لما تماسكت
الدموع |
وتنبه القلب
الصديع |
قالوا: الخضوع
سياسة |
فليبد منك لهم
خضوع |
وألذ من طعم
الخضوع |
على فمي الدسم
النقيع |
هل أتاك حديث
أغمات؟ لعلك ما سمعت بهذه البلدة المغلغلة كالبازي الهرم في أدغال جبال الأطلسي
بأقصى جنوب المغرب. إنها على نحو من ثلاثين كيلو متراً من مدينة مراكش. ولكن من ذا
الذي يذكر أن هذه البيوت المتهالك بعضها على بعض، عند سفوح الجبال الممدودة وراءها،
وأن هذه الأزقة التي ينعف فيها الصغار ويرمقونك بفضول، وتلك العيون المطفأة للعجائز
تنظر إليك وكأنها تنظر إلى ما وراء الأفق، هذه الكوكبية الترابية المشتبكة من شجر
الكينا والصنوبر والصبير.. والبشر، كانت ذات يوم عاصمة المرابطين منذ ألف من
السنين؟ الله للعجز كم يحني الدهر ظهورهم ويعيدهم إلى التراب قبل أن يعودوا تراباً.
الجبال وراء هذا البلد العجوز تسد الأفق. إنها "مسنونة زرق كأنياب أغوال"، تشقها
الوديان إلى مهاو لا ترد الصدى الهارب في مساربها. والثلوج تغطي القمم والسفوح
ببرانس بيض وبألوان الأطياف قبل أن تنتصب معارج السماء أو تنهـل ينابيع
ومياهاً.
المعلم الوحيد
القائم في هذا البلد بناء صغير يضم قبرين. ولكنهما قبران مسكونان بالحب.. وبالمأساة
أيضاً. وتساءلت بيني وبين نفسي: أكل هذا الإطار الفردوسي والبساتين المخضلة بالندى
لاحتضان هذين القبرين؟ إنهما لا يرتفعان عن مستوى الأرض سوى سنتيمترات محدودة، وقد
غطيا ببلاطات من "الزليج" الملون البسيط، وصبغة الحمرة تلون البناء كما تلون مراكش
الحمراء ولا شيء آخر سوى أبيات أوصى صاحب القبر أن تكتب على قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح
الغادي |
حقاً ظفرت بأشلاء ابن
عباد؟ |
نعم هو الحق وافاني به
قدر |
من السماء فوافاني
بميعاد! |
ولم أكن قبل ذاك اليوم
أعلم |
أن الجبال تهادي.. فوق
أعواد! |
قبل ثلاثين سنة
فقط كان القبران كومة من التراب يأكلها بعض العشب اليابسة والأشواك. بعض أصحاب
الملك محمد الخامس توسطوا لديه كي يبني قبراً يليق بملك فبنى البناء. وكان الزوار
خلال القرون السابقة يأتون أغمات ليزوروا كومة التراب، ويلقوا أمامها قصائدهم
البكائية للرجل الدفين. ويمضون، فعل ذلك الكثيرون من الشاعر أبي بحر بن عبدالصمد
إلى ابن اللبانة إلى لسان الدين ابن الخطيب.
حين بني البناء
كتبوا على بابه اسم الملك الدفين وحده. لم يكتبوا أن الملك الدفين يرقد هنا مع
حبيبته. أتراهم خجلوا فلا يقدرون الحب؟ لم يكتبوا أنه كان ملكاً في الأندلس فلماذا
هو اليوم فيء غيابة أغمات؟ أتراهم يريدون رمي السر في البئر؟ لم يكتبوا أنه كان
أسراً في القيود ومات في حديد السجن.
أتراهم لا يريدون
نكء الجرح القديم؟
ولماذ زيارتي
وزيارة الكثيرين لهذين العاشقين المتعانقين منذ تسعة قرون. أهي شعيرة حب؟ ما أحسب
ذلك فلدينا من قصص الحب ما لا ينفد! أهي مأساة هذا الملك؟ ملوك كثيرون من مثله بل
أعظم منه كانت لهم مآسيهم الفاجعة ونسيهم الناس. الخليفة الأمين قتل في مذلة. ملك
الفاندال الأخير سيق مع حاشيته إلى القسطنطينية، فذبح بعض منهم وبيع بعض عبيداً.
الزباء ملكة تدمر سيقت مقيدة في موكب النصر في روما الخليفة المقتدر سمل وسالت
عيناه على خدية وكان يستعطي الناس في المسجد الجامع ببغداد. الخليفة المستعصم آخر
العباسيين وضع في كيس ومات ركلاً بالأقدام. مآس دهرية ما استوقفت أحداً.. ثلاثة
ملوك فقط وقفت مآسيهم في الحلوق لأنهم شعراء: ثلاثة ملوك فقط وفقت مآسيهم في الحلوق
لأنهم شعراء: الملك الضليل امرؤ القيس الذي يقولون إنه قضي في حلة مسموة في بيزنطة.
وابن المعتز خليفة يوم لم يطلع صباحه. وهذا الدفين الذي تميز بأنه وعي مأساته طويلا
ورواها في شعره طويلا. فبكي وأبكي
الشاعر
والمأساة
أهو إذن الشعر
الذي خلد هذا الدفين؟ ليس الشعر وحده. ولكن اتساع المأساة أيضاً تعاون مع القوافي
على إبقاء النكبة حية! سيناريو المأساة كلها يتذكرها زوار القبرين جميعاً، ويأسون
لهذا الدفين كما يأسون لآخر زهرة في الربيع تدوسها الأقدام. صورته الأ×يرة وهو
يدافع دون قصره في إشبيلية والشفرات تأخذه من كل جانب وليس عليه سوى قميص نومه لا
درع، لا خوذة، لا فرس، والجراح دوامة تنهل من جسده، ثم أسره مع زوجته وبيع بنته
"بثينة" للنخاسين فيما جندل أولاده الأربعة ولحق بهم الخامس بعد حين، وسنوات حياته
الأخيرة في الإملاق، تغزل زوجته وبناته للناس كي ينلن الخبز، وتعمل ابنة له خادمة
في بيت صاحب الشركة الذي كان أقصى مناه أن يوسع الطريق أمام الملك!
كل ذلك صور تصطرع
عند عينيك وأنت خارج من ضيق المقبرة كأنما تخرج من دبيب كابوس. وخرجنا وكنا نزيد
على المائة عدداً إلى خيمة ضخمة نصبوها لنستريح. وأغضت أجفاني. وخيل إلى أني أرى
مواكب الخيل تمر كالعواصف وتسيل أعناقها في الساحة الواسعة أمامنا، والسيوف تهوي
كأنها "ليل تهاوي كواكبه" وصراخ حرب. ودماء شرايين، وأكباد تتمزق على الرماح،
وألوية تخفق وتختفي.. كانت رؤيا مجنونة لهذا الرجل الدفين بجواري في ترابة إلى
الأبد. ونفضت الرؤيا عن جفوني فلا معركة ولا صهيل. ثم فقط جميع من فتيات البلدة
استدرن في حلقة راقصة الصناجات من حولها تدوي والطبول مهرجان والدفوف تدير الرءوس.
أكن يحيين تلك الراقدة الأخرى في التراب، تحلم بقصرها (الزاهي) أو (المبارك) في
إشبيلية؟ وهذه زمر الجواري يغنين لها في بحر من الطيب والسوسن وهسيس
الحرير؟
دفين هذا التراب
أحسب أنه عرف. إنه أبو القاسم محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل اللخمي من سلالة
الملوك أبناء ماء السماء. وأما الراقدة بجانبه فهي جاريته ثم زوجته ثم أميرة يقظته
وأحلامه اعتماد الرميكية. شاعرة هي كما أنه بدوره شاعر. ومملكة بني عباد، في القرن
الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كانت أكبر ممالك الأندلس في ذلك العصر، عصر
الطوائف، وأكثرها مسئوليات. قامت كغيرها، في إشبيلية، على أنقاض العهد الأموي
وامتدت حوالي 58 سنة. (426 هـ - 484 هـ)، وهذا الدفين هو ثالث ملوكها وأخرهم. أبوه
المعتضد؟ يا لأبيه من الجبروت الذي كان ينام في أعصابه ومن الطموحات التي كانت تسكن
جبينه. كان جامع الجماجم، جماجم أخصامه وأحلافه الذين يقتل على السواء يغسلها
وينظفها ثم يعطرها ويجعل لها المحافظ في خزانة له هي أغلى عنده من خزائن أمواله وقد
يزرع فيها الأزهار. غواية مقيتة! فإذا قام مجلس أنسه ودارت الراح أمر فحملت إلهي
بضاعته الممقوتة ليزداد سروراً، والحاشية منه ومنها في ذعر جنائزي رهيب.! ولقد علم
يوماً بأن ابنه يتآمر عليه كرها لقسوته الوحشية فذبحة بيده وسكر على
أشلائه!!
بدايات
الحب
الندوة دارت حول
المعتمد الابن. حياته في الملك أو في السجن كانت أسطورة. كان يفيض بطولة وفروسية
ويفيض رقة وشعراً ويفيض سخاء كف. حاشيته ضمت أبرز شعراء عصره ابن حمديس الصقلي، ابن
زيدون، ابن عمار، ابن اللبنانة في كوكبة من العلماء والفقهاء. وله مجلس كل يوم
اثنين في أحد قصوره يطارحهم فيه الأدب والشعر والفقه واللطائف. وله مجالس في مثل
ذلك في جنات إشبيلية، على نهرها، الوادي الكبير، قطوفها دانية، وجواريها حسان.
وحميا الكأس نار ورو وريحان وجنة نعيم! وذات يوم خطرت في رأسه شطرة بيت
:
قال : نسج
الريح على الماء زرد
وطلب من جلاسه أن
يجيزوا - فلم يفتح الله عليهم بشيء جارية لبعض الجلاس قالت :
يا له درعاً
منيعاً لو جمد!
ونظر إليها ونظرت
إليه، وبدأت قصة الحب التي عاشت الملك والعز أساطير في إشبيلية، وعاشت الذل
والإملاق والأسى في أغمات بعد ذلك.. سنون طويلة! ولا تزال إلى اليوم
تروى!
مشكلة المعتمد
أنه ليس بملك فقط ولكنه قبل ذلك فنان. شطر بيت حول حياته كلها. كان يقاتل إذا قاتل
بشرف ويهادن إن هادن بشرف ويعادي بشرف، في عصر انهارت فيه كل قيم الأخلاق.. والشرف!
كان مخلصاً لنفسه. يندفع كالسهم وراء الكلمة التي يقول: لا يبالي الغد ما كان أو
يكون! واتفق للمصادفة أن كانت مملكته مصنفة بين قوتين. المرابطون في الجنوب، عبر
بحر الزقاق كانوا قد انتصروا نصرهم النهائي في المغرب 451هـ/1058م، وفي ثكناتهم
مائة ألف فارس، وفيها البطل الزاهد يوسف بن تاشفين. ومملكة قشتالة الإسبانية في
الشمال التي آلت إلى الملك فرناندو سنة 455هـ/1062م ثم إلى ابنه الطموح الفونس
السادس (الأذفونش) اللذين وضعا الخطوط الأولى لما سمي باستراتيجة "الاسترداد يريدون
كامل التراب الإسباني لهم، واقتلاع ملوك الطوائف من الجذور. الحروب الصليبية هنا
بدأت قبل أن تصل المشرق سنة 490هـ/1097م. صارت قشتالة تستذل أولاً هؤلاء الملوك
الصغار، وتفرض الجزى عليهم بقوة السلاح والقهر. وهم في ضعفهم يشترون منها السلم
قطرة قطرة. كان كل مخزون هذه المالك من التبر السوداني المتدفق ومن خفق الأشرعة بين
المغرب والأندلس وأوربا بالبضعاعة والزراعات يصب جزية سنوية ومثاقيل ذهب وجواهر في
يد قشتالة.. ومعدة هذ الدولة كجهنم. يوم نقول لجهنم
هل امتلأت وتقول هل من مزيد.
هل فكر المعتمد
بما أخذ العملاء والمتدينون المتزمتون في عصره يرون؟ كانوا يلهجون بقول واحد:
الاستعانة بالمرابطين للخلاص من المذلة. أليسوا مسلمين وأهل دين؟ بعض العلماء حملوا
هذا الصريخ إلى ابن تاشفين وراء العدوة وبحر المجاز، استنجدوا به. ولم يكن يخفي على
هذا العاهل السبعيني ما يجرى في الجزية الأندلسية بجواره. وكان يتألم لهذا الذي
يجري. ولكنه كان يفضل أن يدعوه الملوك للنجدة لا العلماء والناس لئلا يعتبر تدخله
عدواناً على ملوك مسلمين. ظل أربع سنوات ينتظر (474 - 478) فلما سقطت طليطلة في هذه
السنة الأخيرة وهي قلعة الوسط الأندلسي كله. وقال أحد الشعراء :
يا أهل أندلس شدوا
رحائلكم |
فما المقام بها إلى من
الغلط! |
الثوب ينسل من أطرافه
وأري |
ثوب الجزية منسولاً من
الوسط! |
حين ذاك استطيرت
ألباب هؤلاء الملوك الصغار. وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ويتشاورون. أجمعت الحاشية
الكبرى في إشبيلية على رفض فكرة الاستعانة. وفضلت محاولة الصلح مع قشتالة.
ومصانعتها بالجزية. وقال ابن المعمد لأبيه : أتدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا
ملكنا؟. وقال المعتمد: يا بني!. ملوك هذا العصر لاخير فيهم فحرز (رعي) الجمال عندي
خير من حرز الخنازير!! فسكت الابن على مقضض! كان ملك قشتالة قد أرسل إلى ملك
إشبيلية وملك بطليوس وغيرهما منهم تسليم ما بأيديهم من البلاد! صحيح أن الملكين -
فيما نعلم - أجابا على التحدي بأشد منه وهددا بالقتال المرير وبالإسلام ولكن أما
كان في خاطرهما وهما يسطران الجواب أولئك الفرسان المائة ألف الذين يقودهم ابن
تاشفين؟ الأرجح أنهما كانا يفكران بهذا البعد الاستراتيجي الخطير
خلفهما.
والتأم في قرطبة
جمع شعبي كبير وافاه بعض ملوك الطوائف. ومنهم المعتمد وصاحب بطليوس.
قرروا الاستنجاد
بابن تاشفين. برغم تردد بعضهم خائفين على عروشهم وهي كأعشاش العصافير!
ما أدرك أحد منهم
أنهم حققوا انقلاباً خطيراً في مصير الأندلس.
المصير
يتغير
كانت من قبل
متسامحة الدين، رخية الحياة تقوم على بحر من الذهب السوداني تبني به الصور الباذخة
وتنفق على الحرب وتقود التعايش المتوازن في نضال ثنائي مع نصارى الشمال الإسباني.
وهما هم يستدعون إليها اليوم قوة ثالثة من خارجها ويسلمون الأندلس قطعاً ممزقة
لمصير لا يعلمون مداه. وأهم من هذا وذاك أنهم غيروا دون أن يدروا اتجاهها السياسي
والفكري حين وضعوا باستدعاء المرابطين البربر قوة متشددة مسلمة في وجه قوة أشد
تزمتاً وحقداً وتعصباً يقودها في قشتالة والشمال الإسباني مجموعة من أصحاب المسوح
السود تبدأ عند البابا وتنتهي عند أصغر كهنة القرى. وهكذا صار مصير الأندلس رهناً
بنجاح إحدى القوتين المتقابلتين اللتين سوف تتناحران مائة وثلاثين سنة ليأتي يوم
الفصل، ووقعت الأندلس بين حجري الرحي وغدت أرضها ميادين للقتال، وانتهت بأن انهارت
بعد معركة العقاب سنة 609 هـ / 1212م تحت السنابك.
لم تكن معركة
"بلاط الشهداء" هي التي أوقفت المد الإسلامي في أوربا. أنانية الفرنجة هي التي صورت
ذلك للناس. الذي أوقفه هو جبهة التعصب النصراني التي امتدت ما بين روما وايكس لا
شابيل وباريس وطليطلة في حلف واحد. ولم يكن وقوف الحركة الإسلامية في مطالع القرن
الثاني الهجري / الثامن الميلادي أمام شارل مارتل، ولكنه كان في القرن الثالث عشر
للميلاد / السابع الهجري. حين نصب التعصب الديني الإسباني (وامتداداته الصليبية في
المشرق) جدار محاكم التفتيش في أوربا، فأهلكوا دونه أربعة ملايين مسلم هناك ما بين
مطرود، وقتيل، ومرغم على تغيير الدين، ومنهار تحت العذاب الأليم.
كانوا هجوميين،
والأندلس والمشرق كلاهما في هذه الفترة كانتا في حالة دفاع. ولم يكن غريباً أن
يعتبر الطرفان القشتالي والأندلسي القضية قضية دينين يتصارعان. فنحن في العصور
الوسطى، والهوس الديني كان يقود إلى ساحات الحروب ويتضخم بالأشلاء، لا لأنه ديني
فحسب ولكن لأنه كان الغطاء المقبول الكهان وتسكن العمائم. كانت تعبر عن نفسا
بالدين. كل قناديل العقل والحضارة والتسامح في الأندلس، وفي قشتالة أطفئت بمنطق
العصر الديني على الجانبين.
ولسنا هنا بكل
تأكيد في معرض التسوية بين المتزمتين. فالتزمت المرابطي - الموحدي كان يحمل رسالة
حضارية إنسانية. والمرابطون ثم الموحدون حملوا بسرعة كل آلاء الحضارة الأندلسية
تنظيماً وتشريعاً وشعراً وفكراً وعمراناً وعلوماً وراعة وأرادوا الزحف بها إلى
الشمال. في حين كان التعصب القشتالي لا يدافع عن رسالة للحضارة والإنسان ولكن عن
عقيدة دينية. بدأت نواتها بحرب الاسترداد. واستمرت بعد ذلك 400 سنة وشملت المشرق
والمغرب في جبهة هجومية واحدة. ولعل مما له معناة أن يكون موت المعتمد سنة 488/1095
هي السنة نفسها التي أعلن فيها البابا الحروب الصليبية في فرنسا على المشرق العربي
بحجة القبر المقدس.
على أي حال.
انتصر مبدأ التدخل في الأندلس وتألف على إثر انصاره ودون تأخر وفد من قضاة غرناطة
وبطليوس رافقة وزير المعتمد ذهب باسم الملوك عبر العدوة المغربية إلى ابن تاشفين
صاحب العمامة الضخمة والجسم المعروق والإرادة كأنه الحديد أو أشد مرة. وتحركت السفن
الحربية بأثقالها بين المغرب والجزيرة الخضراء. وأقبل ملوك الطوائف يستقبلون
المنفذ. هل كانوا يستطيعون ألا يستقبلوه؟ ومشي بهم ابن تاشفين لا يقف حتى ساحة
القتال (قرب قلعة رباح). هناك كانت معركة الزلاقة سنة 478هـ/1086م.
كان ألفونسو
السادس قد جمع من الجند والأحلاف والفرسان والملوك والبركات البابوية والكنسية ما
حسب معه أن غار النصر بات تحت قدميه. ودارت الرحى تلقي بالرءوس المتطايرة وبالأذرع
المنتثرة والأشلاء تدوسها الحوافر والنقع غيوم. وصهيل الخيل مبحوح. والسهام أمطار
وتزحزحت الطلائع المغربية عن مواقعها لولا أن ثبت ابن تاشفين مع حسرة الخاص فردها.
وخرف المعتمد جدار الجند الإسباني تستمع لصراخة دوي الموت. وصاح صائح : قُتل
الأنفوتش. ولم يكن قد قتل ولكن طعنة نجلاء أتت على ساقه فهرب من المعركة تحميه
كوكبة من فرسان لا يلوي على شيء حتى بلغ طليطلة، تاركاً الجيش لمصيره.. ودب الهرب
في الفرسان ولجأ الرحالة إلى الأدغال بجراحهم والسلاح. وانجلى الميدان عن نصر مؤزر
لابن تاشفين اهتزت لأفراحه الأندلس.. كل ما اختزنت من الضعف والمذلة والخوف انهار
عن كتفيها.. وعاد ابن تاشفين إلى المغرب. ولكنه عاد يقول لأصحابه: كنت أظن أني بنيت
ها هنا مملكة. فلما رأيت الأندلس صغرت في عيني مملكتي!
الفاتح يكشف
وجهه
كشف ابن تاشفين
بكلمته هذه أن المنجد المساعد انتهى عنده. وبدأ دور الفاتح الطامع! هل أحس ملوك
الطوائف بهذا الطمع؟ لا شك أنهم أحسوا به. أرادوا أن يفهموا "الزلاقة" على أنها
معونة لوجه الله والجهاد. لم يفهموا أن لكل شيء ثمناً. نسوا أن منطق السياسة غير
منطق الأخلاق.
المعتمد بالذات
خدعته فروسيته. حسب أنه يدير السياسة كما يدير بيت الشعر. خيل إليه أن يستطيع أن
يمسك العصا من الوسط كبعض البهلوانات. فيهدد قشتالة بالمرابطين ويهدد المرابطين
بقشتالة. وينجو من القوتين. ما أدرك أن قيادة الأدب شيء وقيادة الدول شيء
آخر.
وما عتم صاحب
المعونة أن عاد سنة 480هـ صاحب فتح. وما كان بحاجة إلى اططناع المعاذير فقد أوغرت
الحاشية والعلماء والمتدينون صدره، وقدموا له المبررات وخاصة بما حدثوه به من لهو
المعتمد وما تورطه فيه "الرميكية" زوجته من الفساد. قالوا له إنه أعطي ابنته حظية
لملك قشتالة وأنه يؤدي الجزية للنصارى كأنه ذمي. وقالوا.. وقالوا.. وكانت القشة
التي قصمت ظهر البعير ما أبلغوه إلى ابن تاشفين من أن المعتمد اتفق سراً مع قشتالة
على الوقوف في وجه المسلمين. إن ذلك يمحو نصر الزلاقة العظيم ويجعلها مهزلة صورية
وخداعا بعد كل تلك الآلاف من الأشلاء التي انتشرت فيها. إنه يهزاً بالدماء
المرابطية التي سقت السماء والأرض وما جفت بعد سكباً وألقا!
وأرى ابن تاشفين
الصارم العقيدة والحياة أن الدين يعطيه الحق. وتحرك يقطع البحر سفيناً ومجاديف تجرى
في العدوة كالأعلام. وأقبل يقطف الملوك ثمرة ثمرة. إنها رءوس قد أينعت وحان قطافها.
وإنه لصاحبها. ولا خلاص للمسلمين في الأندلس إلا بالخلاص منها. وأي قطاف كان؟ منجل
الموت العريض كان وسيلته في حصاد الحواشي والوزراء والأمراء والكبراء والملوك
وأبناء الملوك. قتل صاحب بطليوس وولديه. حاصر غرناطة حتى استسلم أميرها عبدالله بن
بلقين. يميناً ويساراً كان جنده يمحون مارسم الملوك الصغار من حدود على أشبار من
الأرض. وأخذت الأشرعة تحمل إلى المغرب بقايا هذه النفايات الحاكمة.. وحده المعتمد
مع بطليوس قرر المقاومة حتى النهاية!
وإذا لم يكن من الموت
بد |
فمن العجز أن تموت
جباناً |
ذلك كان منطق
الأرومة العربية في الرجل وحوصرت إشبيلية ثم تدفق الجنود المرابطون في طرقها ووصلوا
قصر المعتمد. وتسوروه إلى الغرف. وإنه ليصف تلك الساعة العصيبة فيقول:
قد رمت يوم
نزالهم |
ألا تحصنني
الدروع |
وبرزت ليس سوى
القميص |
على الحشا شيء
دفوع |
وبذلت نفسي كي
تسيل |
إذا يسيل بها
النجيع |
أجلي تأخر لم
يكن |
بهواى ذلي
والخضوع |
ما سرت قط إلى
القتال |
وكان من أمل
الرجوع |
شيم الآلى أنا
منهم |
والأصل تتبعه
الفروع! |
كبرياء حتى
النهاية
وحين رأي السيوف
تأخذه من كل جانب رمى بسيفه في وجه المقتحمين. ورموا إليه بالأصفاد. ويوم مرت به
إلى المنفى الأشرعة كان نحيب الناس على الجانبين يفوق عصف الرياح. وسيق في أرض
المغرب حتى أغمات في الأدغال الأطلسية لم تعرف شفتاه استرحاما ولا اعتذارا. وعلى
الرغم مما وصلت غليه حال أهله وأولاده في الفقر والإذلال احتفظ بكبريائه وبالأنف
الأبي. وجاءه العيد يوماً فتمتم:
فيما مضى كنت بالأعياد
مسروراً |
فساءك العيد في أغمات
مأسورا |
ترى بناتك في الأطمار
جائعة |
يغزلن للناس ما يملكن
قطميرا |
برزن نحوك للتسليم
خاشعة |
أبصارهن حسيرات
مكاسيرا |
يطأن في الطين والأقدام
حافية |
كأنها لم تطأ مسكاً
وكافورا |
لا خد إلا ويشكو الجدب
ظاهره |
وليس إلا مع الأنفاس
ممطورا |
قد كان دهرك إن تأمره
ممتثلاً |
فردك الدهر منهياً
ومأمورا |
من بات بعدك في ملك يسر
به |
فإنما بات بالأحلام
مغرورا |
هذا ابن عباد
الذي اجتمع حوالي المائة من العلماء والمستشرقين والمؤرخين والشعراء والفنانات
والدراسين يحيون في مراكش "عرس المعتمد" وحبه بعد 900 سنة من رقاده الأبدي وليجدوا
فيه وهو الشاعر المرهف والملك النبيل ضحية القسوة والعنص والتزمت الديني. وليعتبروه
رمز التسامح الرحب والتعايش الحضاري في وقت معاً. لقد كان يمثل روح الأندلس بكل
أبعاده السمحاء!
وقفة
وداع
ووقفت، قبل
الوداع في مراكش، في ساحة الفناء تلك الساحة الهائلة الممدودة، مائدة واحدة
للمحتفين هي مهرجان لما تشاء من ألوان الشواء والمآكل والأسماك، ومن الأعين الصغيرة
المنطفئة المقعية، ومن الراقصين في حلقات والزمر والطبل يشيلهم ويحطهم، ومن
المهللين لشعوذة وأطباء الدجل، ومن الحواة مرقصي الأفاعي، والعاطلين المتسكعين.
وتضمخ الجو روائح الشواء دخاناً يتصاعد هنا وهناك في الفضاء الرحب. تطوق كل ذلك
عربات البرتقال والعصير مثقلة، مثقلة. وتتخلله المنقبات، بائعات الطواقي تبص عيونهن
الشهل من خلال النقاب، في هذا الخليط الهائل من البشر والمآكل والدخان وريح القتر،
ومن الدجل والخدود التي حقرتها التجاعيد، في هذا الجناح الهارب من العصور الوسطى
إلى قبل مراكش تحسبه روحها القديم وقفت أسأل الرائح والغادي ن المعتمد بن عباد. أين
هو؟ وأين ابن تاشفين؟ فكا الناس يبتعدون عني كأنني بعض المجاذيب. أو كأن الجنون
يعدي.. بعض العيون كانت تنظر إلى في فضول بوجوه جففتها الشمس حتى الإحراق. وتطوع
صبي فقال: ابن تاشفين؟ هو جارنا في أول الزنقة. ويش تريد منه؟
قلت لا أريد
شيئاً وتمتمت كنت أريد أن أقول ه: ما ضرك لو صفحت؟
لقد حاولت أن تذل
نسراً لا يذل. ما طلب منك الرحمة. ما استغفر. لقد ظل في كبريائه يتحدى ألم تخطئ في
تقدير معادن الرجال يا ترى؟
لهذا ظل سواد
الشاعر يلاحقك منذ 900 سنة!
وسيظل يلاحقك إلى
الأبد!