قراءة نقدية.. الشعر وملكوت الكلمات "رؤية نقدية إلى الكتاب 2 لأدونيس"

قراءة نقدية.. الشعر وملكوت الكلمات "رؤية نقدية إلى الكتاب 2 لأدونيس"

يعد أدونيس, صاحب انقطاع للكتابة, بل صاحب ترهب ضروري لها, بل هو على جلد جرماني لايضاهى في التقميش, وفي التحويل الشعري لمواده التاريخية المستلة من التاريخ العربي والإسلامي, من حدود السنة السادسة للهجرة حتى حدود سنة 350 للهجرة, واضعاً المتنبى في وسط هذا التاريخ الطويل كجوهرة خاصة ونادرة ممثلة لسلطة الشعر, ومتولدة من أخلاط التاريخ والعبقرية الذاتية معاً, ناقداً ومتأملاً وسارداً ومقارناً وشاطحاً تجاه "التاريخ", ومحاولاً التماهي بالمتنبي في أكثر من إشارة وموقع, تجاه الشعر.

ونحن هنا, كما في الجزء الأول, أمام كتاب, ينبني فيه الشعر كرؤية ومعرفة شعرية, على التاريخ كوقائع وأساطير "مرويات" ويخترق فيه الشعر التاريخ اختراق البرق لظلمات كثيفة, أي أنه يومض ومضاً بين حين وآخر, فيكشف الحواشي والنتوءات, وربما أصاب بضوئه بعض الزوايا المستورة, فأظهرها إلى العلن, إلا أنه في النتيجة, ينوء بحمولته التاريخية الرابضة فوقه, فثمة ما يشبه الضغط التاريخي "الشبيه بالضغط الأيديولوجي", تمارسه الحواشي والسنوات والوقائع والأسماء, على النص الشعري, الذي غالباً ما يستسلم لها بمنظومات موازية من الكلمات, فيعيد أدونيس إنتاج السرد/النثر التاريخي بنظم تاريخي مواز, هذا على أن ثمة مستويات أخرى أكثر أهمية مما ذكرنا, في التدخل والتداخل والتناظر, وفي السؤال والنقض, يمارسها أدونيس في الكتاب هذا, على أن ثمة اقتراحاً آخر نرجحه حول نظم أدونيس لبعض الوقائع التاريخية نظماً محايداً, وهو رغبة الشاعر في إدخال مادة عمله الشعري "وهي مادة نثرية تاريخية" في إطار النواة النغمية الأصلية للشعر العربي "وهي التفعيلة". وذلك لم يمنعه من كتابة فصول نثرية طويلة في الكتاب, خاصة في النصوص المتعلقة بالمدن التي رمز إليها بحروف الأبجدية, ونسج فيها نصوصاً على نصوص أخرى موجودة أو مفترضة, أي كتب كتابة تشبه كتابة أخرى "تراثية", بغاية نقضها والسخرية منها.

كتاب مركب

وفي كل حال, فـ "الكتاب" "2" عمل مركب, وحيلة كثيرة, وهو ينطوي على طبقا ومسارب ودهاليز وأقنعة. بل هو غابة رموز. لذا ليس في الإمكان وصفه بكلمة. ومن البداية نسأل: كيف بالإمكان تأسيس كتاب شعري على مثل هذا الأساس في المداميك والمادة التاريخية من حوليات ووقائع وأخبار ومرويات? ولماذا حشد هذه المرويات بقضها وقضيضها أو استعادتها مكررة. في كتاب شعر? ـ علما بأن الشعر اختزال محض وبرق ومراوغة ـ. وهل نحن حقاً أمام كتاب في الشعر, ذريعته المتنبي وأساسه التاريخ العربي والإسلامي, أم أننا أمام كتاب في نقد هذا التاريخ, ذريعته المتنبي وحيلته الشعر? فالسمة الأساسية للكتاب ملتبسة. إن أدونيس يحاكم في نصوصه جانباً كبيراً من التاريخ العربي والإسلامي, بعمل يقترب فيه مما كان قد فعله نيتشه حين حاكم تاريخ المسيحية في كتابه Le Gaisavoir "المعرفة البهيجة", إنما من دون تدقيق علمي أو منهج علمي. هو ينقد التاريخ بالشعر, فجوهر هذا العمل فكري نقدي وأقنعته أو حيله شعرية, وقراءته لاتستقيم إلا بالتأمل في الشكل Forme الذي منحه الشاعر للكتاب, ولم يفصله عن المضمون. فمخططه وتقسيماته ومعماره الهندسي وحشوه, في التراث, ولاتنفصل الحواشي في الميمنة والميسرة أو في أسفل الصفحة عن وسط الصفحة الذي يؤطره في إطار, فهذا الإطار ليس سوى حاجز شكلي لم يمنع النصوص من التدفق في بعضها البعض وتشكيل الكيمياء المركبة التراثية النقدية للكتاب. والصيغ التي ينشئها أدونيس, هي في نفس تراثي محض, سواء أتت بصيغة استطراد لأشعار من المتنبي أو أبي فراس أو علي بن دينار أو ابن نباته أو الأحيمر السعدي, أو لكلمات من سيف الدولة أو الفارابي أو سواهم فمن يوردهم الشاعر كشواهد أو كشهود في الكتاب, أو أتت هذه الصيغ على صورة نظم محايد لوقائع وأخبار مروية, أو بصورة مطولات سردية مماثلة لروايات قديمة بين الوقائع والأساطير, أوردها الرواة والأخباريون, وأدخلوا فيها المتخيل في الواقع إدخالاً جعل من "الحقيقة التاريخية" حقيقة صعبة, وجعل الشك أساساً للمؤرخ, إلا أنه كان لابد دا ئماً "من التصدي للتاريخ" كما يقول قسطنطين زريق. والتباس السمة الأساسية للكتاب, هي التي تجعل من الكلام على الشعر استطراداً للكلام على التاريخ, والعكس بالعكس. فعلى أي الجانبين يميل هذا الكتاب?

ذلك يقودنا إلى الكلام على الحيل الشعرية "أو التقنيات" التي استخدمها أدونيس. ابتداء من التسمية وهي "الكتاب" نلمح خطوط المشروع الأدونيسي. "فالكتاب" بهذا التعريف, والإطلاق, أطلق في الماضي على كتاب سيبويه في النحو. سمي بداية كتاب سيبويه, ثم عمت الصيغة واختصت بمؤلف سيبويه دون سواه, فسمي كتابه بالكتب بالإطلاق, نظراً لشموله وقيمته. والكتاب أصلا هو إحدى تسميات القرآن. ورد ذلك في أكثر من آية. فثمة على سبيل المثال "آيات هن أم الكتاب". إلا أنها لفظة أطلقت من خلال النص القرآني أيضاً على نصوص أخرى دينية مقدسة "يا يحيى خذ الكتاب بقوة", وهكذا يختلط الشامل الأساسي بالمقدس في هذه التسمية. ولعل أدونيس يرمي إلى شيء من هذا القبيل في اختيار التسمية.

طموح للشمولية

أما الإشارة التي تلي العنوان إلى "أمس, المكان, الآن", فإشارة ترمي إلى سلك الأزمنة والأمكنة في سلك واحد, كان ويكون وهنا وهناك وكل مكان, وهو جزء من طموح الشمولية لدى الشاعر. يلي ذلك وصف الكتاب بأنه "مخطوطة تنسب إلى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس", وهي حيلة من حيل النص, وثورية عن رغبة الشاعر بالتماهي بالمتنبي. وقد لانجد المتنبي في فصول الكتاب ومعارجه والتواءاته إلا كفارس قلق وهوائي, أو كبيرق يلوح ويخبو في مسافات متطاولة من تفاصيل وتواريخ وتأويلات ومسارد ومنظومات يكتبها أو ينقلها أدونيس, ولانحسب أن للمتنبي فيها دوراً. فما دخل المتنبي, على سبيل المثال, ككائن شعري وتاريخي معاً, بعشرات النصوص التي يؤلفها أدونيس تشبها أو تمثلاً بنصوص تراثية قديمة, كانت أشبه بالأسمار منها بالروايات التاريخية, وتتعلق بتفسير بداية الخلق وصورته والملائكة والشياطين وطرد آدم من الجنة, وما أشبه ذلك من أخبار دخلت فيما سمي "بالإسرائيليات" وعيب على ابن اسحاق في سيرته الإكثار من ذكرها من دون تمحيص, وقد نسبت لكعب الأحبار وأمثاله ممن اتكأوا على الكتب القديمة لتفسير هذا الجانب من النص القرآني, فلعبت المخيلة دورها في التفسير والتأويل والابتكار, واختلطت الخرافة والأسطورة بالنص الديني اختلاطاً تنبه له المحققون القدامى والمحدثون للتاريخ الإسلامي على السواء, وحذروا منه?

توثيق الخرافة

يقوم أدونيس توثيق خاص بالخرافة, ولانجد له دائما مايشبهه في توثيق الروايات التاريخية, إلا فيما ندر "مثل رواية ابن الأثير عن الخلق". فأدونيس يذكر عادة لدى محاولة التوثيق عبارة "في الرواية", أو "في المأثور", وينقض نصاً بنص يماثله, في المناورة الكتابية. ذلك يشبه ما كان يلجأ إليه أبو العلاء المعري في الرد على خصومه, مستنداً بدوره إلى منهج الحسن الصباح فيما يسمى "الكسر والإلزام على الخصم", كما يرى الشيخ عبدالله العلايلي في كتابه "المعري ذلك المجهول" ومفاده أن الرد على الخصم يكون إما بالتماس أدلة جديدة تكسر أدلة الخصم, أو بالعودة عليه بإلزامه بأدلته هو: أرد منك عليك, وذلك ما يسمى في البحث والمناظرة بالتنزل والتسليم: "قلتم لنا خالق قديم قلنا صدقتم كذا نقول". إنه جدلية الشيء في صميم الشيء, فيكشف عن فساد الرأي من داخله بأدواته عينها. وقد استخدم السفسطائيون مثل هذه الطريقة. واستخدمها أدونيس, بما لايبتعد كثيراً عن السفسطائىة في أجزاء الكتاب المعنونة بالرواية, وينسبها إلى شخص أو رواية يسميه "أبجد", وهو عينه أدونيس, لأنه يتقمصه تقمصاً تاماً, وإليه هو أقرب منه إلى المتنبي, ويسوق على لسانه تأملاته في مدن مبثوثة على حروف الأبجدية بكاملها, من الألف إلى الياء. فهناك المدينة ألف والمدينة باء, والمدينة تاء والمدينة ثاء والمدينة جيم.. وهلمجراً, وصولاً إلى المدينة ياء. وتوزيع أحوال هذه المدن وأوصافها على الأبجدية, كما انتحاله اسم أبجد بالذات, هو البنية اللغوية لرؤيته الفكرية والشعريةمعاً. فهو يكتب "ليس تاريخ آبائنا غير ألفاظنا". فعمارات التاريخ وعاهاته, أزهاره وسمومه, ملائكته وشياطينه وخرافاته وفراسيده. وكل شيء فيه ينحل إلى بنية اللغة. وهذا ما يرى إليه الألسني "لاكان", الذي يرى أنه حتى اللاوعي الشعبي والتاريخي ينطوي على بنية مطابقة لبنية اللاوعي اللغوي. وفصول المدن في "الكتاب" فصول متشابهة, تتداخل فيها المخيلة بالواقع, ويندرج الماضي بالحاضر. ويكتب أدونيس "تاريخ" و"ميتاتاريخ" المدن في آن. نرى ذلك واضحاً في كتابته عن حلب وقلعتها, ومكة وبيتها العتيق, ففي أصل كل مدينة تاريخية ميتولوجيا لازمة لها. من روما وأثين ا وصولاً إلى صيدا وصور وقرطاجة, فحلب فمكة. وحين يتكلم أدونيس على مدن "رمزية" تحسبه يتكلم على مدن معاصرة في الوقت نفسه. إن حلب, كما يصفها, قلعة توالى على هدمها وإعمارها حكام كثر, ورقونس وكتابات, ومخيلة. كذلك مكة, هي جزء من تاريخ مستل من مظانه, وجزء مما هو فوق التاريخ مستل من مظانه, ورمز خيال يضيفهما الشاعر إليها.

وصور مدن الرمز الأبجدية صور كابوسية, وكأنها جميعها مدن الجحيم بلا استثناء, هي مدن موبوءة بوجودها بلا بارقة أمل. فالمدينة ألف مدينة الرعب والموت, والمدينة باء مدينة المحو والتناهش حيث الأبناء يقتلون الآباء ويُقتلون, والمدينة جيم هي مدينة القتل, والمدنية دال مدينة فاسدة وليس فيها سوى كلاب وأرامل, والمدينة هاء تختزن تاريخ الموت والمدينة واو تستحق أن تقول لها: بلادي أكرهك, وفي المدينة واو الحرية مرض, تحلم بالخلاص منه, وفي المدينة زاي دم محض, وسائر مدن الأبجدية التي يتأمل فيها "أبجد" هي هكذا: مدن يأس وانحناء وقتل ومكر, مدن عكرة, لاتنتج سوى الموت والرءوس المنصولة عن أجسادها والعذاب دون جدوى والسجون. هي المدن الممسوخة باختصار, وعبثا تند بارقة أمل في أية مدينة من مدن الأبجدية. وهي رؤية كابوسية بل جحيمية لمدن عربية عبر عنها أدونيس بهذه الصيغة, ولم تعوزه شواهد من تاريخ القتل والتمزيق والتشويه والتعذيب, والرءوس المقطوعة المحمولة من مكان لآخر, في تاريخ السلطة السياسية العربية.

تاريخ الدم/تاريخ الحرية

يحتفل أدونيس حقاً بعدد من الأسلاف من شعراء وكتاب ورجال تاريخيين, إلا أنه يفصل بين تاريخ الكتابة والشعر "بخاصة" وتاريخ السياسة, والأمر ليس كذلك بالمطلق, كما أنه يعتبر تاريخ السياسة هو تاريخ الدم والرءوس, حسب, وليس هذا الأمر بصحيح في المطلق "كل تاريخ في التاريخ وفي العالم هو هكذا", ويعتبر أيضاً أن تاريخ الكتابة هو تاريخ التفتح والحرية والإبداع, وهو افتراض قابل للنقاش بدوره. لقد أخذ أدونيس التاريخ تفاريق, ولم يأخذه كتلة.

ومثلما فعل في الجزء الأول من الكتاب, تراه يفعل في الجزء الثاني منه. فيورد عشرات بل مئات الأسماء من رجال ونساء, شعراء وسياسيين ومفكرين وثواراً وأصحاب مذاهب وشيع وزنادقة وزنجاً وسواهم. ينثرهم على حوليات الكتاب من عام 161هـ حتى عام 350هـ. وهو يثبت سنة الحولية في أعلى الصفحة "على غرار كتب التاريخ المعتمدة لهذه الطريقة" وينسج تحت ظلها مروياته وأشعاره. والمتنبي يأتي في رأس هذه الاسماء, كذلك سيف الدولة, وأخته خولة, إلا أننا نلتقي بأسماء كثيرة عايشت المتنبي/ سيف الدولة, أو عاشت في الصحن التاريخي الواقع بين العامين المذكورين. وهي ترد تحت عنوان "هوامش" على الأغلب. من بينها نذكر رابعة العدوية وأبا ولامةوبهلولاً المجنون وسيبويه وأبا نؤاس وجابر بن حيان والإمام الشافعي وهشاماً الكلبي والفراء النحوي وأحمد بن صدقة وبشر بن المعتمر وعلية بنت المهدي ودنانير المغنية وأبا العتاهية والمتوكل وابن السكيت والحسين بن الضحاك وأبا الحسن البكري القصصي الكذاب الدجال والجاحظ والبخاري والبسطامي وحنين بن إسحاق والمزني وسهل التستري وابن الراوندي الملحد والبحتري والسرخسي وإسحاق الأحمر وابن القط أحمد بن معاوية وثابت بن قرة وأبا علي نطاحة وابن وحشية وسمنون والجنابي والنسائي والجنيد والرازي وابن العلاف وابن مسرة, وسواهم. وتحت عنوان "دفتر لملائكة الحبر" يذكر أسماء من داروا في فلك المتنبي من شعراء ونحويين ولغويين, مريدين أو أعداء, مثل كشاجم وعلي بن دينار وابن نباته وابن خالويه وأبي فراس وابن جني والفارابي, وهي أمثلة عن أسماء وردت مع سواها وتتوزع بين الشعر والسياسة والعقائد الفكرية والدينية. ولكل من هذه الأسماء حاشية يوردها أدونيس ومقطع من الشعر. وليس بالضرورة أن ينحاز الشاعر لهذه الأسماء جميعاً, فهو يمر ببعضها مروراً محايداً. فهو, على سبيل المثال, يورد الحاشية والمتن المتعلقين بابن الراوندي الذي قتل صلباً سنة 298هـ متهماً بالإلحاد, بحياد. أي هو لايعلق, شعرياً, على ذلك. ومثله الكثير, إلا أنه يتدخل ويبدي رأياً تجاه أسماء أخرى, مثلما يفعل مع الزنادقة ومقتلتهم الكبيرة في حلب سنة 163 للهجرة على يد الخليفة المهدي "قصاب الزنادقة", الذي جاء إلى حلب وأمر بجمعهم فيها وفي نواحيها "حيث جمعوا وقتلوا وقطعت كتبه م بالسكاكين", على رواية ابن الأثير. فهو يعددهم واحداً واحداً ويذكر من أسلافهم الجعد بن درهم ومعبداً الجهني وغيلان الدمشقي وعبد الصمد بن عبد الأعلى. ويثبت في الهوامش وفي المتن مايقرب من خمسين اسماً من أسمائهم, وكأنما يريد أن يثبت في مقبرة واحدة, شاهدة بأسماء هؤلاء القتلى, ضحايا أفكارهم, ويورد أحوال المانوية وأسماء بعض رءوسها كيزدان.. بخت ومن سموا أنفسهم "إخوان الصدق", وقد سماهم الخليفة المهدي "أصحاب الأهواء", وهم الفرق التي كانت تعد في نظر الخلافة ونظامها منحرفة عن الدين وأدرجت في باب الإلحاد والزندقة والشعوبية, يرثي أدونيس جميع هؤلاء بخمسة أسطر في هامش الصفحة 27 مظهراً ميله إليهم "أهي المانوية?" أشعوبية?العناصر تسخر من ظلمة العقول وتحزن للأبجدية"

ويكتب نصاً شعرياً عن أبي الحسن البكري المتوفى سنة 250هـ, الذي قال فيه المؤرخ الذهبي "واضع القصص التي لم تكن قط" ونعته بالكذاب والدجال, وقد ترك الروايات التالية: ضياء الأنوار, رأس الغول, شر الدهر, حصن الدولاب, كلندجة, الحصون السبعة وصاحبها, هضام بن الجحاف وحروب الإمام علي معه... يختصر أدونيس رأيه في البكري بقوله: "كان بحراً من الحبر/ أمعن في الفيض واسترسلا/ربما كان قصاصنا الأولا"... فهو إذن في هذا التاريخ, ينحاز للهوامش والحواشي والمقتولين والمحروقين ومن سموا بالزنادقة والملاحدة والشعوبيين, مهما كانت أفكارهم وكيفما كانت, وفي أي ظرف تاريخي كانوا فيه.

وبطبيعة الأمور, فإن هذه الأسماء والحواشي, لادخل للمتنبي فيها بصورة مباشرة, وإنما يوردها أدونيس كجزء من صورة محاكماته الشعرية للسلطة السياسية العربية السائدة, وللعقل التاريخي الديني السائد, إلا أن صوت المتنبي يتجاوب في أرجاء الكتاب, ويصاحبه عند المفترقات وفي رءوس الفصول والأبواب, من خلال أسطر أو أشطر من شعره, ومن خلال إعادة نظم لحوادث مروية عن حياته وعلاقته بسيف الدولة, وقلقه, وتغربه في الأقاليم, وحبه المزعوم لخولة أخت سيف الدولة, وماشاب هذه الحياة القلقة العاصفة من اضطراب وانتصار وخيبة وحسد, ما جعل المتنبي شاعر القوة والحكمة على الدهر. وأهميته في رأينا أنه رفع راية الشعر في عصور كثيرة, كسلطة عظيمة قائمة بذاتها, وتناظير سلطات أخرى تاريخية كبيرة كالسلطة السياسية ولاتضع نفسها في خدمتهما. فالمتنبي هو ملك الشعر المتوج على كل العصور.

ويرسم خط سير هذا السهم الذاهب العائد بين السلطة السياسية المحاربة والمتحضرة أو المثقفة معاً المتمثلة بسيف الدولة, حيث كان أميراً محارباً, وكان بلاطه في الوقت عينه ممتلئا بالشعراء واللغويين والفلاسفة والعلماء, وبين المتنبي كأمير للشعر محارب ومنتصر أيضاً, فيقيم بينهما مايشبه التماهي أو تبادل الأدوار, فيكتب بلسان سيف الدولة: "تراها بيعتي أم بيعة المتنبي?", ويرسم قلق سيف الدولة وأحواله كفارس بمنزلة شاعر, بل ميله إلى أن يكون مكان المتنبي ويكون المتنبي مكانه "هل يصدق أني أحن إلى أن يكون أميراً/ وأكون إلى جنبه شاعراً?"

ومثلما المتنبي متنبي نفسه, أو شمس نفسه, كذلك يظهر أدونيس كأنه متنبي نفسه... "يثنوّر أيامه/ كل شيء ضياء له ودليل/ وجهه شمسه وتباريحه أفق باذخ يتصاعد فيه", ويظهر أيضا وهو يتماهى بالمتنبي ويخط خطه "فصرت أقرأ أيامي بحكمته/منوراً أتماهى باسمه وبه/ حتى كأني من غنى ومن لعبا"... ويشطح أدونيس كثيراً في أقاليم الليل والنهار والعناصر والتكوين, والمدن, وتتناثر على الصفحات شواظ الكلمات, ذاهبا للمتنبي وعائدا منه على صورة عاصفة من قلق تتدحرج في الزمان والمكان, وفي ذلك تضمين لقول المتنبي المشهور "على قلق كأن الريح تحتي"... فيقول: "هو, من ياء هذا الزمان إلى الألف الأول/ قلق ذاهب, يتأمل في قلق مقبل". ويسير على خطاه "خارج القلعة "قلعة حلب", في المدينة القديمة, يسير على تراب سبقته إليه خطوات المتنبي. ربما تعانق أثر خطواتهما وغبارها".

 

محمد علي شمس الدين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات