فلسفة المرآة إمام عبدالفتاح إمام

فلسفة المرآة


المؤلف: الدكتور محمود رجب

لهذا الكتاب ثلاث ميزات أساسية يمكن إجمالها فيما يلي:

الميزة الأولى: أنه كتاب فلسفي حتى النخاع!

والميزة الثانية: أنه سهل العبارة سلس الفكرة، تستطيع أن تفهمه دون عنت أو إرهاق.

والميزة الثالثة: أنه يشتمل على مجموعة من اللوحات الفنية, والرسوم التوضيحية تشكل بحد ذاتها ثروة فنية.

أما إنه كتاب فلسفي منقوع في الفلسفة ـ إن صح التعبيرـ فتشهد على ذلك صفحات ا لكتاب من بدايتها إلى نهايتها, منذ المقدمة التي ناقش فيها المؤلف فكرة الكتاب الرئيسية تحت عنوان الفلسفة والمرآة حتى الفصل الأخير. بل ربما قلنا إن الطابع الفلسفي للكتاب ظاهر بوضوح حتى قبل المقدمة, أعني ابتداء من الإهداء الموجزإلى أستاذي الدكتور فؤاد زكريا: الهوية في الاختلاف و هو إهداء يعبر عن مبدأ هيجلي معروف, ويريد به المؤلف أن يتحد مع أستاذه ـ نتيجة للصداقة والتلمذة والحب ـ لكنهما شخصيتان مستقلتان, ومن ثم, مختلفتان ومتمايزتان.

وفي المقدمة يطرح المؤلف سؤالا مهما هو ما هي الموضوعات التي يمكن أن تدرسها الفلسفة، وهل يجوز لها أن تدرس موضوعا بسيطا أو شيئا عاديا ظاهرا في حياتنا اليومية كالمرآة?! ويجيب إن الفكرة الشائعة عن الفلسفة أنها دراسة عقلية جادة لا تتناول سوى موضوعات وحقائق بالغة التجريد. في حين أن المرآة شيء عيني ملموس وليس مجردا, وهكذا نجد أن المرآة وانعكاساتها معا من الأشياء المطروقة الواضحة التي لا تنطوي على أي لغز أو إشكال, فهي إذن ـ حسب التعريف السابق ـ لا تندرج ضمن الموضوعات التي تدرسها الفلسفة, فهل يعني ذلك أن كتاب فلسفة المرآة الموجود بين أيدينا الآن هو عبارة عن دراسة ما لا يمكن دراسته فلسفيا?! يجيب المؤلف الواقع أن الفلسفة كانت تهتم منذ بدايتها الأولى بالأشياء العادية والمعتادة في الحياة, فسقراط كان يبدأ حواره الفلسفي.. مع أناس حرفيين بسطاء كالنجارين, من أجل أن يتوصل عبر تساؤلاته هذه إلى ماهية الفعل الإنساني بصفة عامة.

ثم تزايد الاهتمام بالحياة اليومية في القرن العشرين, بفضل تحليلات الفلاسفة الوجوديين فأصبحت الفلسفة تهتم بأشياء كانت تعد تافهة عديمة القيمة كالجسم, والإدراك الحسي, والضحك, واللعب...إلخ.

وينتهي المؤلف إلى أن الهدف البعيد للفلسفة, من دراسة الحياة اليومية هو فهم الوجود بعامة, والوجود الإنساني بخاصة, وهو يطلق على هذا الفهم اسم الفهم الفلسفي ويقول إنه يتألف من تصورات وأفكار مجردة..وهكذا يكشف المؤلف عن مفارقة من حيث إن الفلسفة عندما تقترب من الحياة العينية, فإنها في اللحظة نفسها, تبتعد عنها, بفهمها التصوري للوجود , وتجاوزها له في آن واحد, ويطبق المؤلف هذه المفارقة بكل وضوح على موضوع المرآةالبسيط العيني المألوف في الحياة اليومية ليتحول مع سير الكتاب إلى أفكار مجردة بالغة العمق. وعلى هذا الأساس يصبح التساؤل بصدد المرآة أمرا ممكنا وليس بغير معنى.

وإذا صح وكان لهذا الموضوع معنى, فهل هو جدير بالدراسة الفلسفية؟ هل يستحق موضوع المرآة كل هذه المعاناة؟ فيتوفر عليه المؤلف ما يقرب من عشر سنوات ويكتب عنه كتابا كبيرا 803 صفحات وينشغل بموضوعات كثيرة هي منه بمنزلة الأفرع؟يجيب المؤلف عن هذه الأسئلة بقوله:

لقد أصبحت الفلسفة تهتم بكل ما هو موجود، مهما بلغت تفاهته. أو قل شأنه في مجالات أخرى غيرها. فلم يعد هناك أمام الفلسفة ما لا يستحق التساؤل والتفكير. فنظرة التلصص من خلال ثقب الباب يتخذها سارتر J.P. Sartre ( 1905 - 1980) موضوعات للتأمل الفلسفي. وعبارة الدجاجة تبيض يتناولها جورج مور ( G. Moore 1873 - 1958 ) بالتحليل الفلسفي .. وأمثلة أخرى كثيرة تزخر بها الفلسفة المعاصرة.

ومعنى ذلك أن ما قد كان ينظر إليه سواء في مجال الأسطورة، أو في المجالات الأخرى التي تأثرت بها، على أنه غير جدير بالاهتمام والتفكير، لم يعد كذلك في مجال الفلسفة المعاصرة، أو على الأقل، في اتجاه بارز من بين اتجاهاتها العديدة التي اهتمت بالأشياء العينية المعتادة في الحياة اليومية. أما كيف تسير هذه الدراسة، وما الذي تسفر عنه؟ فهذا ما يحاول الكتاب كله أن يجيب عنه.

ينقسم الكتاب إلى بابين كبيرين الأول عنوانه "ظاهرة المرآة". والثاني عنوانه "تجربة المرآة". وهكذا يشكل الباب الأول أكثر قليلا من نصف الكتاب، وهو يقع في فصلين الأول بعنوان "المرآة.. أنواع والثاني بعنوان كرم المرآة.

ثم يقوم المؤلف في فصول الكتاب الأولى بتقسيم المرآة الحقيقية إلى طبيعية وصناعية وعلينا أن نسوق كلمة موجزة عنهما:

أولا: المرآة الطبيعية: يستعرض المؤلف ظواهر طبيعية كثيرة سواء على الأرض أو في السماء ينطبق عليها تعريفه السابق للمرآة بأنها سطح يعكس ما يقوم أمامه. ومن هذه الظواهر الطبيعية الكثيرة هناك: القمر, والسحاب, والهواء, والماء.

فقد ارتبط القمر في العالمين القديم والوسيط, بل وحتى القرن السابع عشر, بالمرآة ارتباطا ضروريا من حيث إنه يعكس صور الأشياء على الأرض كما أنه يعكس وجه الإنسان وهو ما أشار إليه المؤرخ اليوناني بلوتارك بقوله الوجه الذي نراه في استدارة القمر ـ فضلا عن أنه يعكس ضوء الشمس..إلخ.

كما ذهب بعض المفكرين القدماء أيضا ومنهم الفيلسوف الرواقي سينكا Senesca إلى تفسير ظهور قوس قزح" في السماء عن طريق ما يطرأ على المرآة من نقص وقصور في أداء وظيفتها . والمرآة هنا هي السحاب الذي يمكن أن نرى فيه عددا من النقاط المضيئة المتمايزة أي مجرة من النجوم المتلألئة.

وإذا كان السحاب والهواء, فضلا عن القمر والنجوم مرايا سماوية, فإن الماء يعتبر مرآة أرضية بل هو أهم المرايا الطبيعية الأرضية فإذا كان صافيا, كما هو الحال في مياه البحيرات, فإنه يعكس كل ما يمر فوقه أو يقع إلى جواره. وهكذا يمكن اعتبار الماء أول مرآة طبيعية في الوجود. وكان أفلاطون أول فيلسوف يتحدث عن مرآة الماء.

وفي الأساطير اليونانية شاعت أسطورة نرسيس Narcissus نرجس ذلك الشاب الجميل الذي تزعم الأسطورة اليونانية أنه افتتن بجمال صورته في الماء فعشقها, وراح يتأملها حتى ذبل جسده وتحول إلى نبات النرجس وأصبحت النرجسية.. Naricissism في علم النفس تعني حب الذات, والأنانية, وافتتان المرء بنفسه.

ثانيا: المرايا الصناعية: يرى المؤلف أن السبب في صناعة المرآة أنه عندما رأى الإنسان انعكاس وجهه مهتزا مع رقرقة مياه النهر أو البحيرة أحس بالحاجة إلى أن يكون هذا الانعكاس دائما لا يجرفه تدفق المياه, ومن هذه الحاجة اخترع الإنسان المرآة وقام بصناعتها. وكان ذلك في مصر القديمة حوالي 0003 ق.م. وهو يقدم لنا صورة لمرآتين برونزيتين من مصر القديمة, للمرآة الأولى مقبض على هيئة فتاة, وللثانية مقبض على هيئة رأس الإلهة حتحور حوالي 0041 ق.م.

وهو يعتقد أن صنع المرايا عند المصري القديم ارتبط ارتباطا مباشرا بالتزين لدى النساء خاصة. لكنه ارتبط أيضا بمعتقداتهم الدينية, فقد ابتدع الإنسان المصري القديم علم التحنيط "مومياء", وأوصى أيضا بأن يحنطوه بعد حياة كان يرجو لها أن تطول. وهكذا ارتبط إيمانه بالخلود, واعتقاده الواثق بأن ملامحه الذاتية ستبقى أبدا. ولكن يؤكد ذلك تصوره أن للإنسان ثلاث صور أو نسخ من الروح ولكل منها وظيفة محددة:

1ـ النفس الأولى تسمى "با" - Ba وهي أشبه بالعصفور الصغير ورأسه صورة مصغرة من ملامح المتوفى.

2ـ النفس الثانية تسمى "كا" - Ka وهي قادرة على التمتع بالطعام والشراب، وهي أقرب إلى "القرين" أو الهادي الروحي.

3ـ النفس الثالثة هي "الأخت" - أو الظل الأبيض أو الجسد الشفاف الذي سيحل محل المومياء إذا ما تعرضت لأي عبث أو سرقة.

كذلك كانت المرآة عند الإغريق إحدى المقتنيات النسائية الأصيلة.. تكشف للمرأة عن سحر جمالها، فصنعت المرايا ذوات القاعدة متفاوتة الأحجام والأشكال.

وكانت رؤية المرأة لنفسها في المرآة تعني أن يسقط وجهها أمامها على سطح المرآة، فتكون في حال من المواجهة للذات، أي تكون وجهاً لوجه مع نفسها. وبالتالي تزدوج حين تصبح - وهي تبحث عن ذاتها - شكلا يشاهد ويلاحظ كما لو كان شكلا آخر غيرها. والحق أنه ما من وسيلة لمعرفة الذات عبر تلك المواجهة غير المرآة، حيث يرى الإنسان نفسه وهو يرى نفسه!

الوعي الذاتي

حدثت نقلة مهمة في القرن السادس عشر مع المرآة المصنوعة من الزجاج. ففي مستهل هذا القرن، وفي فينيسيا (البندقية) بإيطاليا على وجه التحديد، بدأت صناعة المرآة الزجاجية بمعناها المعروف لنا الآن. فكانت هذه هي المرة الأولى التي تمكن فيها الإنسان من أن يرى صورة عن نفسه مطابقة لما يراه الآخرون. وصارت المرايا الزجاجية محلا للإعجاب الشديد، وموضع رغبة في الاقتناء عارمة.

ثم أصبحت المرآة موضوعا أثيرا لدى الفنانين، نجدها على أنحاء شتى في أعمالهم الفنية من نحت وتصوير وحفر على الخشب أو المعدن.

غير أن الملحوظة المهمة هنا هي أن اختراع المرآة الزجاجية في ذلك الوقت كان له تأثير هائل في نمو الشخصية والوعي بالذات. فبدأت العلاقة وثيقة بين المرآة والوعي الذاتي. كتب أحد الباحثين وهو لويس ممفورد L. Mumforda يقول:

كان للمرآة تأثير كبير في نمو الشخصية وتطورها, وأي ضا في مفهوم الذات نفسه. ولم يتحقق هذا التأثير بشكل ظاهر, وعلى نحو جذري إلا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.. ولسنا نغالي إن قلنا إنه مع تطور الوعي الذاتي, والاستبطان, ومحادثة المرآة..ومع الاهتمام الذي أبداه الإنسان بصورته, نشأ الإحساس بالشخصية المستقلة, وإدراك الصفات الموضوعية لهوية الإنسان وذاتيته. لكن الجديد الذي يضيفه ممفورد هو اعتقاده بأن ازدهار فن السيرة الذاتية إنما يرجع إلى ذلك الوقت الذي توصل فيه الإنسان إلى صنع مرايا جديدة.

وكان استخدام المرآة الزجاجية في القرنين السادس عشر والسابع عشر علامة بارزة, في رأي المولف على بداية فن السيرة الذاتية الحديثة, أي من حيث هي صورة للذات بأعماقها وأسرارها, وأبعادها الداخلية.

وفضلا عن ذلك فإن المؤلف يربط بين بداية ظهور السير ة الذاتية, وظهور البدايات الجادة للعلوم التي تدرس العالم الخارجي عالم الطبيعة وهي العلوم التي استعانت بأدوات تقنية مصنوعة كذلك من الزجاج كالميكروسكوب, والتلسكوب , والمرايا.. إلى آخر ذلك, لأن عزل العالم عن الذات في منهج العلوم الطبيعية وعزل الذات عن العالم في منهج السيرة الذاتية, كانا وجهين متكاملين لفاعلية واحدة, هي تجزيء مجموع الخبرة الإنسانية وتحليله إلى عناصره الذرية المختلفة التي يتألف منها لكي يتمكن الإنسان من أن يراها بوضوح وتميز. وهكذا يذهب المؤلف إلى أن كلا من عالم الطبيعة الخارجي كما لاحظه العلم, وعالم الذات الداخلي كما كشفت عنه السيرة الذاتية, لم يدرك إلا من خلال تلك الأدوات التقنية التي صنعت من الزجاج. فقد كان الزجاج أشبه بثقب الباب الذي شاهد منه الإنسان عالما جديدا هو في حقيقة الأمر تنوعات, إما بالتوسيع أو التكبير أو التصغير أوالتقريب..إلخ: أي أن المرآة كانت بالنسبة للإنسان بمنزلة النافذة التي أطل منها على عالم خيالي, قوامه انعكاسات, وخيالات لما يدور من حوله وفي داخله معا.

المرايا المجازية

لقد سبق أن ذكرنا أن المؤلف يقسم المرايا إلى حقيقي ة طبيعية وصناعية ومرايا مجازية تنقسم بدورها إلى ثلاثة أنواع:

1- مرآة تعكس الأشياء كما هي موجودة في الواقع، وذلك نمط يقدم معلومات عن وقائع جغرافية أحيانا وتاريخية أحيانا أخرى، ومن أمثلة ذلك دوائر المعارف التي كانت تؤلف في العصور الوسطى وتحمل عنوان المرآة Speculum مثل مرآة العالم لـ (جون سوان) في القرن الخامس عشر. وفي تراثنا العربي مرآة الزمان (لابن الجوزي) في القرن السادس الهجري وهو ثمانية أجزاء. ومرآة الجنان، وعبرة اليقظان لـ (عفيف الدين النافعي) في القرن الثامن الهجري، وهو من أربعة أجزاء. وبعضها الآخر أقرب إلى الوصف الجغرافي أو الخريطة مثل مرآة الحرمين أو الرحلات الحجازية ... إلخ.

2- مرآة تبين الطريقة التي ينبغي - أو لا ينبغي - أن تكون عليها الأشياء، وهي ترمز إلى تلك الكتب التي تقدم النصائح أو الوصايا، أو النماذج البشرية الصالحة والمثالية، فإن عمل بها القارئ واقتدى بها صلحت نفسه وصفا قلبه، وأصبح مثل هذه النماذج المثالية من البشر والرسل، بل أصبح على الصورة التي خلقه الله عليها. فهي إذن كتب مرايا تعليمية، هدفها تربية النفس، وتهذيبها، وتثقيفها، وذلك بأن تعكس أمامها ليس الواقع، وإنماالمثل الأعلى أو المثال، أو الصورة الإلهية صورة الإنسان الكامل. ومن هذه الكتب مرآة أوغسطين، ومرآة القضاة ومرآة الحكماء ومرآة الأمراء .. إلخ.

3- ويمثل النوع الثالث العديد من الكتب التي تكشف عما سيحدث في المستقبل، سواء بالنسبة إلى الأفراد أو الأمم، في الأعم الأغلب، مع كتب التنجيم نظرا لما تتضمنه من نبوءات بالطالع والمصير، أو ما يعرف بالحظ والبخت.

عاشق المرآة

في اعتقادي أن مؤلف الكتاب يستحق عن جدارة لقب "عاشق المرآة"!. فهو يفسر الحضارة البشرية بأسرها من خلال المرآة: اكتشافها، وتطورها، ودرجة صناعتها ... إلخ.

على الرغم من أن الأحكام العامة مهمة، وهي تدل على نظرة فلسفية شاملة، فإنها قد تحتوي، في بعض الأحيان، على قدر من المبالغة تجعل الحكم يجانبه الصواب إلى حد كبير، وعلى سبيل المثال فالدكتور رجب يجعل من تقدم صناعة المرآة الزجاجية مفتاحا لتفسير تطور العلوم في عصر النهضة، وتقدم فن السيرة الذاتية .. إلخ. ولست أدري لم لا نقول، إن "المفتاح" الحقيقي يتمثل في استرداد الإنسان لوعيه المفقود الذي سيطرت عليه الكنيسة المسيحية ما يقرب من ألف عام!.

ومن هذه الزاوية يظهر سؤال يرتبط ارتباطا وثيقا بالنقطة السابقة هو: لم يكون ما يقوله ممفورد صحيحا من أن اختراع المرآة الزجاجية كان له تأثير "هائل" في نمو الشخصية والوعي بالذات، وأيضا في مفهوم الذات نفسها؟ ولم لا نقول إن مواجهة الإنسان للفكر الكنسي، ومعارضته له نتيجة لعوامل كثيرة منها الكشوف الجغرافية، والرحلات التي قام بها البحارة والمغامرون التي صححت الكثير من المعلومات الجغرافية الخاطئة، التي كانت تأخذ بها الكنيسة طوال العصر الوسيط وهي التي أدت إلى زعزعة ثقة الناس في الكنيسة، كذلك ظهور الطباعة، والنزعة الإنسانية، والهجرة من المشرق .. إلخ وعشرات من العوامل الأخرى التي لا أشك لحظة في معرفة المؤلف بها معرفة جيدة - لم لا تكون هذه العوامل كلها قد تبلورت ومكنت الإنسان من استرداد وعيه المفقود طوال ألف عام. مما أدى بعد ذلك إلى تطوير المرآة؟! أي أن تقدم صناعة المرآة كان نتيجة لا سببا لنمو الشخصية وتطورها؟!

إن المؤلف يطرح في بداية الكتاب سؤالا: هل يمكن للفلسفة أن تدرس شيئا عاديا بسيطا كالمرآة؟ ويجيب إن الفلسفة بدأت تهتم بهذه المسائل في الفلسفة المعاصرة عندما اهتمت بالجسد والضحك واللعب ... إلخ. وفي اعتقادي أنه لا بد من بعض التوضيح:

أ- إن الفلسفة كما قال (هيجل) هي عصرها ملخصا في الفكر، فإذا لم تكن تهتم في حقبة من الحقب بالجسد، فالسبب أن العصر نفسه لم يكن يهتم بهذه الأمور.

ب- إنه إذا كان (سارتر) قد اهتم بنظرة التلصص أو اهتم (مور) بعبارة الدجاجة تبيض فهو ليس اهتماما بهذه الجزئية أو تلك وإنما هي أمثلة لفلسفة شاملة، ونظرة كلية إلى الوجود من ناحية وإلى مفهوم الفلسفة ودورها من ناحية أخرى.

ج- إن الفلسفة لا تدرس أبدا موضوعات عينية، أو حسية، مثل المرآة أو غيرها فهي لا تدرس إلا أفكارا ولا تسير إلا في وسط فكري خالص، والدليل كتاب فلسفة المرآة نفسه، فهو على الرغم من أنه أوحى إلى القارئ أنه سيدرسالمرآة رأيناه يأخذ بيد القارئ شيئا فشيئا ليدخله عالم الأنطولوجيا ببراعة فائقة! أي أنه انتقل من عالم المحسوس إلى اللامحسوس أو التجريد، وهذه هي الفلسفة حقا!.

ويبدي الباحث براعة لا حد لها، وصبرا ومعاناة في تجميع النصوص سواء من التراث الغربي أو الإسلامي، ولا سيما النصوص التي تؤيد وجهة نظره، وهو يستخدمها بتمكن واقتدار، لكنه أحيانا، يؤول النص الواحد تأويلات كثيرة، وربما بعيدة ليدعم بها وجهة نظره.

كنت أتمنى من الدكتور رجب أن يناقش بعض الآراء التي يعرضها لمؤلفين غربيين ولا يسلم بها بصفة مستمرة. لا سيما أنها تحوي مبالغات تستحق المناقشة، مثل موقف "ممفورد" السالف الذكر!.

متفرقات

هناك بعض الاختلافات البسيطة بيني وبين المؤلف، برغم اعترافي بأن هذا الجهد المشكور استغرق من المؤلف ما يقرب من عشر سنوات، مثل:

(1) - هناك مصطلح "الماندالا Mandala" أحد بلاد العجائب والغرائب عند قدماء الصينيين "ص 234" والواقع أن "الماندالا" ليست بلادا ولا عجائب ولا غرائب، وإنما هي طريقة كان يستخدمها نساك الهنود في التأمل والتفكير، ولعلها انتقلت إلى الصين مع انتشار البوذية هناك. وفي ظني أن كلمة "المندل" العامية في لغتنا الدارجة هي تحريف لهذه الكلمة. وهي أيضا طريقة يستخدمها السحرة والمشعوذون في بلادنا لكسب الرزق.

(2) - أخالف المؤلف رأيه في أن المصطلح اليونانيApocryph "أبوكريفا" يحتوي على معارف سرية خفية، والواقع أن المصطلح يعني الأسفار السبعة المحذوفة من العهد القديم (ويرى البعض أنها خمسة عشر أو أربعة عشر سفرا) التي لا يعترف بها البروتستانت ضمن الكتاب المقدس. وقد عدت إلى المراجع التي ذكرها المؤلف فوجدت ما يلي:

(أ) - يتحدث سفر (دانيال) عن أحد الملوك (لعله دارا ملك الفرس) الذي "يتسلط على كنوز الذهب والفضة، وعلى كل نفائس مصر.." 11: 43. وليس هنا استخدام لكلمة Apocryph ولا للتعبير عن الكنوز المخفية كما يقول المؤلف ص 262.

(ب) - أما في إنجيل لوقا فيتحدث المسيح عن العمل الطيب والقلب الصالح الذي يظهر إلى العلن: "وليس أحد يوقد سراجاً، ويغطيه أو يضعه تحت سرير، بل يضعه على منارة لأنه ليس خفياً لا يظهر ولا مكتوما لا يعلم ولا يعلن" لوقا 8: 16 - 17.

(ج) برغم أن المصطلح اليوناني Apokrupha يحمل معنى الخفاء والسرية، فإنه صفة للكتب وليس تعبيرا عن "كنوز مخفية" من الحكمة والمعرفة، وهو بصفة عامة كتب متحولة رفضتها البروتستانتية ابتداء من عصر الإصلاح الديني.

(3) - ثمة قول محفور على حائط معبدأبوللو في (دلفي) هو "أعرف أو تعرف نفسك" ثم اعتنقه سقراط .. إلخ ص 35. الواقع أن هذه العبارة حملت في تاريخ الفلسفة أكثر مما تحتمل، فهي في الأصل تسجيل لحوار دار بين الإله أبوللو والإنسان. كان الإله يقول فيه "أيها الإنسان، أنا الإله أبوللو، الإله الخالق أما أنت فموجود فان، إيها الإنسان، اعرف نفسك!".

والعبارة بهذا الشكل تعني "أيها الإنسان الزم حدودك!" وليست دعوة للبحث والمعرفة على نحو ما فهمت في كثير من الأحيان.

هذه الخلافات لا تقلل من قيمة هذا العمل الفسفي الممتاز الذي لابد أن يطالعه كل مثقف!

 

إمام عبدالفتاح إمام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. محمود رجب