شعاع من التاريخ
شعاع من التاريخ
مصدق والشاه .. صراع لم يهدأ وليس قتل هؤلاءالضباص الأحرار شيئا في تاريخ إيران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، فقد قتل الشاه ورجاله الألوف من الأبرياء، وزجوا في السجون والمعتقلات بعشرات الألوف ، وحكموا بالتشرد والجوع واحتراف الدعارة على مئات الألوف من النساء، وقذفوا في هوة الضياع والبؤس بملايين من الرجال والنساء والأطفال! ولكن التاريخ لايقف مكتوف الأيدي دائما. فقد تحرك التاريخ بالفعل في إيران وحرك جماهير الشعب المظلومة المهدورة الحرية والكرامة.. تحركت ضد الشاه ونظام حكمه الإقطاعي الخاضع للأحلاف العسكرية وللاحتكارات البترولية وظهر البطل محمد مصدق عضو مجلس النواب الذي تزعم حركة إيقاف منح امتيازات بتروله جديدة مادام الاحتلال قائماً، كما تزعم في المجلس كتلة المؤيدين لمبدأ تأميم البترول بعد خلافه مع الشاه حول هذا الاتجاه، ووجه خطابه لشعب إيران: "إن عائلة بهلوي التي تحكم إيران ليست في الواقع إلا عصابة من القتلة وسفاكي الدماء". واستطاع هذا البطل بقوة الشعب أن يصبح رئيسا لوزراء إيران، برغم الشاه والمستعمرين.. وبدأ على الفور معركة ضد الاحتكار الاستعماري لبترول إيران. تأميم البترول والمؤامرة وفعلها مصدق فأمم شركة البترول البريطانية الإيرانية، ونصب نفسه حارسا لباب عبدان التي طرد منها الإنجليز إلى الأبد، وبقي مصدق الرجل الشرقي الذي ظل عدة سنوات متواصلة رمزا للشرق الأوسط الثائر على الاستعمار، ووثب بالتطور في بلاده إلى التنمية وتطهير الجبهة الداخلية والجيش وتنفيذ مشروع الإصلاح الزراعي، واتجه إلى العمل السريع لإعلان الجمهورية. وحتى نبدأ السيناريو من أوله نعود قليلا إلى الوراء لنقف على النزاع المرير بين مصدق والاسرة الحاكمة، منذ أن كان الإمبراطور رضا بهلوي والد الشاه محمد رضا يجلس على الأريكة الشاهنشانية. كان الإمبراطور السابق قد أمر باعتقال مصدق. وقال الناس إنه كان لمصدق ابنة فقدت عقلها عندما شاهدت أباها محاطا بالحراسة وهو ما لم يستطع مصدق أن ينساه أبدا، كما لم ينس كراهيته للأميرة أشرف شقيقة، وتوأم الشاه التي كانت ورأء ما حدث فأصر على نفيها خارج البلاد. على أن ذلك لم يكن السبب الرئيسي للخلاف الحقيقي بين مصدق والأسرة الحاكمة، بل هناك أسباب وطنية أخرى، أهمها ذلك الهوى الوطني الذي استولى على ضميره فأجرى بضربة حاسمة تأميم البترول وحرم منه بريطانيا المحتكرة له. وبدأ مصدق يبحث عن أسواق لبترول إيران في معركة جديدة حاسمة. وبدأت بريطانيا تضرب نطاقا حول قضية البترول . وبدأ العالم الغربي يجامل بعضه. بعضا. وعندما سافر مصدق لحل مشكلة البترول مع الأمريكيين عاد وهو لايحمل في ركابه إلا الوصف الذي. أطلقوه عليه : "الرجل الوطني سحاح الدموع ".. وهم. يريدون بذلك غمزه بأن المشاكل لاتحل بمجرد الإخلاص والابتهال من أجل الوطن! واعتصم مصدق بوطنيته وبإخلاص الأحرار من أبناء إيران لقضية البترول . لم يكن مصدق قد انتبه إلى أخطر معركة يشنها الاستعمار على الوطنيين في كل أنحاء العالم.. معركة الاقتصاد. فبينما راح يؤمم البترول من أجل رفع دخل الفرد الإيراني، راح الاستعمار يحكم الحصار حتى لاينتعش الشعب الإيراني وبالتالي يوقف حماسه لحكاية التأميم، بالإضافة إلى ما كان يطلقه رجال الشاه وأتباعهم من أبخرة الشك والتشاؤم لتختفي على الفور الأسباب التي من أجلها أحب الشعب مصدق وكره الشاه ! الثورة وهروب الشاه ظل الشاه ومن ورائه حلفاؤه وأذنابهم يتربصون بمصدق ويعملون لخلق جبهة معادية من الإيرانيين غير الشاه والأسرة الحاكمة، وأعلن فتح الجبهة الثانية، بالخلاف بين آية الله كاشاني. ومصدق وكانوا يتوقعون انتصار الجبهة الدينية ولكن الوعي الوطني هزم كاشاني ومصدق. فأسقط في يد الشاه وفي يد الاستعمار. ولم يجد الشاه أمامه إلا أن يبتعد مسافرا مع زوجته إلى المدن الساحلية بعيدا عن العاصمة. وفي يوم 16 أغسطس 1953- وبعد أن قضى مصدق في الحكم 27 شهرا محققا النصر- أعلن الشاه من مكانه الساحلي أنه أقال حكومة مصدق وعين الجنرال زاهدي رئيسا للوزراء. ولكن مصدق لم يعترف بالإقالة. وانطلقت المظاهرات تجوب الشوارع هاتفة بسقوط الشاه وتلقي بتماثيل الملوك السابقين ومنهم رضا بهلوي إلى الأرض. وفي تلك الفترة وصلت الأميرة أشرف شقيقة الشاه سرا تحمل خطة كاملة أعدها الاستعمار لضرب الشعب الإيراني وثورته. وفجأة بعد أيام هرب الشاه من البلاد واتجهت الأنظار في العالم كله إلى الرجل العجوز الذي انتصر بالرغم من كل شيء على الإمبراطور. ولكن لم تمض أيام قليلة أخرى حتى عاد الشاه إلى إيران بعد أن نجح زاهدي في تنفيذ المؤامرة.. وذهب مصدق إلى السجن ! ولم يكن أمام الشاه وزاهدي إلا اتهام مصدق بعدم الامتثال لأوامر الشاه بإقالته.. واقتيد الرجل إلى سـجن "سلطنة أباد" في انتظار يوم المحاكمة. في صبيحة ذلك اليوم أحضر مصدق من سجنه إلى "قاعة المرايا" حيث تدور محاكمته وقد بدت عليه مظاهر الوهن والإعياء. ولكن هذه المظاهر سرعان ما تبخرت في اللحظة التي هب فيها الرجل الحر مستهلا دفاعه عن نفسه لأكثر من ثماني ساعات، وحاول مصدق في دفاعه أن يثبت أنه لم يهزأ بأوامر الشاه بإبعاده عن الوزارة وبرر عدم امتثاله لها بأنها كانت غير دستورية "وأن الطريقة التي وصلني بها مرسوم الإقالة كانت غير قانونية، فقد حمل إلي المرسوم ثلة من الجنود المدججين بالسلاح في وقت متأخر من الليل. وإني أتساءل أيها السادة منذ متى تقدم الأوراق الرسمية بواسطة جنود مسلحين وفي وقت متأخر من الليل؟ لقد كانت الأحكام العرفية في ذلك الوقت معلنة وقد جاءني الجنود بعد ميعاد حظر التجول. وهذأ يؤيد عدم قانونية تسلمي لمرسوم الإبعاد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المحكمة العسكرية التي تمثلونها والتي أمثل أمامها الآن هي نفسها غير قانونية، فقد ألغيت هذا النوع من المحاكم أثناء رئاستي للوزارة وأصدرت قانونا بألا يحاكم المدنيون إلا أمام المحاكم المدنية العادية. وأقولها الآن عالية مدوية، إن الشاه ليس له وفقا لدستور البلاد أن يقيل رئيس الوزراء دون موافقة البرلمان"! ولكن الحكم كان جاهزا.. فسجن حتى نهاية العمر.. ولم يكن مصدق يدري أن يوما آخر سيجيء، تقوم فيه ثورة جديدة، تطيح بالشاه وتطرده إلى مصير لم يكن يعلمه إلا الله..!
|
|