إيقاع لاهث من التغيير جابر عصفور

إيقاع لاهث من التغيير

سرعة إيقاع تحولات النقد الأدبي الحديث ظاهرة يلحظها كل مشتغل بهذا النقد وكل قارىء له على السواء. وآية ذلك ما نراه أمام أعيننا من تغيرات متسارعة تقع في الحقبة الواحدة، أو الجيل الواحد، أو حتى في العقد الواحد، فتتباعد المسافة بين البداية والنهاية القريبة بما يشبه الانقلاب من النقيض إلى النقيض. أذكر على سبيل المثال خطاب الواقعية في الخمسينات، حين كان من الشائع والمألوف والمعتاد الحديث عن "الأدب الهادف" و"الأدب القائد" و"تصوير" الواقع و"تمثيل" الحياة والعلاقات الاجتماعية، والالتزام الذي كان نوعا من الإلزام، والأدب التقدمي مقابل الأدب الرجعي، والرومانسية الثورية مقابل الرومانسية الانهزامية. من يجرؤ على استخدام هذه المصطلحات - المفاهيم في الزمن الذي نعيش فيه بعد التحولات التي مر بها النقد الأدبي، وألقت بهذه المصطلحات - المفاهيم إلى زوايا النسيان. وجعلتها أثرا بعد عين، لا يذكرها إلا مؤرخ النقد الذي يتحدث عن البدايات الساذجة للواقعية في صيغتها الاشتراكية القديمة، قبل أن تتحول إلى "واقعية بلا ضفاف" أو "واقعية سحرية" أو نظرية للانعكاس" أو "الموازاة الرمزية" أو "بنيوية توليدية" أو غير ذلك من مصطلحات متحولة، هي، بدورها تاريخ متسارع من التغيرات التي لا تهدأ ولا تعرف الاستقرار. وإذا كنا نبتسم، اليوم، ساخرين، مشفقين، هازئين، بمن يتحدث عن الأدب التقدمي مقابل الأدب الرجعي، فإننا بالمنطق نفسه ننظر إلى كل من يتحدث عن استخراج صورة الأديب من أدبه على أنه يتحدث لغة ما قبل التاريخ، شأنه في ذلك شأن من يصف الشعر بأنه وجدان، وثيقة نفسية أشبه بالمرآة التي تكشف عن شعور صاحبها. ولا يختلف حالنا إزاء متحدثنا إذا ترك مثل هذه المصطلحات - المفاهيم التي كانت شائعة إلى عهد قريب (ولا يزال بعض مدرسي الأدب يلوكونها في عصر هجرها بالكلية) وانتفل منها إلى ما جاء بعدها، فتحدث بما يشبه الرطان الأجد عن المعادل الموضوعي، والعمل الأدبي الذي يوجد ولا يعني. وحال وجود العمل الأدبي المكتفي بنفسه، والقائم بذاته، ودراسة النص الأدبي التي لا ينبغي أن تغادره إلى خارجه. والبلاغة التي هي خلق معادل للشعور الذي نرغب في التعبير عنه، وموضوعية الأدب التي تعني أنه عالم له كيانه المستقل كل الاستقلال عن صاحبه وقارئه. والقصيدة التي لا يمكن أن تكون إلا صورة لنفسها فقط، بمعنى أنها لا يمكن أن تزودنا بشيء خارج نطاقها، فالإحساس الذي تخلقه لا علاقة له بالإحساسات التي تزودنا بها الحياة، كما أنه لا علاقة له بأي شيء خارجها.

من أزاح ميراث النقد الجديد؟

قد تكون موقفنا من المتحدث بهذا النوع من المصطلحات - المفاهيم أقل وطأة من موقفنا الهازىء بالمتحدث السابق عليه، ولكن الحال الذي يجمع بين الاثنين واحد في الكيف وإن اختلف في الكم. فالمصطلحات السابقة عن "النقد الجديد" التي بشر بها أساتذة كبار، واستماتوا في إقناع الجمهور المثقف بها، وعلى رأسهم رشاد رشدي رحمه الله، كلها مصطلحات هجرتها الممارسات النقدية المعاصرة، خصوصا بعد أن أصبحت درئية لهجوم البنيوية اللغوية، والبنيوية التوليدية، ونظريات الخطاب، والسموطيقا، الهرمنيوطيقا، ونقد الحداثة، وما بعد الحداثة، ونقد ما بعد الكولونيالية، وقائمة طويلة من أسماء المذاهب والتيارات التي تلاحقت، متدافعة كالريح العاصفة التي أزاحت ميراث النقد الجديد، ومحت أثره من فوق رمال الزمن القريب.

ولكن ماذا عن أسماء المدارس الجديدة التي ذكرتها. خذ مثلا البنيوية اللغوية التي شغلت الدنيا والناس، والبنيوية التوليدية التي بادلتها العداء والجدال والاتهام. أين هما الآن؟ أعلنت الأولى موتها في موطنها الأصلي - فرنسا - مع ثورة الطلاب الفرنسية عام 1968، وتوارت الثانية إلى الظل بعد وفاة فارسها الأول لوسيان جولدمان عام 1970. بالطبع، ظلت كلتاهما حية بقوة الدفع السابق في الأقطار المتخلفة، مثل أقطارنا العربية، وقاومت التًّحات، ولكنها سرعان ما هجرت صدارة المشهد الثقافي حتى في مثل هذه الأقطار، وأجبرت على التقهقر إلى مؤخرة المشهد، لتفسَح السبيل إلى ما جاء بعدها من مدارس ومذاهب واتجاهات تبدو أكثر وعدا.

أذكر عراكنا مع الأجيال السابقة علينا في الجامعات العربية والمنتديات الثقافية القومية حول البنيوية اللغوية والبنيوية التوليدية. وأذكر اللهفة التي كنا نتلقى بها كتب هذين المذهبين وأذكر دفاعنا الحار عن هذه النظرية أو تلك ضد ممثلي "النقد الجديد" و"نظرية التعبير" و"نظرية الانعكاس" وأذكر اتهام أساتذتنا لنا بأننا نتهوس بمتابعة الغرب الذ لم يكفوا هم قبلنا عن متابعة في زمانهم. انتهى ذلك كله، وبدأنا ندخل في عراك جديد مختلف، ونعاني لهفة مغايرة، ونقوم، بدفاع مباين، ونتلقى الاتهامات نفسها، لكن هذه المره ضمن مناخ نلهث كي نلحق بإيقاعه الذي يتزايد سرعة يوما بعد يوم. هذا المناخ سياق كامل من التحولات المتسارعة في مفاهيم النقد وتطبيقاته، سياق اقترن بالانصراف عن الممارسة النقدية التي انغلقت على نفسها في سجن النص، تأكيدا لمعنى من معاني "النقد التطبيقي" الذي دعا إليه الناقد البريطاني الشهير أيفور أرمسترونج ريتشاردز (1893 - 1979)- 1979 م ) صاحب كتاب "النقد التطبيقي" الذي أصبح علامة على تيار بأكمله منذ أن صدر عام 1924 م. وكان التحول عن المعنى الضيق للنقد التطبيقي موازيا للانقطاع عن تقاليد "النقد الجديد" في الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التقاليد التي عزلت النص في نوع من التعطيل الذي نفى عن النص دلالاته الاجتماعية وشروطه التاريخية.

لقد أصبح النص شبكة هائلة من الاقتباسات التي ذاب فيها الوجود التقليدي للمؤلف، الكائن الملهم الذي أعلن رولان بارت موته، واستبدل بحضوره القديم الحضور المحدث للقارئ في علاقته بالنص الذي يضع القارئ نفسه ضمن نسيج لا نهائي من النصوص المتناصة. ويوازي ذلك طرح السؤال الاجتماعي من جديد على النص، وفهمه بوصفه ممارسة اجتماعية متعينة في الزمان والمكان، في موازارة طرح سؤال اللغة بوصفها موضوعا يحتل مكانة متميزة لدى الكاتب، وينقل مفهوم النص من عزلته التقليدية إلى أفق الخطاب المفتوح.

ولا ينفصل هذا الأفق المفتوح للخطاب عن المضي في استكشاف المناطق البينية التي تصل النص الأدبي بغيره من الممارسات الخطابية، تلك المناطق التي قضت على أسطورة الشعرية الخالصة، ومفاهيم اللغة المتعالية، وأسقطت الأوهام التخييلية المرتبطة بالهالة السحرية الخاصة للغة الأدب بالقياس إلى غيرها. وكما أسهم استكشاف المناطق البينية في تدمير أسطورة اللغة الأدبية المستقلة بذاتها، في حال من الحضور العلائقي المتعالي، أسهم المضي في الاستكشاف نفسه في إضاءة جوانب جديدة ظلت مهملة من العلاقات التي تصل الممارسة النقدية بغيرها من الممارسات الخطابية، فتهدمت الحواجز التي أقيمت بين ما يقع ضمن نطاق النقد وما لا يقع ضمن نطاقه، وانفتح الأفق النوعي للخطاب النقدي على غيره من آفاق الخطاب الثقافي. داخل منطقة التميز الذاتي للانقطاعات المعرفية الجديدة.

مدى براءة الخطاب النقدي

وأدى تفاعل الخطاب النقدي مع آفاق الخطاب الثقافي العام إلى انفتاحه على ما كان لا يدركه إلا حدسا، فيما يتصل بعلاقات إنتاج القوة وأدوات توزيع السلطة في المجتمع، تلك التي تنعكس عليه بالقدر الذي يشير إليها. فالخطاب النقدي ممارسة اجتماعية في التحليل الأخير، ذات صلة بمعنى الحقائق الأرشيفية التي أشار إليها ميشيل فوكر، فهو نص محكوم بماضيه الصامت الذي يدفعه إلى النطق في الحاضر، وهو الحاضر في الوقت نفسه، من حيث كونه تمثيلا له في مدى تشكله وصراعاته من أجل التحدد. وبالقدر الذي يرتبط به الخطاب النقدي بعلاقات السلطة، وأدوات توزيعها في المجتمع، يغدو هو الآخر مظهرا من مظاهر هذه القوة، وأداة محتملة من أدوات توزيع السلطة. ويتجلى ذلك حين يتحول الخطاب النقدي إلى خطاب أمري، ناه، تسلطي، في علاقته بأفراد المتلقين الذين يتوجه إليهم برسائل تحمل معاني بعينها.

ويعني ذلك أن الخطاب النقدي لم يعد خطابا بريئا، ولم يعد هناك مجال للحديث عن الحياد الكامل والموضوعية المطلقة، فالخطاب النقدي خطاب غير بريء، يبين عن تحيزات فاعل الخطاب ورؤى العالم الخاصة به، في الوقت الذي يبين عن موضوع الخطاب، لكن من منظور فاعل الخطاب الذي يتحول، بدوره، إلى وسيط اجتماعي، هو تمثيل لعلاقات القوة والسلطة في المجتمع بمعنى أو بآخر وهذا لا يختلف كثيرا عن قولنا إن فاعل الخطاب هو إلى حد ما، وببعض الاحتراز، جزء من الخطاب، ما ظل عنصرا حاسما في تشكيل دلالته التي تنطقه بالقدر الذي ينطق هو موضوع خطابه. ورولان بارت (1915 م - 1980 م) هو صاحب العبارات الشهيرة التي نفت البراءة عن الخطاب النقدي، مبرزة الطابع التأويلي للخطاب النقدي الذي هو تشكيل لمعنى النص في بنية تفسيرية موازية، تتوسط ما بين النص والقارئ، فتنطق عالم القارئ والمقروء والمقروء عليه في آن.

ولا يعني ذلك عودة الانطباعية أو التأثرية بمعناها الرومانسي القديم، ذلك المعنى الذي نجده واضحا كل الوضوح في كتابات طه حسين عن المتنبي وأبي العلاء المعري وبشار وغيرهم من الشعراء القدماء، وفي كتابات الذين يقلدون تأثرية طه حسين، وإنما يعني نفور الخطاب النقدي المعاصر من ادعاء الحياد الزائف، واقترابه من معنى جديد للموضوعية، الموضوعية التي تعني نوعا من الذاتية المشتركة، أو الحضور المنهجي للنسق التأويلي الذي يجمع بين القارئ والمقروء، على نحو لا ينفي الحضور الفاعل لكل واحد من الطرفين في علاقته بالعالم الخاص به.

ويجد هذا الفهم الجديد للموضوعية ما يدعمه في انقسام الخطاب النقدي على نفسه، فيما أصبح يعرف باسم اللغة الموضوع واللغة الشارحة، وهو تمييز انتقل من الوضعية المنطقية إلى الممارسة النقدية، فساعد على التمييز بين المستويات المتعددة للنقد الأدبي، وأبرز الحضور الجديد لنقد النقد، أو ما أصبح يطلق عليه اسم النقد الشارح، وأقام نوعا من التوازن الواعد بين حضور النقد التطبيقي وحضور النقد الشارح الذي يتولى مراجعته في مستوى من مستوياته الأدنى، ويتولى صياغة النظرية في مستوى من مستوياته الأعلى، وذلك على نحو أدى إلى التسليم المتزايد بأن سؤال النظرية يفرض نفسه في كل مجال من مجالات ممارسة النقد الأدبي.

الإيقاع اللاهث جزء من إيقاع عالمنا

إلى أين يمضي ذلك؟ إلى متى يستمر؟ كل ما أستطيع قوله هو أن هذا الإيقاع اللاهث ليس مقصورا علينا وحدنا، وإنما هو جزء من إيقاع عالمنا الذي تتزايد سرعة تغيره يوما بعد يوم. وها هي التغيرات الجذرية التي رأيناها بأعيننا تفصل ما بين الأمس القريب واليوم بما يشبه المسافات بين القرون، والفواصل الزمانية والمكانية تتداعى، والكون الذي نعيشه نراه يطوى كطي السجل، بواسطة الثورة الهائلة في تكنولوجيا الاتصالات التي أحالت العالم كله إلى قرية كونية صغيرة، يشاهد بعضها بعضا في الآن نفسه. والنظريات التي كانت هيمنتها تمتد إلى أجيال وعقود أصبحت لا تستغرق عقدا واحدا من الزمان. ولنتذكر الفارق بين زمن انتشار الرومانسية مثلا وزمن انتشار البنيوية، الأولى استغرقت من العقود ما وصل أواخر القرن الثامن عشر بمنتصف القرن التاسع عشر. والثانية أعلنت باريس ميلادها الرسمي بصدور كتاب كلود ليفي شتراوس عن "المدارات الشاجية" عام 1955 م ثم أعلنت نهايتها الرسمية مع ثورة الطلاب في أحداث مايو عام 1968 م . الأولى افترشت العدد العديد من العقود والثانية لم تكمل عقدا ونصف عقد في موطنها الذي قام بتصديرها إلى العالم كله.

هذا الفارق الزمني بين امتداد البنيوية والرومانسية، من منظور استمرار كل منهما في الوجود والحضور، هو دال ينبغي التوقف عنده طويلا، وتأمله كثيرا، عندما نتحدث عن التحولات اللاهثة في المشهد النقدي، فهي تحولات ليست مقصورة علينا وإنما هي جزء من الإيقاع المتسارع للعالم كله. وإذا أخذنا الفارق بين زمن استمرار الرومانسية وزمن استمرار البنيوية بوصفه دالا يبحث عن مدلول، في عملية اكتشاف الدلالة، فإننا لا بد أن نصل متغيرات المشهد النقدي بالمشهد الثقافي العام من ناحية، وبالسياقات الأوسع للتسارع المتدافع، على مستوى صعود الأنظمة الشاملة وانهيارها، في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى مستوى العلاقات المتغيرة لعمليات إنتاج المعرفة وأدواتها، التي يتسارع إيقاع توزيعها في العالم كله، بفضل التقدم المذهل المتصاعد في تقنيات الاتصال وتكنولوجياته. وذلك كله في موازاة التقدم اللافت في تقنيات الهيمنة، والتصاعد الدال في علاقات القوة وأدوات السيطرة، في ظل تحولات كونية انتقلت بها مراكز القوة في العالم من نظام ثنائي القطبين إلى نظام أحادي القطب، ونأمل في انتقالها إلى نظام متعدد (متكافئ) الأقطاب.

في ظل المتغيرات

هذه المتغيرات الحاسمة تفرض نفسها علينا، لأننا نعيش في هذا الكون معيشة المستهلك الذي يستجيب إلى متغيرات لا يسهم في صنعها، ويستقبل تحولات ليس له دور حاسم في توجيهها. وما ينطبق على التقدم العلمي والصناعي ينطبق على الاقتصاد، وإلى حد كبير، مع بعض الاحتراز بالطبع، ينطبق على المجالات الثقافية، خصوصا إذا كانت علاقات إنتاج المعرفة في المجتمع وأدوات توزيعها لم تصل إلى الدرجة الكاملة من القوة الذاتية.

وما نراه حولنا من تضاد متصاعد بين نزعات متعادية هو مظهر لهذا الوضع الذي نجد أنفسنا فيه، في علاقتنا بواقعنا وعلاقتنا بالعالم حولنا، فالتصاعد الذي نراه في النزعة الكوكبية التي تحلم بعالم متحد يواكبه تصاعد في نزعة مضادة ، تتخذ شكل الدعاوى القومية أو الإقليمية أو حتى القطرية، فخطاب التعددية الثقافية يقابله خطاب الانغلاق على الثقافة الواحدة الجامدة، وبالقدر نفسه، فإن خطاب التسامح الذي جعلته الأمم المتحدة شعار الإنسانية في العام المنصرم يوازيه خطاب التعصب الذي نعانيه في أقطارنا العربية ونكتوي بناره. ولذلك يبدو حالنا كما لو كنا نغرق في التخلف في الوقت الذي يمعن فيه العالم الأول في التطور والتحول، ويفرض علينا إيقاعه المتسارع الذي نستجيب إليه استجابة السلب والتقليد من ناحية، واستجابة الرعب والخوف من ناحية ثانية.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات