البحرين الأرض عريقة والناس رُحَّب محمد المنسي قنديل

البحرين الأرض عريقة والناس رُحَّب

لقد أضافوا للأرض الضيقة شيئا من رحابة نفوسهم فاتسع المدى. مدى في الزمان والمكان. بدأ الزمان دورته عندما تفجرت ينابيع الأرض وتداخل الواقع في الأسطورة. وحول الجهد الإنساني المكان الصغير إلى وطن متنوع قادر على احتواء كل الأحلام. وصمدت البحرين طويلا لتعاقبات الزمن ولكل الذين طمعوا في موقعها المهم وما زالت تواصل تجربتها إلى اليوم بعد أن جفت ينابيع الأرض ولم تجف الينابيع المتدفقة داخل الإنسان.

ليس هناك أفضل من الأسطورة للتعبير عن طبيعة هذه الجزيرة الصغيرة. ذلك السحر الخفي الذي تسلل إلى عروقها الصخرية عبر أحقاب التاريخ "فعندما أرادت الآلهة أن تدمر البشر أرسلت إليهم الطوفان العظيم. ولكن "إنكي" إله الحكمة والمياه العذبة أنقذ رجلا يدعى "زيوسودرا" وذلك عندما علمه كيف يبني الطوف الخشبي الذي كان سببا في نجاته. ثم أرشده إلى أرض الخلود "دلمون" التي لا تعرف الشيخوخة. كانت أرضا قد باركها الإله بعيون المياه العذبة والتعاويذ المباركة:
أرض دلمون مقدسة
أرض دلمون طهور
في دلمون لا ينعب الغراب
ولا يفترس الأسد
لا يشتكي الرجل من الشيخوخة
ولا تصبح المرأة عجوزاً
دع الشمس تأتي بالمياه العذبة
دع ينابيعها تتدفق بالمياه العذبة.
وبعد مضي سنوات طويلة، جاء البطل السومري "جلجامش" بحثا عن الخلود في دلمون، وقابل "زيوسودرا" الذي علمه كيف يغوص في قاع البحر ويقطف الزهرة التي تعيد الشباب. وحصل جلجامش على الزهرة وبينما كان يستعد لرحلة العودة ظهرت الحية من باطن الأرض وانتهزت فرصة نوم جلجامش وسرقت منه الزهرة وأكلتها ومن ثم خلعت جلدها واستعادت شبابها وهكذا حرم الإنسان من الخلود ولكن دلمون لم تحرم من هذه النفحة الباقية .."

كنت أفكر في تفاصيل هذه الأسطورة والطائرة في دورتها الأخيرة استعدادا للهبوط، فقد اكتسبت البحرين بفضل السعي البشري ديمومتها عبر التاريخ، زراعة وغوصا وبناء. ولكن كانت هناك حيةٌ كامنةٌ تهدد باستمرارٍ أن تسرق ثمرة هذا السعي، الطبيعة الضنينة أحيانا. الأطماع الخارجية في أحيانٍ أخرى. والاختلاف داخل البيت في أحيانٍ أخرى.. وأخرى..

في جولتنا الأولى.. وفي ليلتنا الأولى رأيت البحرين كلها. جزر مأهولة وأخرى صخرية، بعضها موهوب للبشر وأخرى للطيور المهاجرة. الحدود متقاربة والبحر يحيط بها مثل قبضة الأرض، لكأنها كف ليدٍ واحدةٍ. الخطوط الغائرة فيها هي تعرجات الشواطئ الصخرية التي تفصل بين جزرها. ولكن ما أشد تنوعها، وما أكثر الألوان التي يمكن أن تجدها في ذلك  الحيز الضيق .

التاريخ قائم

بدايتنا كانت من المحرق، الجزيرة الثانية من حيث المساحة بعد المنامة.. يربطهما معا جسر قديم ويجري العمل الآن لإنشاء جسرٍ آخر أكثر اتساعا. البحرين كلها هي تداخل من الماء والصخر تربط بينهما الجسور. بيوت المحرق القديمة وأسواقها المزدحمة وشوارعها الضيقة، جزيرة أخاذة، مليئة بالعشوائية وأخطاء الإنسان اليومية. التاريخ فيها ما زال صامدا لم تكتسحه جرافات التحديث كما فعلت في معظم مدن الخليج.

لا تحس فيها بتلك الرغبة الدفينة في القطيعة مع الماضي. في البحرين كلها مازال التآلف بين الماضي والحاضر قائما. كل شيءٍ باقٍ على حاله. أما التحديث الذي تم فقد حدث في الأماكن التي لم تكن مأهولةٌ. أو على الأرض التي تم ردمها وانتزاعها من براثن مياه الخليج فمساحة البحرين تتسع كل عامٍ بفضل الأرض التي تضاف إليها. وإذا كان التحديث قد تم في بقية المدن الخليجية بأسلوب الاستئصال، فقد دخل البحرين بلمسةٍ من المواءمة والتآلف، طبقة فوق طبقة، وعصرا يجاور عصرا..

في الجنوب توجد بقايا المليون مقبرةٍ، أكبر وأقدم مقبرة في الخليج وجزيرة العرب. ترقد فيها بقايا الحضارات التي عبرت هذه البقعة من الأرض، أسد سومري مجنح، وخوذة عليها نقوش مقدونية من جيش الإسكندر، ورسوم لطاوويس مزهوة من فارسٍ، وقباءٍ من جلد الغنم كان يؤوي فهرس اسم "شخصية عامة" يحوي "تيمور لنك" تيمور لنك . كلهم صعدوا وحكموا، وحسبوا أن مجدهم سيدوم، والله غالب علي أمره. في هذه المنطقة يقال إنه تم اكتشاف ثلاث مدنٍ ، كل واحدةٍ منها كانت قائمةٌ فوق الأخرى، وكل واحدةٍ منها تنتمي إلى حضارة مختلفةٍ. وبعيدا عن هذه المقبرة تطل علينا قلعة عراد. إنها تتنفس من جديدٍ وهي تتلقى لمسات الترميم. عصر آخر يعود لبحارة عمان عندما كانوا سادة الخليج وكانت سفنهم تصل إلى بلاد الهند والسند. لقد بنوا القلعة عنوانا على حضورهم وسيادتهم. وبعيدا عنها تقوم قلعةٌ أخرى، هي قلعة البحرين، التي بناها البرتغاليون هذه المرة، إنها مرحلة دخول الاستعمار الأوربي لهذه البقعة الحساسة. ومن وسط المحرق تطل علينا مآذن مسجد الخميس، صوت الإسلام الذي لم يخفت منذ أن حمل أبو العلاء الحضرمي"أبو العلاء الحضرمي إنه أقدم ما في البحرين، بني في عهد عمر بن عبدالعزيز" الخليفة عمر بن عبدالعزيز وشاهد صعود الإسلام ومشاكله أيضا، فقد رمم هذا المسجد القرامطة عندما استولوا على هذه المنطقة وأرادوا أن يجعلوها مركز العالم الإسلامي حتى أنهم سطوا على الكعبة المشرفة وسرقوا الحجر الأسود وأقاموا بدلا منها كعبة أخرى.

التاريخ هنا قائم.. ومتجاور ليس على مستوى الأرض، بل على مستوى الإنسان أيضا. في حديثي معهم كنت أسمع أصداء هذا التاريخ، تلك الخبرة التراثية العميقة بتقلبات الدهر والأيام، فإنسان البحرين ليس ابن الأمس أو اليوم.. ولكنه جماعٌ من طبقات الحضارة.

إحساس الخبرة الطويلة يبدو واضحا في منزل الشيخ عيسى الذي كان أول وزير للمعارف، بيت يرتكز في تكوينه الأساسي على العمارة الإسلامية .. الحوش الواسع الذي يمد المنزل بالضوء والشمس، والأيونات المتعاقبة التي تحمل السقف والجدران السميكة التي يصل عرضها إلى متر كامل حتى توفر الرطوبة اللازمة داخل المنزل، وذلك البرج العالي المسمى "بادكير"، ذلك الاختراع المعماري الخليجي لمواجهة أيام الصيف اللاهبة. فهو يوفر لداخل المنزل تيارا دائما من الهواء البارد. ولا بد أن الشيخ عيسى كان يفضل في مجالسه الطويلة أن يجلس تحت هذا البرج ليفصل في القضايا التي ترد إليه، فقد كان هو وزير المعارف الذي أصر على دخول الفتاة البحرينية المدارس العامة، وواجه في سبيل ذلك مقاومة عنيفة من رجال الدين المتزمتين. وكان أيضا أول رئيس للبلدية على أثر أول انتخابات أجريت في البحرين عام 1926.

سفن البوم الراقدة على الشواطئ بعد أن كفت عن الرحيل، كأن البحرين كلها تحمل تاريخها على كاهلها وتنتظر. تسأل الناس في الأسواق والشوارع .. يقولون لك .. الأحوال ليست على ما يرام، هذه الحوادث التي تقع كل يوم وفي أماكن متفرقة أصبحت تثير فزع الإنسان العادي، وهو يخشى أن ينتقل هذا الفزع إلى المؤسسات المالية والتجارية التي وجدت الهدوء والاستقرار في الجزيرة منذ عشرات السنين. إنها بلد مفتوح الصدر، كانت هكذا دائما. والذين يعيشون في منطقة الخليج يدركون أهمية أن تكون هناك بحرين. وبرغم ذلك فعندما كنت أستعد للرحيل كانت الأنباء التي تأتي منها متناقضة، أنباء عن اختيارها كثالث بلد في العالم على مستوى الحرية الاقتصادية بعد هونج كونج وسنغافورة. في الوقت نفسه كانت الأخبار تتناهى عن حوادث الحرائق والتفجيرات والتخريب التي تشوه الشارع البحريني. وكان من الصعب التوفيق بين هذه الأنباء المتضاربة بين الاستقرار المطلوب من أجل التنمية والاستقرار وبين تلك الحالة القلقة التي أصبحت تعيشها الجزيرة هذه الأيام.

لقد حصلت البحرين للعام الثاني على التوالي على المركز الثالث بين أفضل الدول التي تتمتع بالحرية الاقتصادية في العالم. جاء هذا بناء على الدراسة الميدانية التي أجرتها مؤسسة التراث الأمريكية وفق مقاييس محددة طبقت هذا العام على 142 دولة. وتقيس هذه الجمعية الحرية الاقتصادية وفق عوامل عشرة. ويكفي أن تحصل الدولة على تقدير ممتاز لخمسة من هذه العوامل حتى يتم تصنيفها. فالبحرين ليس بها أي نوع من الضرائب على دخل أو أرباح الشركات ولا القيمة المضافة، وهذا مما يشجع المستثمر الأجنبي وخاصة ذلك النوع الذي يهمه أن تكون لديه حرية نقل الأموال دون التعرض لأي اقتطاع ضريبي. وكذلك استطاعت البحرين أن ترسي سياسة نقدية سليمة جعلت للدينار سعرا مستقرا لا يتأثر بالتضخم إلا  في أضيق الحدود.

أيام القلق

ورغم ذلك فإن للبحرين متاعبها الخاصة، رأيت ذلك في آثار الحرائق في العديد من الأماكن التي ذهبنا إليها. إنها حرائق بسيطة بالقياس إلى حالات الشغب التي تحدث في العديد من دول العالم. ولكنها تعبير عن أن الجزيرة قد فقدت جزءا كبيرا من معادلة التوازن التي قامت عليها. محلات محروقة وسيارات تالفة وإطارات محترقة ومحولات كهربائية معطلة. ظواهر غير طبيعية وسط أناس عرفوا بدماثة أخلاقهم.

ما الذي حدث للشارع البحريني الهادئ؟ .. لماذا هذه الظواهر التي تهدد السلام الاجتماعي في جزيرة وضعت صيغتها على هذا الأساس؟ .. حملنا هذه التساؤلات إلى شيخ الصحفيين في البحرين "علي السيار" رئيس تحرير مجلة "صدى الأسبوع" فقال: "مهما كان التقدم الذي أحرزته البحرين فهناك أزمة اقتصادية علينا الاعتراف بها ومواجهتها. إن ما يحدث الآن هو أشبه بالبثور التي تظهر على الجسد السليم عندما يصاب بأي مرض من الأمراض. إننا مرضى بالبطالة. وتباطؤ التنمية، وعدم وجود الاستثمارات الكافية. لقد دفعت البحرين الكثير خلال حرب تحرير الكويت وتأثر اقتصادها بشدة من جراء هذا الأمر. إننا بلد خدمات لذلك فإن الخدمات التي نقدمها سواء كانت مالية أو استثمارية أو سياحية تتأثر كثيرا عندما يتزعزع الأمن في المنطقة. وحتى الآن لم نزل ندفع فاتورة الحرب الباهظة التكاليف وليس أدل على ذلك من ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب البحريني عاما بعد آخر. إن حلنا الوحيد هو المزيد من الاستثمار حتى يمكن استحداث المزيد من الوظائف، ونحن في حاجة إلى إعادة تقييم اقتصادنا الوطني ..".

علي السيار عندما يتكلم لا يبدو عجوزا .. ولكنه يتفجر بالأحلام القومية. لقد كان له دور بارز في صيانة الحركة القومية والاحتفاظ بالشخصية العربية وذلك من خلال الجرائد التي أنشأها وأغلقتها السلطات البريطانية.. "القافلة" ثم "الوطن" .. كان شيخا ناصريا قديما .. شارك في الحركة القومية العربية وما زال يشع بالشباب.

كان وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء والإعلام محمد المطوع أكثر تفاؤلا. وقد قال لنا عندما استقبلنا في مكتبه بالوزارة: "برغم كل ما يقال فإن البحرين بخير، بفضل تكاتف أهلها وبفضل وقوف الأشقاء بجانبها. إننا نمر جميعا بمرحلة متغيرة، فعلى مستوى العالم انهارت كل النظم القديمة ولم تبدأ النظم الجديدة بعد. وهذه الظروف خلقت حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي. والمشكلة أن البحرين لا تملك احتياطيا اقتصاديا يمكنها من مواجهة هذه الظروف المتغيرة.

لقد انتهينا من بناء البنية التحتية كبلد خدمات، وقد أنجزنا ذلك بمستوى تعجز عنه الكثير من بلدان العالم. ولكن هذا الإنجاز يقف في مواجهة التطرف، فبعد انتهاء الحرب الباردة ساد العالم مناخ يبحث عن السلام والاستقرار والتنمية. ولكن هناك أعداء لهذا الأمر هم المتطرفون. إنهم أشبه بالمرض الذي أصاب العديد من بلدان العالم، وهم يحاولون هنا أن يزعزعوا أمن البحرين واستقرارها. والمقصود ليس البحرين ولكن مجلس التعاون الخليجي. وما البحرين إلا الثغرة التي حاولوا التسلل منها. لقد رفض الشعب البحريني دعاوى هؤلاء المتطرفين لذلك فإن الحكومة استطاعت التعامل معهم. وعندما أحسوا أنهم محاصرون مرفوضون حاولوا افتعال هذه الحوادث مثل الحرائق المتفرقة ووضع بعض المتفجرات البدائية ونحن أيضا  نتعامل معهم. إننا إذا لم ننتبه لما يحدث هنا ونحاصره فسوف ينتقل إلى أماكن أخرى من مجلس التعاون، لذلك فإن بقية الأشقاء مدعوون للمساهمة معنا في عودة الاستقرار، ليس أمنيا فقط ولكن على مستوى الاستثمارات أيضا، لأن الاستثمار سوف يحل الكثير من المشاكل الاقتصادية المتفاقمة.."

العيون تجف

هل كان يمكن أن نطرح هموم السياسة جانبا..؟

السياسة بطبيعة الحال تلاحق كل خطوةٍ نقوم بها.. ولكني كنت في شوقٍ لمشاهدة معالم الجزيرة. وخاصة أشهر العيون التي اشتهرت بها، عين عذاري، لم تكن بعيدةٌ. لا شئ في البحرين يبعد عن المشتاق كما يقال. كانت المنطقة التي تحيط بها قد تحولت إلى منتزه رائع ملئ بالورد وأبسطة من الحشائش الخضراء والنخيل. وأماكن للعائلات وألعاب للأطفال. كل شئ مزدهر ملئ بالحياة، ولكن العين نفسها كانت تحتضر، العين التي كانت تتدفق من باطن الأرض حافلة بوعود الخصب والنماء قد تحولت إلى بركةٍ صغيرةٍ من المياه الراكدة، لونها أصبح ضاربا للخضرة من كثرة الطحالب التي نمت في قاعها.

قلت في دهشةٍ: هل هذه حقا عين عذاري؟..

قال مرافقي سامي المطوع: منذ أن ردم البحر حولها وهي تموت.. إنني أتذكرها وهي ممتلئةٌ حتى حافتها بالماء. وأذكر المثل الذي كان يقال عنها إنها تسقي البعيد وتخلي القريب.."

كان علينا أن نرحل معا خلف قطرة الماء العذب التي صنعت الحياة على أرض البحرين. لم تكن عين عذاري فقط هي التي صنعت شهرة البحرين، ولكن عشراتٍ من العيون والآبار. لقد سميت بحرين حيث كان يحيط بها بحرٌ من الماء الأجاج المالح، ويتفجر من بين صخورها بحرٌ من الماء العذب. هذا الماء لا يتفجر على اليابسة فقط ولكنه يتفجر أيضا في قاع الخليج. إنها ينابيع كانت أكثر من مياه الآبار العادية لأنها بعيدة عن الأتربة والتلوث. لقد كان الغواصون في الزمن الماضي يعرفون أماكن هذه الينابيع ويهبطون إليها حاملين القرب الجلدية للتزود بالماء أثناء رحلات الغوص الطويلة.

لقد اختلفت النظريات في مصدر هذه المياه. ولكن أكثر الاحتمالات قربا إلى المنطق هي أنها قادمة من الجزيرة العربية عبر مسارات صخرية دقيقة أشبه بالأنهر الجوفية. وهي تمضي تحت سطح الخليج حتى تتفجر في أرض البحرين. وأيضا لا أحد يعرف على وجه الدقة لماذا نضبت هذه المياه، هل هو انتشار الزراعة على مساحات واسعة في الجزيرة العربية والاستغلال الكبير للمياه الجوفية والآبار الارتوازية، أو السبب هو ردم مساحات واسعة من البحر حول جزر البحرين؟ لقد طمر الردم مسارات هذه الآبار وأصابها بالعقم ومن ضمنها عين عذاري ..

كانت المتنزهات التي تحيط بالعين قد استغني عنها وبدأت ترتوي منذ زمن بالمياه المعالجة. ولكن ماذا عن بقية المزارع التي كانت تعتمد على العيون والآبار .. ماذا عن مصير مزارع النخيل التي كان عددها يبلغ المليون والتي كانت أحد معالم الجزيرة. كنا في جولة طويلة وسط المزارع .. كانت الحقول الخضراء تتراجع أمام المباني. وجذوع النخل السامقة تشكو من  الاحتراق والجفاف .. كم بقي من هذا المليون وما هو مستقبل الزراعة في البحرين .. هل تحولت إلى حسبة خسارة كما يقولون؟.

حملنا كل هذه التساؤلات إلى وزارة الزراعة .. إلى وكيلها صديق العلوي .. لم يكن فقط مسئولا وعاشقا للون الأخضر، ولكنه كان أديبا وقارئا ممتازا ومتابعا لأحدث النتاجات الأدبية. قال: "إننا لم نعد ننظر إلى الزراعة بنفس النظرة التقليدية القديمة. لقد أصبحت التكنولوجيا جزءا أساسيا منها ونحن نعتمد على عنصرين هما التوسع الرأسي وعدم الهدر في استخدام المياه. إن المياه تمثل حقا مشكلة رئيسية للزراعة في البحرين، ليس لقلة وجودها فقط ولكن لسوء استخدامها أيضا. لقد أصبحنا الآن نستخدم الماء المعالجة ولكن مع الأسف فإن القسم الأعظم منها يذهب بددا في مياه الخليج لأننا لا نملك وسيلة نقله إلى المزارع". ولكن هل الزراعة في البحرين هي عملية خاسرة؟ بمعنى أن كلفة إنتاجها هي أعلى بكثير من استيرادها من الخارج خاصة أنها تستهلك مخزون المياه الذي يمكن أن يفيد الأجيال القادمة ..

يقول صديق العلوي: "هذا هو التحدي الذي نواجهه. لأن الزراعة مهمة من أجل سلامة البيئة ومن أجل مساحات للترويح عن النفس وجذب المزيد من الحركة السياحية. وهذه أشياء لا يمكن إخضاعها للكلفة المادية، كما قلت فإن التكنولوجيا هي وسيلتنا للتعويض عن ذلك. على سبيل المثال.. الزراعة داخل الصوب الزراعية الشئ الذي يقلل من استهلاك الماء ويعطي محصولا كبيرا. التوسع في تربية الدواجن ومنتجات الألبان. كل هذا يمكن أن يعطي مردودا يغطي هذه التكلفة.. ".. وماذا عن النخيل في جزيرة المليون نخلة؟ "لقد انخفض هذا الرقم كثيرا حتى بداية السبعينيات. ولكن أصبح هناك اعتقادٌ راسخٌ لدى المواطن البحريني أن النخلة هي من التراث البحريني الذي يجب المحافظة عليه. لذلك أعيد الاهتمام بها وأصبحنا نجدها موجودة في معظم حدائق البيوت.لقد عادت لتصبح سيدة الأشجار مرة أخرى والحكومة لم تعد تتدخل في هذا الأمر فالاهتمام بها تلقائي وينبعث من نفس المواطن. إن آخر تعداد لدينا عن المزارع النشطة أي التي تهتم بزراعة النخيل هو حوالي 400 ألف نخلة. فإذا أضفنا إلى ذلك عدد النخيل الموجودة داخل البيوت فسنصل إلى حوالي 600 ألف نخلة.." ولكن ماذا عن المستقبل وكيف ستواجه البحرين نقص الماء المتزايد.. يقول صديق العلوي.. "لم نعد نعتمد على الزراعة التقليدية. غيرنا أنظمة الري وأصبحنا نعتمد على الري بالتنقيط. أضفنا محاصيل جديدة تصلح لعلف الحيوان حتى نساهم في تنمية الثروة الحيوانية.. توسعنا في إقامة المحميات. وسعنا عمليات التطعيم.. ولكن الحاجة الملحة هي المياه ونحن نعتمد على زيادة طاقتنا من المياه المعالجة بالإضافة إلى موارد الماء التقليدية..".

مأوى للحياة

ومازلنا في سعينا خلف ملامح حماية البيئة في البحرين.. لأن البيئة هنا تعني الحياة بكل صورة من صورها. وقد كانت البحرين توفر الحياة لكل من يلجأ إليها فارا.. أو مهاجرا. قال لنا مرافقنا "إنها جزيرة الحياة" كان يشير بذلك إلى إحدى الجزر الصخرية التي وجدت الطيور فيها مأوى لها من برد أوروبا القارس.

ليس هذا فقط، فعلى الرغم من صغر مساحة البحرين فقد خصصت مكانا آمنا للحياة البرية. قال لنا مرافقنا: سوف نجد ذلك في محمية العرين. ربما كانت واحدة من أصغر المحميات العربية، ولكنها غنيةٌ بأنواع كثيرة من الحيوانات التي كانت على وشك الانقراض.

على باب المحمية كان "مبارك الدوسري" في استقبالنا. الشاب دارس للبيولوجيا ومتحمس لحماية الحياة البرية ليس في البحرين فقط ولكن في كل البلاد العربية. قال وهو يصحبنا في جولة بالسيارة: "لعل البحرين كانت من أولى الدول التي تنبهت للنقص المتزايد الذي أصاب الحياة البرية وأن هناك جهدا يجب أن يبذل من أجل المحافظة عليها. من أجل هذا أقيمت محمية العرين في الفترة من 1976 إلى 1979 في منطقة الرخ جنوب جبل الدخان".

بدأت جولتنا. إنها محمية صغيرة لا تتعدى مساحتها 2×4 كيلومترات ولكنها أصبحت منطقة غنية بمظاهر هذه الحياة. كانت أرضا جرداء ترعى فيها الجمال والماشية الأمر الذي أثر في غطائها النباتي وأصابها بالتلف. ولكن مع فرض الحماية عليها بدأت الأرض تكشف عن أسرارها من جديد فازدهرت البراعم وتكاثفت النباتات ووجدت الزواحف والثدييات والطيور مجالا مناسبا للاستيطان والتكاثر. لقد استزرع حوالي 100 ألف شجرة وحفرت الآبار اللازمة للري واستخدمت شبكات التنقيط وأقيمت البرك الصناعية فارتفع عدد الطيور إلى 15 نوعا وبلغ عدد الطيور المهاجرة 48 نوعا.

ظلت السيارة تخب بنا على طرقات المحمية. والحيوانات تبتعد بعض الشئ ثم تقف لتراقبنا بتراخ وهي تمضغ طعامها. أطلت علينا المها العربية فتذكرت عيني ليلى وسحرها، واشرأب الكبش العربي بقرونه الملتوية، وجرت الحمر الوحشية التي رثاها المعري مبتعدة. قال مبارك: "لقد قسمنا المنطقة إلى حديقة صغيرة ومحمية. الحديقة مفتوحة للزوار أما المحمية فلا يمكن التجول فيها إلا بواسطة سيارة معقمة. إن المحمية تضم حوالي 500 حيوان من 30 نوعا أهمها طبعا هو المها العربية التي كانت توشك على الانقراض ..".

المحمية هي امتداد معاصر للتقاليد العربية. فقد كان للعرب دائما علاقة حميمة مع حيواناتهم الأليفة، الجمل والحصان والغنم والكلب والقط وغزلان الفلا وظباء الوديان. كانت هذه الأشياء هي عونهم على شظف الصحراء وكانوا يدركون أهمية أن يكونوا متآلفين مع البيئة التي يعيشون فيها. ومحمية العرين في هذا الحيز الضيق كانت تحاول تلخيص الصحراء العربية بكل ما فيها من تضاريس. كثبان مليئة بالنبات التي تصلح لرعي الأغنام. مياه آبار محاطة بنباتات القصب لتكاثر الطيور. وأودية تتجمع فيها مياه الأمطار لتشرب منها الزواحف والثدييات. أما في منطقة الأعشاب فتعيش فيها المها العربية التي لا يوجد منها إلا حوالي 600 حيوان في العالم كله.

ملمح من المستقبل

ولكن ماذا عن بحرين المستقبل .. بحرين دون نفط كما يطلق عليها. كنا في طريقنا لزيارة أحد معالم هذا المستقبل. لقد كانت البحرين هي أول بلد خليجي تم فيه اكتشاف النفط عام 1932. وكانت أول بلد نضب فيها هذا النفط أيضا. لذلك فقد بدأت منذ الستينيات في إعداد خطة طموح لمواجهة ظروف ما بعد النفط وذلك عن طريق إنشاء قاعدة صناعية شملت تكرير النفط والبتروكيماويات والألمنيوم وإصلاح السفن. وإلى هذا المشروع بالتحديد كنا نتجه.

التقينا أحمد الرايس مدير العلاقات العامة بالشركة العربية لبناء وتصنيع السفن (أسيري) الذي بادرنا بالقول: "لقد جئتم في مناسبة خاصة جدا. فقد تسلمت (أسيري) الشهادة الرسمية التي تؤكد تأهلها في ضمان الجودة العالمية (إيسو 9552) من قبل هيئة التصنيف العالمية في هولندا. إن أسيري فخورة بأن تكون أول حوض إصلاح سفن عربي يتسلم هذه الشهادة وفي الحقيقة فإنها من أولى شركات إصلاح السفن في العالم التي تحقق هذا الإنجاز .." "إنه تحد جديد قبلته أسيري منذ عام تقريبا عندما قررت نظاما عمليا وتشغيليا كاملا يشمل كل فرد فيها. فقد تلقى 983 عاملا دورات تدريبية في ضمان الجودة. وقد تعاون كل فرد في هذا النظام. ولقد كان التزاما من الشركة بتطوير مستوى أدائها. هذا هو السبب الأول. أما السبب الثاني فهو التزام الشركة تجاه عملائها .."

كنا نتجول وسط مرافق الشركة .. ورش الصيانة الممتدة والرافعات العملاقة والحوض الجاف والأحواض العائمة. كلها أرض جديدة تم ردمها واستخلاصها من الخليج مساحتها 450 ألف متر. وقفنا أمام الحوض الجاف. إنه واحد من أكبر الأحواض الجافة في العالم. كانت تقف فيه ناقلة نفط عملاقة ترفع علم اليونان. وكان العمل يجري بهمة في ترميم غلافها الخارجي. وقال أحمد عبدالله: "إن لدينا القدرة على إصلاح أي عطب في السفينة بدءا من تغيير غطاء الصلب الخارجي حتى تغيير الماكينة نفسها. لقد قمنا بالفعل بفتح ثغرات ضخمة في جدران الناقلات واستخرجنا المحرك بأكمله وأصلحناه ثم أعدنا إغلاق جسم الناقلة من جديد .. ولدينا ورش متخصصة في كل جزء من أجزاء السفينة .."

عمر "أسيري" الآن هو عشرون عاما. وقد بدأ التفكير في هذا المشروع في الستينيات عندما أحست منظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك) بحاجة منطقة الخليج العربي إلى حوض ضخم لصيانة ناقلات النفط العملاقة التي تؤم موانيه لتحميل النفط الخام ومشتقاته وقد شكلت لجنة عليا لدراسة هذا الموضوع.

ولم يكن اختيار البحرين مقرا لهذا المشروع الطموح مجرد مصادفة. فقد أوصي فريق مشترك من الاستشاريين الذي يعملون في هذا المجال في اليابان والمملكة المتحدة بهذا الموقع، لأن البحرين تمثل المكان الأمثل لإقامة الحوض، فهي تتوسط طريقا بحريا سالكا وخاليا من السفن كما أنها مدخل طبيعي للمياه. كذلك تتوافر فيها القوة البشرية المحلية القابلة للتدريب على المهارات الرئيسية اللازمة لصناعة كثيفة العمالة وكذلك التسهيلات الأساسية المعمول بها في البحرين.

لقد أنشئت المرافق الأساسية للشركة والخدمات اللازمة لتنفيذ أعمال التسفين. مثل الأرصفة العملاقة، ومداخل المياه العميقة مع مراعاة ترك مساحة كافية لإنشاء حوض جاف آخر في المستقبل.

ولكن هل أثرت الحروب التي توالت على منطقة الخليج في أعمال الشركة؟ .. يقول أحمد عبدالله: "طبعا .. فعلى العكس مما يعتقد البعض من أن أعمالنا سوف تتزايد مع الحروب وكثرة إصابات السفن. خاصة خلال حرب الناقلات التي نشبت بين العراق وإيران، فإن الأمر كان على العكس من ذلك. فالمنطقة أصبحت خطرة. وتضاعفت كلفة التأمين على الناقلات وبدأت عملية هروب الزبائن بسرعة والبحث عن أماكن أخرى بديلة. لقد عانينا كثيرا خلال هذه السنوات العجاف. إننا نحاول تعويض هذا الكساد الآن. لقد بلغ عدد السفن التي قمنا بإصلاحها في عام 1994 حوالي 94 سفينة، أما في عام 95 فقد ارتفع العدد إلى 112 سفينة، ونحن نسعى هذا العام إلى أن تصل طاقتنا إلى إصلاح 141 سفينة".

وماذا عن العمالة الوطنية في (أسيرى)؟ يواصل أحمد الرايس مدير العلاقات العامة القول: "إن نصف العاملين في الشركة من البحرينيين. ونحن نسعى باستمرار لتدريب الكوادر الوطنية حتى يمكن بحرنة كل العمالة .."

(أسيرى) تمثل أملا في اقتحام المستقبل، وتمثل أملا لتتحول صيغة مجلس التعاون العربي إلى صيغة فعالة تترجم نفسها، فمثل هذه المشاريع هي التي تمثل الإضافة الحقيقية في تطوير المنطقة واستغلال عوائد النفط داخل منطقة الخليج نفسها. ليس هذا فقط.. ولكن مثل هذه المشاريع هي السبيل الوحيد لإعادة الاستقرار إلى جزر البحرين القلقة.

المرأة سر الخلود

فأين إذن يكمن سر الخلود الذي تحدثت عنه أساطير البحرين؟ ..

في عين من الماء العذب، وامرأة مقيمة. الماء مصدر الحياة، والمرأة هي التي حولت الأرض الضيقة إلى وطن رحب، يغيب عنه عشرات الرجال بحثا عن الرزق ثم يعودون إليه. كأنها قد أقامت من جسدها حبلا سريا يصل بينهم وبين الصخر. فهل تغيرت هذه المعادلة على أرض الجزيرة؟ هل جفت الينابيع وتراجع دور المرأة في وقت واحد؟

لقد كانت البحرين من أولى الدول الخليجية التي سمحت بخروج المرأة إلى مجالات التعليم والحياة. لقد كانت المرأة التي زرعت الأرض، والأم التي رعت الأولاد أثناء رحلات الغوص الطويلة، والجدة التي حملت تراث السنين وحكمة الأجيال. فهل تراجع هذا الدور .. كان هذا السؤال الذي حملته معي وطرحته على أكثر من شخصية نسائية في مختلف المجالات .. لماذا تراجع دور المرأة البحرينية وأصبحت تحتل فقط 5 % من قيمة العمل الكلي في البحرين؟ ..

تقول لولوة العوضي أول محامية في البحرين: لقد فقدت المرأة كثيرا من المكاسب التي حصلت عليها ومن المؤسف أن هذا تم بإرادتها. لقد تآلبت عليها قوى اجتماعية ودينية جعلتها تؤمن أن مكانها الطبيعي هو المنزل وأن من حق زوجها أن يتزوج عليها مرة واثنتين وثلاثا بل وفي بعض الأحيان تذهب هي لتخطب له بنفسها. وتضيف الشيخة لولوة الخليفة مديرة جمعية رعاية الطفولة والأمومة بالبحرين: "لقد كان الجيل الماضي أكثر إقداما وانشغالا بقضية إثبات الذات. كنا جميعا نفهم الدين بمعناه الرحب وندرك أن المجتمع لا يمكن أن يقوم على قدم واحدة، أما الآن فكل الانتقادات الدينية تنصب على المرأة مما يجعلها تفقد جرأتها وتفضل التراجع.. لقد عدنا رغما عنا إلى زمن العباءة .." وتقول نادية المسقطي عضوة جمعية نهضة فتاة البحرين: "إن النسبة لم تكن أعلى من هذا كثيرا فالمرأة في البحرين مازالت في حاجة إلى مزيد من البرامج التعليمية والاجتماعية التي تساهم في رفع مستواها وتجعلها أكثر قدرة على المقارنة .." وتطرح الفنانة سمية الخنة رأيا مختلفا فهي تقول: "على العكس من ذلك تماما فأنا أرى أن المرأة تتقدم وتقتحم مجالات لم تكن تستطيع أن تقتحمها في الماضي. إن مهنة التمثيل التي أقوم بها الآن مثلا كانت مرفوضة في المجتمع منذ سنوات سابقة. الآن أنا أعمل في التلفزيون وعل ى المسرح وأتنقل بين بلاد الخليج وزوجي وعائلتي يتفهمون هذا الأمر تماما. ربما كان الذي ساعدني على ذلك هو أن ما أقوم به من أدوار كلها تنبع من تراثنا الخليجي وتناقش قضايا جادة وليس فيها مكان للعري أو للقضايا التافهة ..".

إن رحلة المرأة البحرينية في العمل العام رحلة طويلة. وهناك نماذج من الرائدات اللائي اقتحمن كل المجالات، وللبحرين تجربة رائدة في الشرطة النسائية وفي غيرها من كل مجالات الدولة. تقول المحامية لولوة العوضي عن الدافع الذي جعلها تحترف مهنة المحاماة: "إنه الإحساس بضرورة تطبيق العدل والرغبة في دفع الظلم عن الناس. لقد أحسست بذلك وأنا طفلة صغيرة عندما رأيت ظلما واقعا على امرأة هندية تسكن بجوارنا. لم تكن تستطيع الدفاع عن نفسها لمجرد أنها أجنبية ومتهمة دون أي دليل. لقد رأيت القانون وهو يطبق في بيتنا حين كان خالي يجلس ليحكم بين الناس في خصوماتهم المختلفة. وعندما كبرت ووجدت نفسي في كلية الآداب، لم أتصور أن أبتعد عن القانون وهكذا نقلت أوراقي. أنا خريجة جامعة الكويت، وكان أول عمل لي هو في الشرطة النسائية ولكن لم أطق صرامتها وأحسست أنني لا أستطيع أن أجد فيها نفسي، لذلك تركتها. ولم أجد نفسي أيضا في إدارة الشئون القانونية بالحكومة. كان هدفي هو أن أستقل بنفسي ويكون لي مكتبي الخاص ..".

ولكن هل تقبل المجتمع المحافظ وجود امرأةٍ في هذا العمل. هل اقتنع المتقاضون وهل رضي القضاة.. تواصل لولوة العوضي حديثها: "كانت البداية صعبة، وكنت أجلس وحيدة في مكتبي حتى اضطررت لإغلاقه أكثر من مرةٍ، ولكني صممت حتى اقتنع بي الناس. وكانت المشكلة التي واجهتها بعد ذلك هي نظرات الاستغراب وعدم الاقتناع في نظرات القضاة.. ولقد واجهت ذلك وتغلبت عليه. لقد كنت أول محامية ولكني لم أعد وحيدة فقد أصبح لي زميلات كثيرات كما أن العمل قد فتح أمامي أيضا المجال للعمل التطوعي والخدمة العامة.."

وتحكي الشيخة لولوة الخليفة عن تجربتها في العمل العام وعن دفاعها عن ذلك: "لقد عشت بين الناس ودخلت بيوتهم ورأيت مشاكلهم على الطبيعة. وأدركت مدى الفقر والبؤس الذي علينا أن نواجهه. من أجل هذا لجأت إلى العمل العام لعلي أستطيع أن أخفف شيئا من عبء الناس الذين أنتمي إليهم". هكذا بدأت رحلتها في عام 1952 خمس من بنات آل الخليفة حاولن إقامة أول ناد للسيدات البحرينيات على غرار نادي سيدات القاهرة لأنها كانت جزءا من الاتجاه القومي الذي كان يسود البحرين هذه الأيام. وقد وافق أمير البحرين في ذلك الوقت الشيخ عيسى وإن اشترط ألا يظهر أي اسم من أسماء بنات العائلة. وأن يتركن الصدارة لعمل النساء الأخريات. تواصل الشيخة لولوة حديثها: "لم تستطع الجمعية أن تستمر طويلا إزاء معارضة رجال الدين والمتحفظين على عمل المرأة. ولكني بدأت العمل من طريق آخر وهو المساعدة داخل المستشفيات، فقد كانت البحرين تعاني النقص الشديد في جهاز التمريض، لذلك فقد تطوعت للمساعدة في مستوصف المحرق. ثم نقلت عملي أنا وزميلاتي إلى الأحياء الفقيرة حيث كنا نساهم في رعاية الأطفال وتقديم المساعدات ثم اتفقنا على اللقاء أسبوعيا لإعداد الأطعمة والألبسة وتوزيعها. ومن هذا الاجتماع الأسبوعي ولدت جمعية رعاية الطفولة والأمومة عام 1960 لقد بدأت الجمعية بـ 30 عضوة لا يزال معظمهن موجودات وإن كان العدد قد ارتفع الآن إلى 400 عضوة" كنا نواصل حديثنا مع الشيخة لولوة ونحن نشاهد أنشطة الجمعية على الطبيعة.

كانت رياض الأطفال هي محور الاهتمام الأول للجمعية وقد بدأت كنوع من مساعدة المرأة العاملة ولدى الجمعية الآن رياض فيها ألف طفل. وكذلك ركزت الجمعية على التأهيل المهني فقامت بافتتاح أول مشغل للخياطة في عام 1977 ثم افتتحت معهد الأمل للمعوقين في نفس العام أما أطرف المشروعات التي تبنتها الجمعية فهو صناعة الورق من سعف النخيل. فهي تستغل العناصر المتوافرة في البيئة المحلية كي تصنع منها مجموعة من اللوحات الفنية وهي تقوم بذلك من خلال مركز الحرف اليدوية الذي يضم العديد من أوجه الفنون البحرينية. ولا تتوقف أنشطة الجمعية عند هذا الحد فهي تمتلك مركزا للمعلومات عن المرأة والطفل، وهي تطمح من خلال هذا المركز أن تكون ركيزة للباحثين في كل ما يتعلق بشئون المرأة والطفل في الوطن العربي.

ولا تنتهي رحلة العمل العام في البحرين .. وتحدثنا نادية المسقطي عضوة جمعية نهضة فتاة البحرين وإحدى الرئيسات السابقات لها أن هذه الجمعية هي أقدم جمعيات المرأة ليس في البحرين فقط ولكن في الخليج والجزيرة العربية أيضا. أنشأتها السيدة عائشة يتيم عام 1955 ومازالت الجمعية تقيم مسابقة سنوية باسمها للبحث الاجتماعي. وكان اهتمام الجمعية الأساسي منذ نشأتها هو محو أمية المرأة والدفاع عن حقوقها وتبني قضاياها، لذلك فقد أنشأت فصولا دراسية في مقرها منذ عام 1962 قبل أن تتولى الحكومة هذا الأمر بسنوات. وقدمت منحا للدراسة داخل البحرين وخارجها وطالبت الجمعية بأهمية وجود قانون أسري للبحرين وأقامت لجنة دائمة لعمل قانون للأحوال المدنية وعلى حد تعبير نادية المسقطي "إنه إحدى قضايانا الأساسية أن يكون هناك قانون يحمي المرأة من العنت. إننا ندرك أننا في بلد فيه اختلاف للمذاهب. ونحن نمر بفترة من المد الديني ضد خروج المرأة إلى العمل العام .. ولكننا نحاول بقدر جهودنا تحسين أوضاع المرأة العاملة وتعديل صورتها في وسائل الإعلام وتأكيد حق المرأة في المشاركة في سائر أوجه الحياة العامة اقتصاديا واجتماعيا .."

وللجمعية العديد من المؤسسات التابعة لها، هناك ثلاثة من رياض الأطفال ومركز للحاسب الآلي ومشغل للخياطة، أما المشروع الحلم فهو كما تقول نادية المسقطي: "إنشاء مركز النهضة الأسري الذي سوف يكون مركزا ومأوى يكفل الحماية لكل أنشطة المرأة البحرينية".

وهكذا .. تنتهي رحلتنا في المكان، ولا تنتهي مع البشر الذين يسكنون هذا المكان. ترحل في رحابة نفوسهم إلى أعماق التاريخ وتعود إلى الحاضر معهم فالنفس البشرية أشد ما تكون غنى في البحرين.

 

محمد المنسي قنديل 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات