زمن الوجع

زمن الوجع

مبتهجة كل صباح أذهب إليه محملة ببعض الشوكولاتة التي يحبها.. أخلف بذلك أوامر أبي وتحذيرات أمي، وقبل أن يشعر الجميع بغيابي كنت أقبله قبلة الصباح وأطعمه بعض الشوكولاتة وأعدل من وضع عصاه على سريره، ثم أعود مسرعة ملوحة بيدي، ملتفتة صوبه، يبتسم لي بكل الحب، تتحرك إحدى يديه نحوي، بينما الأخرى ترتاح قربه بلا حراك.

كان جدي العجوز يناديني: مريم... هيا... موضي... سارة... وأخيرا ينطق باسمي... كنت أشعر بمتعة وترتسم على وجهي ابتسامة طفولية تائهة حائرة.

في المدة الأخيرة... صرت عندما أصل إلى مدرستي أجلس شبه غائبة عما حولي.. شاردة... استرجع تلك العبارات الدخيلة التي أخذت تتردد بكثرة في بيتنا... والتي كان يسمعها مع كل صغار العائلة، أمي تقول: "لاتذهبوا إلى جدكم لوحدكم أيها الصغار".

عمتي تقول: "إنه يضرب الصغار".

عمي يقول: "أبي قد كبر وخرف.. إنه لايسمع"

تقول زوجة عمي: "إنه لايعي مايفعل"

أبي يقول: "كلموه من بعيد.. لاتقتربوا من عصاه"

زوج عمتي يقول: "نسي كل شيء.. حتى أسماء الصغار".

لا أدري لماذا؟ على صغر سني كنت أكره سماع تلك العبارات التي تتجدد يوميا وكأنها تنمو في داخلي كنبات شيطاني يطوق عنقي.

لم أكن أشبه باقي صغار العائلة ولاحتى أخوتي، سمعت مدرستي يوما تهمس لأمي: "هذه الصغيرة الجميلة نورة، طفلة رائعة، ماشاء الله ذكية وتملك عقلا أكبر من أعوامها الثمانية"، كنت أتناسى عبارات العائلة وأتسلل دائما إلى غرفته، أسرق بعض الوقت من زمن اللهو واللعب، أقضيه معه، أنشد له بعض الأناشيد المدرسية، أسليه بقص بعض الحكايات وأخبره عن يومي المدرسي، كان جدي يستمع إليّ بلهفة ويبتسم ابتسامة باهتة متعبة ولكنها تشعرني بأنها تلغي بعض أحزانه وتنعش صمت طويل سكن أحاسيسه، كنت صغيرة على أن أفهم وأعي ولكنني ذكية لأشعر بالحب والحنان يفوران دفقا من خلف سنينه الثمانين، السبعين، التسعين، لا أدري.. تلك السنين التي التفت حوله وانتشرت فوقه بكل جرأة.

قبل أن ينتقل جدي العجوز إلى هذه الغرفة الخارجية، كانت تتردد ولأكثر من أسبوع عبارات جديدة أخرى تقول أمي: "يجب أن ينتقل أبوك إلى الغرفة الخارجية" يقاطعها أبي: "لكنها ملتصقة بغرفة المعيشة والمطبخ الخارجي"

ـ: "وماذا في ذلك?"

ـ: "... صراخ الأطفال وحركة الخدم يقلقانه"

ـ: "بل هو الذي يصرخ طول الليل.. لم أعد أطيق صياحه"

أطفالي يفزعون كل ليلة من نومهم

ـ: "... سأفكر في حل آخر..."

ـ: "فكرت العائلة كثيرا.. هذا أنسب الحلول...صدقني".

ـ: "... غدا سأنقله إلى تلك الغرفة الخارجية.."

بدأت أتسلل إلى غرفته الخارجية بخفة في وقت لايشعر أحد في غيابي، كنت أجلس قربه على فراشه أحدثه، كان بالكاد يمد جسده نحوي ويلف إحدى يديه حولي متمتما ببعض العبارات التي لم أفهمها ثم يقبلني بشفاه مرتجفة حنونة، كنت أثرثر كثيرا دون أن أعطيه فرصة للحديث، كانت متعتي أن أتكلم وأرى ابتسامته مرسومة على وجهه، لكنني أيضا كنت أسأل كثيرا أسئلة ليس لها معنى، وكنت ألحظ إجابات صامتة ترتجف على شفتيه المزمومتين المتيبستين، سألته يوما: "جدي، لقد حكت لنا المدرسة اليوم حكاية النبي موسى وعصاه السحرية... وأكملت ببساطة وعفوية: جدي.. أتمنى أن تكون عصاك هذه كعصا موسى? وتذهب معي إلى البحر.. و..."

ضحك جدي ولأول مرج ضحكة غريبة بصوت عال حتى انتابته نوبة سعال حاد، لم يهدأ حتى سقيته كوب ماء، ثم أجاب بصوت خافت شبه متقطع: "نورة ابنتي.. بحار اليوم قاسية، لن تشقها لاهذه العصا ولاحتى عصا موسى" وكان يلوح بعصاه، يتنهد ويضحك ويبتسم في آن معا.

صحوت ليلا على بكاء أخي الصغير... وصراخ أختي... النعاس مازال يدغدغ عيني الصغيرتين... عدت للنوم... ثم فتحت عيني على حركة غير عادية وأصوات متداخلة عالية تصلني من الطابق الأرضي... ونصف نائمة جائتني بعض العبارات خارج غرفتي.

ـ رأيت بعينك كيف فزع الصغار!

ـ حتى جارنا أبوفهد كان صوته يرتجف وهو يكلمني بالتلفون..

ـ عمي.. الحمد لله لقد أخرجت يده من بين كسر الزجاج المحطمة.

ـ هياجه وصياحه أفزع كل الجيران... حتى العجوز أم عبدالله كانت ترتعش وهي تحدثني من النافذة..

ـ ضربات عصاه هزت كل البيت.

ـ عمتي... لقد بدأ بأدوات المطبخ... كسرها... ثم...

ـ الحمد لله أن باب الصالة كان قويا وإلا...

ـ عمي... كنت غارقا في النوم فقد أتعبني البارحة قبل أن ينام...

استيقظت هذا الصباح... شيء ما في داخلي يؤلمني... وعندما ذهبت إلى مدرستي كان داخلي يفور بتساؤلات تبعدني عن اللعب واللهو... كنت مهمومة أستعيد تلك الكلمات... فتخبو ابتسامتي ويتملكني الضجر وأشعر بالحيرة... ـ: "كثرت علله وأمراضه"

ـ: "لقد أتعبني أبي إنه عنيد..."

ـ: "وأتعب الجميع معه..."

ـ: "حالته لاتحتمل"

ـ: "الحل الوحيد... كما أخبرتكم قبل أسبوع..."

ـ: "أتذكر ما قلته... بيت العجزة والمسنين..."

ـ: "وكلام الناس ياجماعة..."

ـ: "إنه ليس عيبا ولا عارا..."

ـ: "...إنه لايحس بنا ولايعرف أبناءنا.."

وأنا أقول: "يبدو أنه يفقد الإحساس بالآخرين دوني... أحبك ياجدي".

بعد أن عدت ظهرا إلى البيت يصحبني أخوتي وأبناء عمومتي... ذهبنا كعادتنا إلى غرفة المعيشة الخارجية الكبيرة التي تجمعنا جميعا أغلب الآيام... الجوع يقرض معدتي بدأت أتلهى باللعب كي أسكت الجوع.

فجأة! التفت حولي فرأيت قامات وهامات الكبار وقد تحلقت حول مائدة الطعام التي مازالت صحونها تمتلئ بالهواء... حولت وجهي عنهم وعدت للهو واللعب مع الصغار الآخرين الذين علت ضحكاتهم وأصواتهم حتى طغت على همسات الكبار... ما الذي يحدث?

عمي وعمتي، أمي وأبي، زوج عمتي وزوجة عمي..و...و...

إحساس جديد يمزقني من الداخل كلما رأيت دخان سجائرهم يزداد كثافة في فضاء الغرفة الكبيرة ويتشكل بأشكال تراءت لي لحظتها أشكالا وحشية بأحجام خرافية أفزعتني.. فأشحت النظر عنها وحولت نظري إلى الأجساد الآدمية التي تتحرك مائلة على بعضها هامسة كلمات غير مفهومة أو مسموعة، حدقت في عيونهم... أحسست ببريق زجاجي غريب ينعكس على وجوههم.

مدرستي تقول: "نورة ذكية تفكر كالكبار... تتصرف كالبالغين..."

اقتربت بخبث من المائدة... أصغيت بلهفة لتصلني باردة متقطعة تلك الكلمات... المهمة...

ـ: "...أصبح عبئا حتى على الخادم..."

ـ: "شقتي صغيرة لاتكاد تسعني وصغاري..."

ـ: "...ميزانيتي لاتسمح برعايته والعناية به..."

ـ: "... أطفالي يخافون منه ويفزعون من عصاه التي لاتفارق يمناه..."

ـ: "رددت كثيرا عليكم... الحل الوحيد... بيت العجزة والمسنين..."

وعقلي الصغير يقول: "في نظراتهم ثمة شيء ما"؟

بعد لحظات... خرج بعضهم... وظل الآخرون يتهامسون... وظللت أنا أسمع. عاد الجميع... تحلقوا حول المائدة... ومشيرا صوب الباب الموارب الذي يفصل غرفة جدي عن هذه الغرفة، وبصوت خافت.. قال أبي: "آخر الأخبار... سيأتون يوم الثلاثاء"

ـ: "ارتحت الآن"

ـ: "سألملم بعض أشيائه"

ـ: "عندكم يومان من الآن لتجهيز وتحضير مايحتاجه"

وأسائل نفسي: "أين يذهب جدي بعد يومين... هل سيترك سريره هنا?

ابتعدت عنهم، كان باب غرفة جدي مواربا، اقتربت منه، دفعته بخفة، ازدادت فتحته اتساعا، أطللت برأسي الصغير، تلاقت نظراتنا، رأيت في عينيه نهرا مجهولا تسبح به نظراتي الطفولية، نسيت المتحلقين فدلفت إلى الداخل بإرادة وجرأة غريبة، جلست قربه، احتضنه بقوة، قال جدي بوضوح لأول مرة "نورة ابنتي.. نورة ابنتي" وقد أحسست بشفتيه ترتعشان، كانت عيناه غارقتين في دمع صامت وفي نظراته ثمة خوف مرتعش، بالكاد حرك يده المرتجفة بشيء نحوي، انتبهت، التقطتها بخفة من بين أصابعه المرتعشة، تمعنت بها، صورة عتيقة مهترئة الجوانب، إنها صورة جدتي في صباها، ما إن أمسكتها ونظرت إليه حتى انهمرت دموعه بغزارة.

داخلي يقول: "هل سمع جدي ما قاله أبي?"

ولكني سمعتهم يقولون: "جدكم لايسمع"

ـ: "أبي لايعي مايدور حوله"

ـ: "خرف أبي"

ـ: "لايفرق بين أسماء الصغار"

ـ: "لايميز أشكال الصغار"

ـ: "... أحبك ياجدي"

احتضنت جدي بقوة، بللتني دموعه الحارة، رعدة غريبة هزت جسده الضعيف النحيل، ارتعاشة جديدة دخلت جسدي، داخلني الخوف، ارتعدت مفاصلي، نظرت إلى وجهه، فجأة! ... شهق شهقة متقطعة... بلمحة البصر تسللت عصاه الهرمة من بين أصابعه... ارتطمت بأرض الغرفة... تدحرجت بعيدا... ارتخى رأسه على صدره.

للحظات ظللت واجمة أمامه... ثم... فاضت دموعي غزيرة... فاختنقت بعبراتي وزفراتي واحتبس صوتي... أسرعت إلى عصاه... التقطتها... احتضنتها... صرخت... صرخت... صرخت...

 

منى الشافعي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات