قراءة نقدية في .. المجموعة القصصية

قراءة نقدية في .. المجموعة القصصية "ناقة العوني"

للكاتب تركي ناصرالسديري

من الملاحظ أننا إزاء كاتب يميل إلى شكل الحكاية، باعتبارها الجدة الكبرى للقصة القصيرة، فغالبية للقصة تنويعات على ذلك القالب الحكائي، الأثير لدى كير من كتاب الفن القصصي في الأدب العربي.

فكيف عبر الكاتب عن الواقع فعليا أو متخيلا، كما بدا متجليا في مجموعته القصصية الثانية؟

يأتي عنوان المجموعة - في البدء - وعدا من الكاتب بأهمية العالم الذي اختاره مسرحا، تدور فيه معظم رؤاه التي تقدم تصور الإعادة تشكيل الواقع إبداعيا. فالعنوان الذي حملته هذه المجموعة هو لإحدى قصصها وامتداده من خلال "ناقة العوني" بدلالتها المستلهمة من البيئة الصحراوية، والرامزة إليها عبر إشارة موحية.

ولا يعني الكاتب بتصوير ذلك الواقع - بشقيه الفعلي والتخيلي - تصويرا تقريريا مباشراً، بل إنه يهتم بالتعبير عنه إبداعيا وجماليا من خلال دلالات رمزية ذات شفافية سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا من جهة، أو التعامل مع العنصر المكاني من جهة ثانية، أو العنصر الزماني من جهة ثالثة.

ونلامس ميلاً من الكاتب نحو الموروث الشعبي، النابع من البيئة الصحراوية بوجه خاص، والتراث المعبر عن وجدانها الجمعي بوجه عام. إذ يوظف الأشعار النبطية في بعض قصصه، كما يستخدم تقنية الراوي في قصص أخرى، مما يدل على توجهه نحو التراث من خلال التعامل مع إحدى التقنيات المأخوذة من التراث العربي، لا سيما من الشكل الملحمي أو الشكل المسرحي.

للراوي وظيفتا أو دوران في البنية القصصية، فهو تارة يقص ما حدث وما يحدث مسهما في الأحداث، وتارة أخرى يعلق على الحدث دون أن يسهم في صنعه. ومن ثم، فالراوي يؤدي دوراً مزدوجا في السرد القصصي، ويتأتى ذلك عبر ضفاف اللغة الوصفية.

هذه التقنية - الراوي - تشكل جسراً يربط بين الأمكنة سواء أكانت مفتوحة أم مغلقة، بادية أم مدينة أم قرية، كما يربط الأزمنة سواء أكانت ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً.

وعلى صعيد آخر. فالفعل المضارع يطغى على ما عداه من الأفعال الأخرى، مما يشير إلى حضور اللحظة الآنية، المنسابة عبر تكثيف الإحساس بحركة الزمن الراهن. ونلمس ذلك بشكل جلي في غالبية القصص، وبخاصة في القصة المعنونة "الزمن" التي تطرح رؤية للإحساس بالزمن عبر الصحو والحلم.

إذن، فاستخدام الراوي سمة من أبرز سمات هذه المجموعة، جاء عملا موفقا من الكاتب في استلهامه لتقنية من تراثنا، وفي تعامله مع حركة الزمن ودبيبة إلى الأمام.

شخصيات غير نمطية

لو تأملنا شخصيات مجموعة "ناقة العوني" لوجدنا أنفسنا أمام عديد من النماذج البشرية، التي تعبر عن الواقع المعيش. وهي نماذج من أجيال شتى، تمثل القديم والجديد في آن.

فالجد يظهر كشخصية لها حضورها القوى ي الزمن الحاضر، كما في قصة "يا بونا جانا الذيب" التي ترصد موقف الأحفاد وصخبهم تجاه دار بناها جدهم البدوي. هذه القصة كتبت في أثناء غزو العراق للكويت في أوائل التسعينيات، وتعبر - في الوقت نفسه - عن المأساة التي عانيناها، ولما نزل نعانيها.

والأب له حضور قوي في بعض القصص مثل : "طفولة"، "المهزوم"، "الحشرات تموت نائمة". إنه شخصية مؤثرة في أبنائه، وفي المحيطين به.

والأم نراها حاضرة في بعض القصص، ولها شخصية قوية، كما في "المهزوم"، "حلم بدوي صغير"، "مصدر ذلك أمي". وإن جاء حضورها أقوى من الأب.

والطفل لا يغيب عن مسرح الأحداث، فنراه يشكل قاسما مشتركا أعظم في غالبية قصص المجموعة، وخاصة في "طفولة"، "حمار"، "يحدث ذلك أمام الجدار الأبيض"، "المهزوم"، "حلم بدوي صغير"، "طار / مي"، "الحشرات تموت نائمة"، "القالب، "مصدر ذلك أمي"، "يابونا جانا الذيب". في هذه القصص نواجه رؤي للعالم المرصود من خلال عيني الطفل، بكل ما في تلك الرؤي من براءة ودهشة وتساؤل. وإن جاءت الرؤية في قصة "طفولة" من خلال عيني الكبير عبر تداعيات الذاكرة، ولو رصدت من خلال رؤية الطفل وإحساسه، لبدا ذلك أفضل فنيا.

وليست تلك الشخصيات نمطية وبرغم رسم بعضها بشكل تجريدي لا يحمل اسما، بل إنها نماذج من لحم ودم. فلم تكن شخوصا مصنوعة، إنما جاءت نماذج تحب وتكره، تقوى وتضعف.

وفاء الحيوان لصاحبه

وفي الوقت ذاته، فإن الكائنات الحية الأخرى التي ظهرت في بعض القصص، رسمت بعناية، وعبرت عن السياق الذي وضعت فيه، كالناقة الحمراء الراكضة كلما حل الظلام على الصحراء في قصة "ناقة العوني"، والقطط التي تمارس المواء في ظلام المسرح، في قصة "الحارس"، والحشرات التي بدت في حجم الماعز، في قصة "الحشرات تموت نائمة"، والذئب / الرامز إلى الغازي الغاشم في قصة "يابونا جانا الذيب".

لنأخذ الناقة - مثالا - في القصة التي جعلها الكاتب عنوانا للمجموعة. فنحن أمام ناقة وصاحبها الذي يواجه مصيرا قاسيا، وهو بدوي هارب من الأرض القاحلة، بحثا عن أرض أخرى. لا يركز الكاتب على البدوي بل على ناقته من خلال تداع نفس، يختلط بالسرد ويتداخل فيه: "حين أبصرته، هويت على الأرض، وأنا أكثر إجهاداً، وأملا في أن يفيق ... كان ممددا على الأرض، قطعة جفاف، تنتظر مجيء الموت، عينه مشغولة في النظر جهة الأفق ... ليته يلتفت نحوي، أنا ناقته الصبور، المتسامحة، المحتاجة للعون .. لم تكن لدي الاستطاعة لأن أثير انتباهه لوجودي حوله .. بل ولم أعد قادرة على تحمل المزيد من الزحف نحوه .. " هذه التداعيات للناقة، إحدى المخلوقات التي تعيش في الصحراء، يتعامل معها الكاتب بحنو بالغ، فيستنطقها في عملية تخييل ماهرة، كي تبوح بأسرارها وهمومها عبر مناجاة نفسية أو حوار داخلي طويل. إن القصة تجسد علاقة الوفاء بين الحيوان وصاحبه باقتدار، فالكاتب يمنح الناقة اهتماما وحنوا أكثر مما منحه لسواها من المخلوقات الحية الأخرى في بعض أعماله القصصية، وهذا الاهتمام لا يقل عن اهتمامه بالنماذج البشرية، بأي حال من الأحول.

الحلم وتجليات الإبداع

ولأن الإبداع حلم يقظة بالغ الأهمية، بالغ الهافة، فليس غريباً أن يحتفي صاحب مجموعة "ناقة العوني" بالحلم المسكون بالأمل في تغيير الإنسان نحو الأفضل ونحو الأجمل. فكل تغيير يبدأ بحلم، وكل إبداع يولد حلما، وكل جديد لا يخلو من إشراقة الحلم الرهيف.

وقصص المجموعة التسع عشرة كلها تنطوي على إشراقات الحلم بالتغيير، فالكاتب ينسج من خيوط الواقع المعيش أحلاما صغيرة للنماذج البشرية والمخلوقات الحية الأخرى، ويصوغ من ألق تلك الرؤي الإبداعية حلما كبيراً وجميلاً.

فالكبير في تلك الرؤي يحلم، وكذلك يحلم الصغير، بل إن الكاتب يصور الحيوان حالما. فما أروع أن يعبر الحلم عن تطلعات الكائنات الحية إلى أشياء صغيرة في الحياة ولكنها كبيرة في المعنى والدلالة.

ومن ذلك نجد الطفل في القصة الموسومة "طفولة" لم يكف عن الحلم، فهو يرغب في اكتشاف ما بداخل الصندوق المغلق مصراً على فتحه. إنه يريد طلبا صغيراص بقوله : "افتح الصندوق .." من أجل أن ينال حبا وحنانا. وحين يرسم لوحة صغيرة يحلم باللون الأخضر، فيتحول البر - في عينية - قطعة خضراء موارة بالحركة والحياة.

ونرى هذا الطفل الحالم مرة أخرى في قصته "يحدث ذلك أمام الجدار الأبيض"، فهو يتنسم عبق الماضي، هذا العبق الذي يشمه وهو يزور المتحف يعبر عن ذلك قائلاً: "المتحف الذي زرته لأول مرة مع أبي، له رائحة تحسستها منذ أن كنت في الممر المؤدي إلى قاعة العرض، وهي نفسها الرائحة، أكرر شمها في كل متحف. ضحك أبي كثيراً وأنا أفيدة بهذه الملاحظة. لم أعد أتذكر تعليقه لحظة ذاك، كنت مشغولاً في استيعاب أجواء المتاحف الصامته بعمده"، هذا الطفل مسكون بحلم الرغبة في أن يحيل صمت المتاحف إلى لوحة تدب فيها إيقاعات حركة الحياة حتى لا يبقى الماضي جامداً.

والناقة في القصة التي تحمل المجموعة اسمها، تحلم بأن يكون لمولودها الذي لم يولد بعد، أطيب المرعي والأمان. إنها تعشق وليدها وتدلله.. لدرجة أن النوق الأخريات كانت تحسدها على ذلك.

والعاشق في قصة "طار / مي" يسمع صوت طار عشيقته "مي" حين كانت ترقص في الزمن البعيد - قل أن ترحل إلى مزون الحجاز - وتتركه وحيدا في مهب رياح الصحراء، فيجلس مستعيدا ذكرى الأمس الجملية، حالما بالإمساك باللحظة الهاربة في جوف الزمن.

ولعل هذا يكفي للإشارة إلى أن للحلم وجودا في تجليات الإبداع بصفة عامة، وفي تلك الرؤي القصصية بصفة خاصة.

اللغة والخطاب القصصي

وعندما ننظر لغة القصص نجدها لغة معبرة عن أبعاد الشخصيات من جانب، والبيئة الصحراوية من جانب آخر يتحقق ذلك من خلال استخدام أسلوب المتكلم في الخطاب القصصي، إضافة إلى اللهجة المحكية المستخدمة في الحوار، وفي السرد.

ولم تخل تلك اللغة من مفردات لها دلالات في البناء الفني للقصص، منها: الخيمة، الجمل، الناقة، الحداء، الحمل، الذئب، البر، الخلا، السيف، مزون، السامري، الغيث، شجرة برية، نخلة صحراوية، جلمود، الفارس البدوي، الخزامي، الجفاف، حطب السمر، نجوم الليل، طقوس القبيلة، سنبلة القمح، لهيب الشمس، الريح الصحراوية، كثيب الرمل، المدينة، القرية، الدار، هذه المفردات وغيرها أسهمت في تحديد الإطار الذي تدور فيه كثير من القصص، كما أسهمت في تعميق الرؤي وتكثيفها. وإلى جوار ذلك، فإن التعبير بالصورة في معظم القصص أضفى لمسات من شاعرية التعبير على أسلوب القص.

ومع أن الميل إلى مخرج الشعر النبطي بالنثر في سياق السرد واللهجة المحكية أعطى ملمحا من ملامح البيئة الصحراوية في بعض النصوص القصصية مثل : "ناقة العوني" و"طار / مي".. إلا أن الإغراق في عملية المزج يؤدي إلى منزلق يؤخذ على الكاتب.

أما أسلوب الكاتب - إجمالا - فهو واضح، وبعيد عن الغموض والتعقيد مما نراه في كثير من أعمال كتاب القصة القصيرة، في وقتنا الراهن.

وبما أن الرمز سمة أسلوبية من سمات القاص المتمكن من أدواته الفنية، فالرمز يأتي شفيفا، كما جاء في بعض قصص المجموعة، فالنخلة في الأدب العربي رمز تراثي للشموخ والاعتداد، والجد رمز للقديم، والناقة رمز للصبر وقوة الاحتمال، والطفل رمز للأمل والزمن القادم، والذئب رمز للغدر والخديعة.

غير أن ثمة مأخ على المجموعة، هو أنها لم تخل من الأخطاء اللغوية والأخطاء المطبعية. فمن الأخطاء اللغوية - وهي كثيرة - : "إن قدماي لا تمتدد جذورها للأعلى". والصواب "قدمي".. قصة "الأشجار تنمو في الظلام". والصواب "قدمي".. قصة "الأشجار تنمو في الظلام"، وكذلك جاء : "في كل مساء تحكي نجمة نافرة في المساء، عن ما يجول في خاطري. والصواب : "عما" .. قصة "لا يهم - لا يهم"، كما جاء في القصة ذاتها "لا يهم، أن نبقي، أن يبقون". والصواب "أن يبقوا"، وجاء عنوان قصة "يا بونا جانا جاءنا الذئب". وبوسعنا القول - في النهاية - إن قصص "ناقة العوني" للقاص تركي ناصر السديري، تطرح رؤي جديدة فكرا وإبداعا، وتمثل نظرة كاتب إلى عصره وواقعة.

 

عبدالرحمن شلش

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب