واحد، كان خائفا من ملامستها، من المساهمة في الكابوس بحافز خارجي. وظلت العينان تدوران في محجريهما وتحرك لاورو مبتعدا، لم يعرف لماذا، لكنه أحس أكثر فأكثر بأنه خائف، إن فكرة أن ميتشا قد تفتح عينيها وتنظر إليه جعلته يتراجع إلى الوراء. ولو كان أبوه قد ذهب إلى الفراش لكان بوسعه أن يتصل تليفونيا من حجرة المعيشة، محتفظا بصوته خفيضا، لكن السيد بوتو كان لا يزال يتابع التعليقات الرياضية "نعم، هذا شيء يعلقون عليه حقا"، قال لاورو لنفسه. سوف يستيقظ مبكرا ويتصل تليفونيا بلوثيرو قبل أن يذهب إلى الجامعة. ومن بعيد. رأى الممرضة تخرج من حجرة النوم، حاملة شيئا لامعا، سرنجة أو ملعقة.

حتى الزمن صار ضائعا أو واقعا في شرك ذلك الانتظار المتواصل، ليالي الأرق ونهارات النوم لتعويضها، الأقارب والأصدقاء وهم يأتودن في أية لحظة، ويتناوبون على إلهاء السيدة لويزا، أو يلعبون الدومينو مع السيد بوت، ممرضة بديلة لأن الأخرى كانت بحاجة إلى مغادرة بيونوس إيري لمدة أسبوع، فناجين القهوة التي لم يعثر عليها أحد لأنها كانت مبعثرة في كل أنحاء البيت، لاورو وهو يعود فجأة كلما استطاع ويغادر في كل الأوقات، رايموندي الذي لم يعد يرن الجرس قبل أن يدخل ليتبع نفس الروتين، لا تغير إلى أسوأ، يا سيد بوتو، إنها عملية طويلة لا يمكنك خلالها أن تفعل أكثر من الوقوف بجوارها، إنني أقوم الآن بتعزيز التغذية بالأنبوبة، وينبغي أن ننتظر. لكنها تحلم طوال الوقت، يا دكتور، انظر إليها، إنها لم تعد تحصل على أي راحة. الأمر ليس كذلك، يا مدام لويزا، أنت تتصورين أنها نائمة لكن ليس هناك سوى مجرد ردود أفعال بدنية، ومن الصعوبة بمكان شرحها لأنه في حالات كهذه الحالة هناك عوامل أخرى، أعني، لا تتصوري أنها واعية بما تصفينه بأنه حلم، وربما كانت كل تلك الحيوية علامة جيدة، كل تلك الانعكاسات اللا إرادية، صدقيني، إنني أتابعها بدقة، أنت التي عليك أن ترتاحي، يا مدام لويزا، تعالي هنا، سأقيس ضغط دمك.

بالنسبة للاورو أصبح من الصعب أكثر فأكثر أن يعود إلى البيت، فماذا يفعل مع التحرك من قلب المدينة وكل ما كان يجري في الجامعة، ومع ذلك، بسبب أمه أكثر من أنه بسبب ميتشا، سيحضر في كل الأوقات ويبقى مدة قصيرة يسمع نفس القصص القديمة، ويتحدث مع والديه، مبتكرا موضوعات للنقاش لكي ينتزعهما إنى خارج الحفرة التي وقعا فيها. وفي كل مرة ذهب فيها إلى جانب فراش ميتشا، كان ينتابه نفس الإحساس باتصال مستحيل، ميتشا القريبة منه إلى هذا الحد، وكأنها تستنجد به، الإشارات المبهمة للأصابع وتلك النظرة الداخلية التي تحاول أن تخرج، شيء ما استمر وتواصل، رسالة سجين عبر جدران الجلد، صرختها العديمة الجدوى بصورة لا تحتمل طالبة العون. ومن حين لآخر، استحوذت عليه الهستيريا، يقينه بأن ميتشا تعرفت عليه أكثر مما تتعرفت عنى أمهما ذاتها، أو على الممرضة، وبأن الكابوس وصل إلى أسوأ لحظاته عندما كان هو هناك، يراقبها، وبأن أفضل شيء هو أن يغادر على الفور ما دام لا يوجد أي شيء يمكنه أن يفعله، وبأن الحديث معها عديم الجدوى، أنت أيتها البلهاء، أيتها البلهاء العزيزة، كفي عن هذا، أرجوك افتحي عينيك مرة وإلى الأبد وكفي عن هذه الدعابة الغبية، ميتشا أيتها الحمقاء، أيتها الأخت الصغيرة، يا أختي الصغيرة، إلى متى ستظلين تضحكين علينا، أيتها المرأة المجنونة، انسي هذه التمثيلية اللعينة وعودي إلينا، عندي أشياء كثيرة أحكيها لك، يا ميتشا، ولأنك لا تستطيعين أن تفهمي ما أقوله فسأروي لك كل شيء. كل شيء تم التفكبر فيه بكل وضوح، خلال فورات لخوف، رغبة في التشبث بميتشا، لم تُنطق كلمة واحدة بصوت مرتفع لأن الممرضة أو السيدة لويزا لم تتركا ميتشا بمفردها، وهو واقف هناك، بحاجة إلى أن يكلمها عن أشياء كثيرة للغاية، تماما ربما كما كانت ميتشا تكلمه من جانبها، من وراء عينين مغمضتين وأصابع رسمت حروفا عديمة الجدوى على الملاءات.

كان ذلك اليوم هو الخميس، ليس لأنهم كانوا يعرفون ما هو اليوم الذي كانوا يعيشون فيه أو حتى لأنهم يهتمون بذلك، لكن الممرضة كانت قد ذكرت ذلك بينما كانوا يشربون القهوة في المطبخ، وتذكر السيد بوتو أنه ستكودن هناك نشرة أخبار خاصة، كما تذكرت السيدة لويزا أن أختها كانت قد اتصلت تليفونيا من "روزاريو" لتقول إنها ستأتي من هناك يوم الخميس أو الجمعة. ولابد أن امتحانات لاورو قد بدأت، فقد غادر البيت في الساعة الثامنة دون أن يقول إلى اللقاء، تاركا رسالة قصيرة في حجرة المعيشة، لم يكن متأكدا ما إذا كان سيعود للغداء، لكن لا ينبغي أن ينتظروه، على سبيل الاحتياط. ولم يأت للغداء ونجحت الممرضة في إقناع السيدة لويزا بأن تذهب إلى الفراش مبكرا هذه المرة فقط، وكان السيد بوتو يطل وقد أخرج رأسه من نافذة حجرة المعيشة بعد برنامج المسابقات، وكان بوسع المرء أن يسمع المدفع الرشاش يصب وابلا من الطلقات دفعة واحدة من مكان ما قرب "بلاثا إيرلاندا"، وفجأة ساد هدوء، هدوء أكثر مما ينبغي تقريبا، ولا حتى سيارة شرطة، من الأفضل الذهاب للنوم، تلك المرأة التي أجابت عن كل الأسئلة في البرنامج كانت ساحرة، كانت تعرف تاريخها القديم معرفة تامة تقريبا وكأنها كانت تعيش في أيام يوليوس قيصر. ورغم كل شيء، يمكن للثقافة أن تجعلك أغنى من سمسار ولم يعرف أحد أن الباب لن يفتح على الإطلاق طوال الليل وأن لاورو لن يعود إلى حجرته، وفي الصباح ظنوا أنه كان لا يزال نائما بعد امتحان أو أنه كان مستيقظا يستذكر قبل الإفطار، فقط في حوالي الساعة العاشرة أدركوا أنه لم يكن هناك "لاتقلقي". قال السيد بوتو "من المؤكد أنه سهر إلى وقت متأخر احتفالا بشيء ما مع أصدقائه". بالنسبة للسيدة لويزا، كان قد حان الوقت الذي تساعد فيه الممرضة على تحميم ميتشا وتغيير ملابسها. الماء الدافىء وماء الكولونيا، القطن الطبي والملاءات. كان الوقت منتصف النهار: ولاورو لم يظهر بعد، "لكن هذا غريب، يا إدواردو، إنه حتى لم يتصل تليفونيا، وهو لم يفعل هذا قط، وفي المرة التي بقي فيها في الخارج في حفل نهاية الفصل الدراسي اتصل تليفونيا في التاسعة، تذكروا، كان خائفا من أن نقلق عليه، ورغم هذا كان أصغر في ذلك الحين". "الولد متحم س لامتحاناته قال السيد بوتو. "سترون، سيكون هنا في غضون أية دقيقة" من الآن، إنه يكون هنا دائما من أجل نشرة أخبار الساعة الواحدة". ولكن لاورو لم يكن هناك في الساعة الواحدة وفاتته إذاعة الرياضة وكذلك النبأ المهم حول هجوم إرهابي آخر تمت الحيلولة دونه لحسن الحظ بفضل التحرك السريع للشرطة، لا شيء جديدا، درجة الحرارة تنخفض ببطء والأمطار متوقعة على جبال الأنديز.

كانت الساعة بعد السابعة مساء عندما جاءت الممرضة لتأخذ السيدة لويزا،التي كانت لا تزال تتصل تليفونيا بأشخاص يعرفونهم، وكان السيد بوتو يتوفع مكالمة من صديق في الشرطة، لمعرفة ما إذا كان قد أمكنه اكتشاف أي شيء، وكان يطلب كل دقيقتين من السيدة لويزا أن تترك الخط غير مشغول ولكنها كانت تُقلب بسرعة في دفتر العناوين بحثا عن اسم آخر أيضا، ربما كان لاورو قد بقي في بيت العم فرناندو، أو عاد إلى الجامعة من أجل امتحان آخر. "من فضلك أقفلي التليفون"، طلب السيد بوتو مرة أخرى "ألا تدكين أن الولد ربما كان يتصل بنا في هذه اللحظة وهو مشغول دائما، كيف يمكنه أن يتكلم من تليفون عمومي؟ فعندما تكون هذه التليفونات غير معطلة يكون عليك أن تدعي لآخرين الذين ينتظرون يأخذودن أدوارهم". أصرت الممرضة ولهذا ذهبت السيدة لويزا لترى ميتشا، كانت قد بدأت تحرك رأسها فجأة، وكانت من حين لآخر تديره على مهل إلى جانب ثم إلى الآخر، وكان عليهما إبعاد شعرها عن وجهها، فقد انسدل على جبينها، فيما كانت تستدير. وكان ينبغي أن يخبروا الدكتور رايموندي في الحال، ومن الصعب الوصول إليه في المساء، لكن زوجته اتصلت تليفونيا في التاسعة لتقوله إنه سيكون هناك بعد قليل. "إنه سيجد صعوبة في الوصول إلى هنا"، قالت الممرضة، عائدة من الصيدلية بعلبة مصل. "لقد أغلقوا الحي بأكمله، ولا أحد يعرف السبب، فقط اصغوا إلى صفارة الإنذار تلك".

وهي تتراجع مبتعدة عن ميتشا، التي ظلت تحرك رأسها وكأنما بإنكار بطيء عنيد، صرخت السيدة لويزا نستنجد بالسيد بوتو، لا، لا أحد يعرف أي شيء، من المؤكد أن الولد لم يكن بإمكانه أن يصل إلى هنا أيضا، لكن رايموندي سيكون بإمكانه أن يصل إلى هنا بفضل الشارة التي تميزه كطبيب.

"ليس الأمر كذلك، يا إدواردو، ليس الأمر كذلك، أنا متأكد من أن شيئا ما حدث له، لا يمكن أن يصل الأمر إلى حد أنه ليست لدينا أية أخبار إلى الآن، لاورو دائما..".

"انظري، يا لويزا"، قال السيد بوتو "انظري كيف تحرك يدها. وذراعها، هذه هي المرة الأولى التي حركت فيها ذراعها، يا لويزا.. ربما..".

"لكن الأمر أسوأ مما كان من قبل، يا إدواردو، ألا ترى، إنها لا تزال تتعرض لتلك الهلاوس، ويبدو كأنها تدافع عن نفسها ضد لا أدري ماذا.. افعلي شيئا ما، لا تتركوها هكذا، سأذهب لأطلب آل روميرو، وربما كانوا يعرفون، فقد اعتادت ابنتهم أن تدرس مع لاورو. أرجوك، أعطيها حقنة، يا روزا، سأعود- أو من الأفضل أيضا، أن تتصل بهم أنت، يا إدواردو، اسألهم، اذهب الآن".

في حجرة المعيشة بدأ السيد بوتو يتصل برقم تليفون معين، ثم توقف، وأقفل خط التليفون. ماذا لو أن لاورو في تلك اللحظة.. ماذا يمكن لآل روميرو أن يعرفوا عن لاورو، من الأفضل أن ننتظر قليلا. ولم يصل رايموندي، لابد أنهم أوقفوه عند الناصية، ومن المحتمل أنه كان هناك، يقدم تفسيرات. ولم تستطع روزا أن تعطي ميتشا حقنة أخرى، كان العقار قويا للغاية، ومن الأفضل انتظار مجيء الدكتور. وفيما كانت تنحني على ميتشا، وتبعد الشعر الذي غطى عينيها العديمتي الجدوي، أحست السيدة لويزا بإعياء، وبالكاد وجدت روزا وقتا كافيا لتأتي لها بكرسي ولتساعدها على الجلوس مثل حمل ثقيل جامد.

وارتفعت صفارة الإنذار أعلى من ذي قبل، آتية من ناحية "جاؤونا"، عندما فتحت ميتشا فجأة عينيها، تغطيهما الغشاوة التي تكونت على مر الأسابيع، وثبتتهما على نقطة على السقف، ثم تركتهما تنتقلان ببطء إلى أن التقتا بوجه السيدة لويزا، السيدة لويزا التي تصرخ، تقبض بيديها بشدة على صدرها وتصرخ. وجاهدت روزا لتأخذها بعيدا، وهي تنادي بيأس على السيد بوتو الذي أتى ووقف بلا حراك عند قدم الفراش، يحملق في ميتشا، وعيناه مثبتتان على عيني ميتشا وهما تتنقلان بالتدريج من السيدة لويزا إلى السيد بوتو، من الممرضة إلى السقف، ويدا ميتشا تصعدان بنعومة إلى خصرها، تزحفان إلى أعلى لتلتقيا عند صدرها، وبدنها يهتز متشنجا لأن أذنيها ربما كان يمكنهما الآن سماع صفارات الإنذار المتزايدة، والطرق على الباب والذي جعل البيت كله يرتجف، والصيحات الآمرة، وطقطقة كسر الخشب، ثم زخة المدفع الرشاش، وصرخات السيدة لويزا، وترنح سيل الأبدان التي اندفعت داخله، كل شيء وكأنما تم توقيته على إفاقة ميتشا، كل شيءعلى الجدول في سبيل أن ينتهي الكابوس وأن تعود ميتشا إلى الواقع في نهاية المطاف، إلى جمال الحياة.

 

خوليو كورتاثر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات