ظاهرة أدبية فريدة: الرصاصة التي انطلقت من قلب يحيى حقي فؤاد دوارة

ظاهرة أدبية فريدة: الرصاصة التي انطلقت من قلب يحيى حقي

" لم يحدث في تاريخ الأدب العربي كله، وربما في تاريخ الأدب العالمي - في حدود علمي - أن استطاعت قصة في أقل من سبعين صفحة، أن تنتقل وحدها بمؤلفها من عالم المجهول إلى قمة الشهرة، ليصبح كاتبا معروفا، بعد ان كان نكرة لا يعرفه أحد، هذا هو ما حدث بالضبط مع رواية يحيى حقي القصيرة "قنديل أم هاشم" فقد ضمها أول كتاب نشر له في أبريل سنة 1994، مع أربع قصص قصيرة، ومجموعة من مقطوعات الشعر المنثور بعنوان "بيني وبينك"، وكلها رفيعة المستوى، وإن تفردت الرواية القصيرة التي عرف الكتاب باسمها بقوة التأثير الهائلة، التي حولت اسم كاتبها المجهول إلى علم يشار إليه بالبنان، ويحرص القراء على متابعة كل ما يكتب.

"لقد احتفى النقاد والدارسون بهذه الرواية، فكتبوا عنها كثيرا، واجتهدوا في تحليلها وتعداد مزاياها، حتى ذاعت شهرتها، بدرجة كاد يضيق بها يحيى حقي، وصرح بذلك في حوار أجريته معه سنة 1964، قال فيه: "إن اسمي لا يكاد يذكر إلا ويذكر معه "قنديل أم هاشم"، كأني لم أكتب غيرها .. "

"ما سر هذه الرواية القصيرة التي حققت لكاتبها ما لم تحققه عشرات الكتب لغيره من كبار المؤلفين؟

"شغلني البحث عن السر وأنا أعيد قراءتها للمرة السابعة أو الثامنة - لا أذكر - وبينما أنا غارق في البحث والتأمل، تذكرت أن يحيى حقي نفسه وضع في أيدينا عدة مفاتيح مهمة قد تساعدنا في الاهتداء إلى هذا السر.

"أول هذه المفاتيح يتمثل في قوله في نفس الحوار الذي أشرت إليه حالا:

"حين أحاول البحث عن سبب قوة تأثير "قنديل أم هاشم" لا أجد ما أقوله سوى أنها خرجت من قلبي مباشرة كالرصاصة، وربما لهذا السبب استقرت في قلوب القراء بنفس الطريقة .." مؤكدا بذلك عنصر الصدق في الرواية ، الصدق الواقعي، والصدق الفني، صدق العاطفة، وصدق الانفعال، وهو ما فسره في سيرته الذاتية الموجزة التي أضيفت إلى مؤلفاته الكاملة، التي بدأ إصدارها عام 1975، فقال عن سنوات الاغتراب الخمس التي قضاها في روما: "طوال تلك السنوات لم أنقطع عن التفكير في بلادي وأهلها. كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم. وحين عدت إلى مصر سنة 1939 شعرت بجميع الأحاسيس التي عبرت عنها في "قنديل أم هاشم .." لم يكن من قبيل المصادفات إذن أن يحدثنا أيضا في سيرته الذاتية عن معايشته المستمرة حتى اليوم لشخصيات حي السيدة زينب التي عرفها في طفولته من أمثال "الست ما شاالله"، بائعة الطعمية، والأسطى حسن حلاق الحي، وبائع الدقة الذي لا يبيعك إلا إذا بدأته بالسلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء، وجموع الشحاذين والدراويش الملتفين حول مقام "الست"...

"وهي نفس الشخصيات التي يصفها على صفحات الرواية وبنفس أسمائها، وهو ما يجعلنا نقطع بأنه لم يكن يؤلف رواية خيالية بقدر ما يسجل جانبا من سيرته الذاتية، وحياته الواقعية في حي السيدة زينب، فإذا اختلفت بعض تفصيلات حياته كما نعرفها عما جاء في الرواية، فأهم من ذلك الموقف العام، والمشاعر والأحاسيس التي أكد أنه عاشها جميعا.

لوثة عاطفية

المفتاح الثاني الذي وضعه يحيى حقي في أيدينا ليساعدنا على الاقتراب من فهم سر هذه الرواية العبقرية يتمثل في قوله:

"إنها قصة غريبة جدا كتبتها في حجرة صغيرة كنت أستأجرها في حي عابدين، وعشت فيها لوثة عاطفية مثيرة عبرت عنها في أناشيد "بيني وبينك" التي تجدها في نهاية كتاب "قنديل أم هاشم".."

وحين نراجع تلك الأناشيد الغزلية، نلاحظ أنها تتحدث عن تجربة عاطفية انقضت، ويكفي أن نقرأ فقرة واحدة من فقراتها الثلاث والثلاثين - بعدد حبات المسبحة - لندرك مدى تعلقه بتلك الحبيبة الهاجرة، ومدى السعادة التي ذاقها معها، ولتكن تلك التي يقول فيها: "ماذا تظنين؟ أحسبت يوم اختفائك أنني سآوي إلى عشنا فأمكث أترقب ميعادك، فإذا مضى تشاغلت بكتاب أقرأه ولا أفهم منه شيئا، ونظرت إلى الساعة مرة وتثاءبت أخرى حتى إذا ما انتبهت إلى مشاغلي التي أهملتها من أجلك، هبطت الدرج سريعا، وانطلقت إلى الدروب والمسالك، واختلطت بالناس.. أو يدور بخلدك أنني عندئذ أنسى كل شيء؟

هيهات لخيالك مهما سكر وعربد، أن يدرك ما فعلت .. لبثت انتظرك ساعة، ثم ليلة، ثم يوما ويومين، أسبوعا وأسبوعين، شهرا وشهورا .. وما زلت انتظرك وأنا أعلم أنك لن تعودي، ولكني أخشى - إذا لم أنتظرك وشاء القدر أن تعودي، أو أن ألقاك في الطريق - أخشى حينئذ أن تكون لهفتي على رؤيتك قد طواها النسيان، وأطفأ أوارها. ولست أريد إلا أن أقابلك مشبوب العاطفة، وإله القلب، ظامئ العين، فأنت - لو تعلمين - عزيزة علي، وهيهات لي أن ابتذل قدرك عندي .. فلأحتمل الألم طول الدهر خوفا من إساءتك في لحظة عابرة.. قد تأتي وقد لا تأتي ..". لعل هذه الفقرة تكفي وحدها للتعبير عن مدى السعادة التي عاشها مع تلك الحبيبة عقب عودته من أوربا عام 1939، وهو ما أسماه بعد ذلك بسنين طويلة "لوثة عاطفية" استمرت عاما وبعض عام، هي الفترة التي استغرقها في كتابة رائعته "قنديل أم هاشم" .. أي أنه كتبها وهو غارق في حالة توهج عاطفي نادر نكاد نلمسه في تأجج مشاعره وتوفز أعصابه في كل عبارة خطها في الرواية.

"دواق" ليلة الدخلة

على أن هذا التوهج العاطفي لا يرجع في الحقيقة إلى تلك "اللوثة العاطفية" وحدها، بل إلى لوثة أخرى أقوى وأشمل، عاشها يحيى حقي منذ طفولته المبكرة في بيت متواضع أرضعه التدين والوطنية وحب الأدب والقراءة، ازداد حبه لبلاده التهابا وتأججا خلال سنوات غربته، فلم ينقطع تفكيره فيها وفي أهلها، وحنينه الدائم إليهم، مما انعكس على تصويره لهم في الرواية، وفي غزله المشبوب ببلاده مثل:" .. في ذهنه مصر عروس الغابة التي لمستها ساحرة خبيثة بعصاها، فنامت عليها "دواق" ليلة الدخلة. لا رعى الله عينا لم تر جمالها، ولا أنفا لا يشم عطرها، متى تستيقظ؟ .."

وقد أصاب يحيى حقي حين وصف بطله بأنه "شاب يريد أن يهز الشعب المصري هزا عنيفا ويقول له: اصح.. تحرك، فقد تحرك الجماد!"

تستبد به تلك الرغبة الملحة في إيقاظ الشعب لدرجة تدعوه إلى هجائه بقسوة لم يجرؤ عليها أعدى أعدائه، لكأنه من فرط حبه ينخزه بلا رحمة لكي يخرجه من سباته:" .. هؤلاء المصريون جنس سمج ثرثار أقرع أمرد، عار حاف، بوله دم، وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه. ومصر؟ قطعة مبرطشة من الطين أسنت في الصحراء، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض، ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من الجاموس نحيل.."

وهذا الحب المتأجج ليس مشاعر مجردة أو عاطفة مثالية معلقة في الهواء، بل هو شديد الارتباط بالمكان والناس الذين نشأ بينهم يحيى حقي وبطله في حي السيدة زينب وأحس بآلامهم وشاركهم جدهم ولهوهم، وتعمق في تفهم نفسياتهم مما نلمس آثاره بوضوح في صفحات الرواية.

تعمد يحيى حقي أن يدفع ببطله إلى السيدة في ثلاثة مواقف حاسمة في الرواية. في المرة الأولى قبل احتدام الأحداث، بل قبل بدايتها، وإسماعيل لا يزال صبيا يرى ويسجل أدق التفصيلات والأحاسيس دون أن يكون له موقف محدد إزاءها ".. هو خبير بكل ركن وشبر وحجر، لا يفاجئه نداء بائع، ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صور متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد في روحه أقل مجاوبة لا يتطلع ولا يمل. لا يعرف الرضا ولا الغضب. إنه ليس منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح، لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب، والنفوذ إليه خفية، والاستقرار فيه، والرسوب في أعماقه، فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأية حياة.. نظرة سليمة، كل عملها أن تبصر."

القنبلة الأولى

وسافر إسماعيل إلى إنجلترا وتفوق في دراسة طب العيون، وعاش قصة حب جارفة مع زميلة إنجليزية، عرفت كيف تخرجه "من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق"، ونجحت في تحريره من كثير من مشاعره الشرقية المسرفة الضارة، ومن بينها حبه المفرط لها. وعاد إلى بلاده واثقا من نفسه وعلمه مهيأ لخدمة بلده وأهله، فإذا به يواجه في أول ليلة له في بيته، بأمه، تعالج ابنة عمه وخطيبته "فاطمة النبوية" بسكب قطرات من زيت قنديل أم هاشم في عينيها المصابتين بالرمد، فتلهبها وتكويها بدلا من أن تشفيها. ثار وفقد أعصابه، وانتزع زجاجة الزيت من يد أمه "بشدة وعنف، وبحركة سريعة طوح بها من النافذة. وكان صوت تحطمها في الطريق كدوي القنبلة الأولى في المعركة".

ها هي ذي الأحداث قد تتابعت وتأزمت وأوشكت أن تصل إلى قمتها، وها هو ذا المؤلف يدفع ببطله إلى ميدان السيدة مرة ثانية فكيف رآه؟ .. فلنقرأ: "أشرف على الميدان فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة، وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد. هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة، ليس لها ما تفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر. ما هذا الصخب الحيواني؟ وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه؟ يتطلع إلى الوجوه فلا يرى إلا آثار استغراق في النوم كأنهم جميعا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى إنساني ..." ويندفع إسماعيل لمنازلة الخرافة في عقر دارها، فيحطم قنديل أم هاشم، فإذا بالجموع تكاد تفتك به. وحين يشفى من جراحه يندفع مرة ثانية في علاج "فاطمة النبوية" بالأساليب العلمية التي أتقنها في إنجلترا، وشفى بها مئات العيون المريضة. ولكنها في حالتنا هذه تفشل فشلا ذريعا، فينهار إسماعيل ويفقد ثقته في نفسه وفي علمه، ويعيش أزمة ضارية تكاد تقضي عليه، وتدفعه للهرب إلى أوربا، لولا ارتباطه الوثيق بميدان السيدة وبأهله، وتردده المستمر عليه، حتى استعاد سكينة نفسه، وبدأ يدرك فيما يشبه الكشف الصوفي أن العلم دون الإيمان لا يساوي شروي نقير، وأن فاطمة النبوية لم تشف لأنها فقدت إيمانها بإسماعيل وبأساليب علاجه.

بهذه الروح الجديدة تغيرت نظرة إسماعيل للميدان ولناسه: "وجاء رمضان فما خطر له أن يصوم. ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر: في الجو، في الهواء، في المخلوقات، في الجمادات، كلها بها شيء جديد لم يكن فيها من قبل. كأن الوجود خلع ثوبه القديم واكتسى جديدا. علا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف ... ودار بعينيه في الميدان، وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها، وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل إلى سمعه، فتذكره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه ... ما يظن أن هناك شعبا كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين. ابن البلد يمر أمامه كأنه خارج من صفحات الجبرتي.

اطمأنت نفس اسماعيل وهو يشعر أن تحت قدميه أرضا صلبة"... إلخ إلخ...

يؤمن يحيى حقي بأن "الأدب الصادق هو الأدب الذي - وإن سجل وحلل وكتب بأسلوب واقعي - لا يكتفي بذلك بل يرتفع إلى حد التبشير، وهذا ما وجدته في الأدب الروسي فسحرني.." وفي اعتقادي أن سرا من أهم أسرار قوة تأثير " قنديل أم هاشم" هو ارتفاعها إلى مستوى التبشير القوى للتصالح بين العلم والإيمان، من أجل النهوض بجموع الشعب المستكينة المستسلمة لمصيرها التعس، ويزيد من قيمة هذا التبشير وقوته أنه تحقق بأسلوب فني درامي ودون أي قدر من الخطابة والمباشرة، وقد تمثل في حرص إسماعيل بطل الرواية على شفاء ابنة عمه وخطيبته فاطمة النبوية، وحرصه كذلك على أن يتزوجها، بعد أن يعلمها كيف تأكل وتشرب وكيف تجلس وتلبس، ويجعلها بنى آدم. أحسن في هذه العلاقة وفاء المثقف المصري، الذي يمثله إسماعيل، لشعبه المريض الجاهل وقيامه بواجبه نحوه، ويرتبط به بهذا الرباط المقدس الذي لا ينفصم. يؤكد هذا الفهم ويزكيه ما فعله إسماعيل بعد ذلك حين افتتح عيادة بسيطة لعلاج مرضة العيون بحي البغالة، وجعل الزيارة بقرش واحد لا يزيد .. " استمسك من علمه بروحه وأساسه، وترك المبالغة في الآلات والوسائل. اعتمد على الله، ثم على علمه ويديه، فبارك الله في علمه ويديه. ما ابتغى الثروة ولا بناء العمارات وشراء الأطيان، وإنما قصد أن ينال مرضاه الفقراء شفاءهم على يديه." إنها رواية تتخذ موضوعها من حياة جموع الناس، وتدعو أبناءهم المثقفين إلى التفاني في خدمتهم وتجميل حياتهم، فهل يدهشنا بعد ذلك أن تستقر في قلوب الناس بنفس القوة التي خرجت بها من قلب مؤلفها؟

 

فؤاد دوارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




يحيى حقي