وللإعاقة حوافزها

وللإعاقة حوافزها

ما هي الإعاقة؟ ومن هو المعوق؟ وهل يمكن للإعاقة أن تترك أثراً طيباً في شخصية الفرد المعوق؟

الإعاقة كما ورد في ميثاق الثمانينيات هي: "حالة تحد من مقدرة الفرد على القيام بوظيفة أو أكثر من الوظائف التي تعتبر العناصر الأساسية لحياتنا اليومية، وبينها العناية بالذات أو ممارسة العلاقات الاجتماعية أو النشاطات الاقتصادية، وذلك ضمن الحدود التي تعتبر طبيعية، وقد تنشأ الإعاقة بسبب خلل جسدي أو عصبي أو عقلي ذي طبيعة فسيولوجية أو سيكولوجية أو تتعلق بالتركيب البنائي للجسم ". ويكون المعوق انطلاقاً من هذا التعريف العام للإعاقة هو الفرد الذي يعاني من خلل أو قصور ملحوظ في وظيفة أو أكثر من وظائفه الجسمية أو العقلية أو النفسية- الاجتماعية.. بحيث لا يستطيع القيام بهذه الوظيفة أو تلك على قدم المساواة مع الأفراد العاديين مما ينعكس ذلك على نضجه الاجتماعي أو العقلي أو الجسمي ويضعه هذا الخلل أو النقص في درجة دون العادي أو المتوسط من الأفراد.

فالإعاقة هي حالة تحد من مقدرة الفرد، وتكون لها آثار سلبية تعكس هذه المحدودية في القدرة، فهي تنعكس على الفرد سلباً في مناحي حياته النفسية والاجتماعية والتربوية والمهنية، وتنعكس أيضاً بالسلب على حياة الأسرة وأفرادها ونشاطاتها الاجتماعية والاقتصادية، كما تنعكس بالسلب أيضاً على المجتمع من حيث ماتتطلبه هذه الفئة من رعاية اجتماعية وتربوية، والنقص في هذه الرعاية يخلق فئات من المجتمع عالة عليه ومؤثرة في مقدراته.

ولكن إذا جاز لنا أن نأخذ جانباً آخر من الإعاقة، وهو الجانب الطيب، والذي يمكن أن يدخل في إطار آثار الإعاقة، هو ما نطلق عليه التعويض أو التعويض الحسي عند المعوقين، ويمكن لهذا التعويض أن يكون مثاراً للجدل، هل هو موجود عند كل المعوقين؟ وهل هو المحرك وراء القدرات العالية التي يظهرها بعض المعوقين لتجاوز إعاقتهم وإثبات ذواتهم عبر إنجازات ونتاجات إبداعية متقدمة؟

"إدلر" والتعويض

بالرجوع إلى ما يقول به إدلر في "القصور والتعويض" فإن الشعور بالقصور الذي يوحي به إلى الفرد أحد أعضاء بدنه يصير على الدوام "عاملاً فعالاً في نموه النفسي" ويقصد بقصور أحد الاعضاء: عدم استكمال نموه أو توقفه أو عدم كفايته التشريحية أو الوظيفية أو عجزه عن العمل بعد المولد. ويرى إدلر أنه من الميسور أن نتأكد بملاحظة الأطفال أو بدراسة ذكريات الكبار، من أن وجود الأعضاء القاصرة يؤثر دائماً في حياة الشخص النفسية لانه يحقره في نظر نفسه ويزيد شعوره بعدم الأمن، لكن هذا الشعور بعينه هو الذي يلهب الجهاد لاقرار الشخصية، ويثيرفي المرء عراكاً رائعاً، كثيراً ما يتخذ أشكالاً من العنف تبلغ حداً متطرفاً لا ننتظره منه، ويزيل تبعاً لزيادة مقدرة العضو القاصر على التعويض من ناحيتي الكم والكيف.

ويقول إدلر في موقع آخر: ومع هذا فإن ألوان القصور التى قسمت عليهم "أي على الأفراد" تهيء لهم القدرة الكبيرة للتعويض ولما فوق التعويض وتزيد قدرتهم على التغلب على العقبات العادية والخارقة للعادة وتدفع بهم إلى تكوين الكثير من الوظائف الجديدة وأشكال النشاط العالية.. وعلى هذا المنوال تصبح الأعضاء القاصرة ينبوعاً لا ينضب من العناصر التي يستطيع الكائن الحي أن يعمل في تحسينها والانتقاء منها، حتى يستطيع أن يوفق بينها وبين ظروف الحياة التي أقبل عليها، فإن بلغ في هذا غاية كبيرة من النجاح، كان ذلك نتيجة لمهارته في ترويضها ولقدرة الاعضاء القاصرة على التغير والتحول ولطاقتها الكبيرة التي تدفعها نحو النماء والزيادة، يضاف إلى ذلك كله ما يؤدي إليه الانتباه والتركيز الداخلي من التقدم الكبير في العقدة النفسية العصبية التي تتصل بثلك الأعضاء.

ووفقاً لرأي إدلر فإن القصور العضوي أو الوظيفي هو منبع النشاط، وبخاصة النشاط الخلاق الذي ينتج عن الية التعويض، وقد يكون التعويض تعويضاً مباشراً يدفع بالمعوق بصرياً إلى النبوغ في الأدب أو المعوق سمعياً إلى الإبداع في الموسيقى وينشأ ذلك نتيجة قصور العضو الذي يخلع على الوصلات العصبية المرتبطة به وعلى مايتبعها من نظام نفسي جهداً من طبيعته أن يثير في هذا النظام تعويضاً قوياً في الحالات التي يمكن فيها التعويض.

إنجازات

إن الأمثلة التي تؤيد ذلك الرأي في تاريخ العلم والفن والأدب والرياضة كثيرة، نذكرمنها على سبيل المثال لا الحصر: في مجال الاعاقة البصرية قدم هوميروس للأدب الإلياذة والأوديسة، وهما من أروع ما قدمته العقول البشرية خلال أجيال طويلة. واشتهر ديدموس الذي عاش في الإسكندرية خلال القرن الرابع الميلادي أنه كان أستاذاً وفقيهاً وقد أصيب بالعمى حين بلغ الخامسة من عمره لكنه استطاع أن يبرهن للناس في عصره أن الأعمى قادر على أن يكون أكثر من شحاذ تستر جسده الخرق البالية، كما كان الشأن في أيامه.

ثم "نيكولاس سا وندرسن" الذي ولد أعمى عام 1682، ولكنه تغلب على إعاقته وأصبح عالماً في الرياضيات وأستاذاً في جامعة كامبردج. وبعد ذلك ظهر "جون متكالف" الذي أصبح مهندساً ناجحاً اهتم بشق الطرق،. وكذلك "ماريا تيريزيا" التي عاشت في فيينا وبلغت من شهرتها بالموسيقى المجد الذي أوصلها إلى بلاط الإمبراطورة، ثم الشاعر المشهور "ميلتوا" الذي يعد من طائفة المكفوفين العباقرة. وأخيرا "لويس بريل" صا حب طريقة "بريل" للقراءة والكتابة التي لايزال المكفوفون يدرسونها ويعوضون بها فقدهم للبصر.

ويمدنا تاريخ الأدب العربي بأسماء لامعة كان أصحابها مكفوفين، فهذا "أبوالعلاء المعري" الذي أصيب بالعمى في الثالثة من عمره وهو يتبوأ في تصنيف الأدباء العرب قمة القائمة. ثم "بشار بن برد" و"الفضل بن محمد القصباني النحوي" المكفوف الامام في اللغة العربية و"شافع بن علي بن عساكر العسقلاني" وغيرهم كثيرون.. وأ خيراً نجد في أدبنا الحديث الدكتور طه حسين الذي تبوأ في الأدب العربي الحديث ما كان يمثله أبوالعلاء المعري في عصره.

وفي مجال إلإعاقة الحركية نذكر على سبيل المثال العداء الأولمبي "كويننغام" الذي حرقت ساقاه وهو في عمر الثامنة، حيث كان يظن أنه لا يستطيع السير عليهما، وحالة "ديفيز" الذي كان يشكو من الشلل المزمن لكنه حصل على رقم قياسي عالمي في القفز العالي. وكذلك حالة "نانكي ميركي" التي كانت تشكو من شلل على إثر إصابتها بشلل الأطفال وهي في سن العاشرة، لكنها حصلت على رقم قياسي في السباحة عندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها. وهناك حالات كثيرة تذكرها ا لأدبيات، فمثلاً حازت "ولما ردولف" على ثلاث ميداليات ذهبية في الألعاب الاولمبية عام 1960 في روما وكانت قبلها استعملت كرسي "العجزة" لمدة ثلاث سنوات.

وقد كانت "ميريل نيكر" أول راقصة باليه في أوبرا باريس، إلا أنها كانت قد أصيبت وهي في سن الثانية والنصف بحادث قطع أثنين من أصابع قدميها وبقيت عرجاء حتى سن السابعة وعندما بدأت في التدريب والممارسة كانت تضع في حذاء الرقص عظيمات لتعوضها عن الأصبعين المفقودين.

وقد كانت "إيفا زوركو- رادولي" رياضية متميزة في رمي الرمح ليس على مستوى رومانيا فحسب بل على المستوى العالمي أيضاً، وقد كانت مصابة بتشوه في العمود الفقري لكنها كانت تثابر على جلسات الرياضة الطبية والمعالجة الفيزيائية. ولنا أن نذكر في هذا المقام أيضاً "روزفلت" الرئيس الأمريكي الأسبق الذي أصيب بشلل الأطفال ومع ذلك حكم أمريكا حقبة من الزمن.

وفي مجال الإعاقة السمعية غالباً ما يشار إلى "بيتهوفن" الذي أخرج خير قطعة في الموسيقى بعد أن وفد عليه الصمم. وفي تراثنا العربي فان الأصم من أهل العلم إثنان: الأول هو "حاتم بن علوان" المتوفى سنة 237 هـ/ 851 م، اشتهر بالورع والزهد والتقشف وكان يقال: حاتم الأصم لقمان هذه الأمة، والثاني هو "محمد بن يعقوب بن يوسف الأموي بالولاء" ولقبه أبو العباس الأصم 247- 346 هـ/ 861-958 م من أهل الحديث، قال ابن الأثير: كان ثقة أميناً.

حتى الإعاقة المزدوجة

وفي مجال الإعاقة المزدوجة السمعية البصرية وينتج عنها إعاقة في النطق والكلام لنا أن نذكر حالتين هما "هيلين كيلر" التي كتبت "قصة حياتي" وهي صماء- بكماء- عمياء من بوسطن و" أولغا سكوركودوفا" التي كتبت كتابها الذي ترجم إلى معظم لغات العالم ومنها لغتنا العربية وهو "كيف أدرك العا لم "مذكرات عمياء- بكماء- صماء من موسكو.

ويمكن أن نذكر حالات في مجالات أخري من الإعاقة مثلاً نبوغ "ديموستين" الإغريقي في الخطابة على الرغم من اضطراب كان لديه في النطق، فقد كان يضع الحصى تحت لسانه ويتدرب على النطق السليم. كما تذكر الأدبيات حالة طفل متخلف عقلياً من فئة البلهاء وهو "جوتفريد ميند" الذي تميز باستعداد لافت للنظر في رسم القطط حتى أنه كان يدعى بـ "روفائيل القطط" ولم يتعلم الكتابة ولا القراءة ولم يتعرف قيم النقود، لكنه أظهر مند طفولته استعداداً متميزاً في الرسم. ومن الطبيعي أنه لا يملك القدرة على كسب عيشه، لكن رب عمل أبيه اهتم به وساعده ووفر الجو المناسب لإظهار موهبته، ولم تقتصر رسومه على القطط بل تعدتها إلى الثعابين والنمور والأرانب. لقد كانت هذه الرسوم منفذة بشكل يماثل الطبيعة وبذا حقق هذا الصبي سمعة عظيمة في أوربا، حتى أن واحدة من لوحاته وهي "القطة" وأبناؤها" قد اقتناها جورج الرابع في إنجلترا.

قوانين الحياة

بعد هذا العرض لكل الحالات المذكورة نتساءل: هل استطاعت هذه الحالات أن تحقق الانجازات المتقدمة بالاعتماد على التفسير الذي يفول به "إدلر" وهو تفسير مستعار من قوانين علم الحياة، يقضي بقدرة الكائن الحي على رد التوازن إلى وظائف أعضائه: إذا قصرعضو منها في أداء وظيفته قام عضو آخر بتعويض ذلك القصور، وهذا التعويض لا يقتصر على ردا التوازن بل يمكن أن ينمو ويعوض تعويضاً خلاقاً ما تم فقدانه أو القصور فيه عبرالأعضاء السليمة!

لاشك أن الأصم يعوض عبر إحساساته السليمة القصور الموجود في حاسة السمع والقصور الموجود في النطق والكلام، لأن هذا الثاني ناتج عن فقدان حاسة السمع او القصور فيها، فهو، أي الأصم، يستخدم البصراستخداما فعالآ في شئون الحياة، ويستخدمه في تلقي المعلومات اللفظية عبر قراءة الشفاه ويستخدمه في تلقي المعلومات الإشارية عبر حركة الأيدي وا لأصا بع، ويستخدم أيضاً حاشمة اللمس في تلمس إلاهتزازات الصوتية الكلامية وغير الكل مية بوضع أصابع اليد على أماكن الاهتزازات على الصدر أوالحنجرة أثناء الكلام. ويعوض الكفيف حاسة البصر باستخدام حاسة السمع، ويتقدم في إحساسه السمعي المرهف، وذلك بسبب استخدامه له، كما يستخدم حاسة اللمس استخداماً فعالاً.

ولنا في فقدان حاستي السمع والبصر معاً مثال رائع لعملية التعويض الحسي، فقد ذكرت "هيلين كيلر" و"أولغا سكوركودوفا" كيف تصبح حاستا اللمس والشم الحاستين المستخدمتين في التعرف على العالم وإدراكه؟. كما تذكر الأدبيات الخا صة بهذا المجال كيف أن بعض الأفراد الذين فقدوا القدر على الحركة في كل من اليدين بسبب شلل أو بتر لهما، استخدموا أصاًبع القدمين في الكتابة والرسم، وبعضهم الآخر من فقد القدرة في كل من اليدين والقدمين، فاستخدموا الأسنان في مسك القلم وأدوا أعمالاً كتابية ورسومات عالية الدقة والروعة.

ماذا نستشف من هذه المعطيات؟ أليست آلية التعويض موجودة عند المعوقين! وإذا أردنا أن نكون معتدلين، نقول إن آلية التعويض موجودة عند بعضهم، ولكن يوجد إلى جانبها الاستعدادات الخاصة- وإذا توافر لبعض منهم الظروف المناسبة والشروط اللازمة لتفتح هذه الاستعدادات عبر الية التعويض يمكن أن تظهر الإنجازات الإبداعية عند بعضهم، فعند المعوقين كما عند العاديين، بينهم من هو متوسط وعادي، ومنهم من هو دون المتوسط، ومنهم المتفوق "بأشكال التفوق المختلفة". وإذا وجد أولئك الذين يظهرون تفوقاً في جانب ما الشروط الأسرية وا لاجتماعية المشجعة، وكانت لديهما القدرة على العمل والمثابرة ظهرت الموهبة وتحققت على شكل إنجازات مختلفة أدبية وعلمية وفنية.

وإذا سلمنا بنظرية التعويض جزئياً أو كلياً، نقول إن استثمار هذا التعويض يمكن أن يأتي من خلال التقليل من معوقات الاتصال عند المعوقين، وتدعيم مفهوم الذات عندهم وتشجيع التعليم الاستقلالي، وتنمية مهارات التفكير المجرد، وفي كل ذلك فإن للوالدين وللمؤسسات ا لاجتماعية والتربوية دورا كبيرا في هذا التشجيع والتقليل من العقبات التي تواجه ظهور إمكاناتهم.

 

غسان أبوفخر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات