جمال العربية
جمال العربية
أفعال باهتة.. وأخرى تفيض بالحيوية ومنهم من يرى أن أهم ما في الجملة العربية: الاسم والفعل، غير أن الفعل قوتها وسلاحها وعضلها، وقد يكون المعنى رصيناً، وقد تكون الجملة متينة التركيب، لكن يعيبها فعل رخو هزيل. وأن هناك أفعالا باهتة، صفراء الوجوه، فقيرة الدم، شاحبة اللون، وأفعالا تفيض حيوية ودما واحمرارا، قاطعة حادة، مثل السيوف التي شحذتها أيدي الصياقلة. وأن هناك فرقا بين قولك: تقدمت السيارة مسرعة، وقولك: اندفعت تسابق الريح، وقولك: ارتفع صوته في القاعة وقولك: دوّى صوته، وبين قولك: سمعته يذمني فسكت وقولك: سمعته يذمني فسكت عنه، وبين قولك: بحث الأمر وتقصاه وقولك: استجلى غوامضه وخاض عبابه. وبين قولك: أكثر من سؤال الشاهد وقولك: أمطره بالأسئلة. كما يرون أن من أقوى الأفعال العربية وأشدها بأساً ما كان على وزن فعّل وتفعّل ومشتقاتهما إذ إن وقعها على الآذان كوقع البارود الذي تتفجر شحناته، مثال ذلك قولك: ترصدت للرجل وتعقبت خطواته وتقحمت المخاطر وتفهمت الموضوع. وعلى النقيض من هؤلاء، هناك من يعيبون على المتكلم أو الكاتب إفراطه في استخدام الاستعارات والمجازات، دعوة منهم إلى لغة عصرية أساسها البساطة والتحديد والحتمية والحسم، بدلا من الاسترسال وراء ألوان من البلاغة العاطفية والانفعالية، ويرون أن كثيرا من هذه الاستعارات والمجازات ـ التي يستخدمها البعض لتزيين الكلام ـ يمكن الاستغناء عنها من غير إخلال بدقة التعبير واكتمال المعنى. وهم يرون أن من صور العصرية في استخدام العربية أن نقول: عرض للبحث بدلا من عرض على بساط البحث. قاتل بدلا من خاض غمار القتال. دارت المعركة بدلا من حمى وطيس المعركة. انتهت المعركة بدلا من وضعت الحرب أوزارها. تعزيز الثقة بدلا من تعزيز أواصر الثقة. غضب بدلا من صب جام غضبه. أطلقه بدلا من أطلق سراحه. نحن نتحدث بدلا من نحن نتجاذب أطراف الحديث. وهي دعوة تحمل في ثناياها إشارة بالتخلص من كثير مما يسمى بالعبارات المأثورة و"الكليشيهات" المحفوظة والمتوارثة. صفحة من عبقرية اللغة: يقول ابن فارس ـ العالم اللغوي والنحوي الكوفي الشهير، وصاحب المؤلفات المهمة: المجمل في اللغة، والصاحب في فقه اللغة، وسنن العرب في كلامها ـ الهمزة والميم واللام أصلان، الأول: التثبت والانتظار والثاني: الحبْل من الرمل. ومعنى هذا الكلام أن من معاني الأمل: الرجاء والتثبت والانتظار وما استطال من الرمل. جاء في المعجم الكبير: تقول اللغة: أمل الشيء يأمل أمْلاً وأمَلاً: رجاه وترقبه، قال عديّ بن زيد العبادي: خطفته منية فتردى وهو في الملك يأمل التعميرا وقال جرير: إني لآمل منك خيراً عاجلاً والنفس مولعة بحب العاجل وأمل فلانا: رجا عونه. قال كعب بن زهير: وقال كل خليلٍ كنت آملهُ لا ألهينك إني عنك مشغولُ ويروون أن أبا جعفر المنصور قال لمعن بن زائدة وقد طلبه ليوليه اليمن: إني قد أمّلتك لأمرٍ فكيف تكون فيه؟ وقال الفرزدق: تقول أراه واحدا طاح أهلهُ يؤمله في الوارثين الأباعدُ ومن أقوالهم: فلان بحر المؤمِّل، بدر المتأمّل. وتقول اللغة، تأمل: تثبت في الأمر والنظر، قال زهير بن أبي سُلمى: تأمل خليلي هل ترى من ظعائن تحملن بالعلياء من فوق جرثم الظعائن: النساء على الإبل وأحدته ظعينة، ثم أصبح يطلق على المرأة ظعينة. العلياء: اسم موضع وجرثم: ماء لبني أسد موقعه شمالي القصيم في نجد. وقال البارودي: تأمل هل ترى أثراً، فإني أرى الآثار تذهب كالرماد حياة المرء في الدنيا خيال وعاقبة الأمور إلى نفادِ وتقول اللغة: تأمل الشيء: حدق نحوه، ويقال: تأمل فيه: أي تدبره وأعاد النظر فيه مرة بعد أخرى ليتحققه. والأمل: الرجاء. وأكثر مايستعمل فيما يستبعد حصوله. وفي القرآن الكريم: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل" (الحجر: 3). وقال قطري بن الفجاءة: يانفس لايلهينك الأملُ فربما أكذب المنى الأجلُ وقال البارودي: لم يبق لي أمل إلا إليك فلا تقطع رجائي فقد أشفقت من حرجي والإملة: الأمل. يقال: ما أطول إملته: أمله أو تأمله، وإنه لطويل الإملة: التأميل والأميل: قطعة من الرمل تستطيل مسيرة أيام في عرض ميل أو ميلين. وقيل: ماارتفع من الرمل من غير أن يُحد. وفي المثل: قد كان بين الأميلين محل أي قد كان في الأرض متسع. وقال ذو الرمة:ذ وقد مالت الجوزاء حتى كأنها صوارٌ تدلى من أمِلٍ مقابلِ "والصوار: القطيع من البقر" والتأمل: التثبت في الأمر والنظر وفي الفلسفة: إنعام النظر والتفكير في روية. فهو ضرب من التفكير الذي ينصب على المجردات ويجاوز المحسوسات. يقول ابن سينا في الإشارات والتنبيهات: "تأمل كيف لم يحتج لثبوت الأول ووحدانيته إلى تأمل لغير نفس الوجود". جمال العربية في شعر المعاصرين: ووقفتنا ـ في هذه المرة ـ مع نزار قباني، الذي يصدق فيه ماقيل قديما عن المتنبي: "شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس"، ومنذ أصدر مجموعته الشعرية الأولى: "قالت لي السمراء" في عام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين وشعره على كل لسان، بعد أن رأى فيه قراؤه لغة شعرية جديدة أنيقة، وصورا شعرية طازجة، وموقفا من العادات والتقاليد والقيم الراسخة ينادي بالتمرد ويدعو إلى التغيير ويؤمن بالحرية والتحرر. ولم يتوقف نزار قباني ـ طيلة أكثر من نصف قرن ـ عن أن يكون صوت المرأة العربية والهم القومي، مشعلا بشعره الحرائق، وباسطا ظله على أجيال عدة من الشعراء، تتلمذت عليه وخرجت من عباءته. من أجمل قصائد نزار، قصيدة عنوانها: "ترصيع بالذهب على سيف دمشقي" يصور فيها عودته إلى موطنه وبيته القديم في دمشق، بعد طول غربة وابتعاد، محملاً بعواصف الشوق والحنين ـ قبل أن يعود إليها ليوارى في ثراها في شهر مايو الماضي بعد أن توفي بعيدا عنها في لندن ـ وفي القصيدة لغة نزار وفنه وشاعريته، وقدرته الفذة على التصوير والتجسيد، فضلا عن السلاسة والتدفق والسهولة، التي كانت تغري ـ بعض صغار الموهبة من الشعراء ـ بإمكان تقليده ومحاكاته، ولكن هيهات! يقول نزار: أتراها تحبني ميسون؟ أم توهمتُ، والنساء ظنون كم رسولٍ أرسلته لأبيها ذبحته تحت النقاب العيونُ يا ابنه العمّ ـ والهوى أمويُّ ـ كيف أُخفي الهوى وكيف أُبينُ ما وقوفي على الديار، وقلبي كجبيني، قد طرزته الغضونُ لاظباءُ الحمى رددن سلامي والخلاخيل مالهن رنينُ هل مرايا دمشق تعرف وجهي من جديدٍ، أم غيرتني السنونُ يازمانا في "الصالحية" سمحاً أين مني الغوى، وأين الفنونُ؟ ياسريري وياشراشف أمي ياعصافير، ياشذا، ياغصونُ يازواريب حارتي خبئيني بين جفنيكِ، فالزمان ضنينُ واعذريني إذا بدوتُ حزيناً إن وجه المحب وجهٌ حزينُ ثم يقول نزار قباني: ها هي الشام بعد فرقة دهرٍ أنهر سبعةٌ، وحورٌ عينُ النوافير في البيوت كلامٌ والعناقيد سكر مطحونُ والسماء الزرقاء دفتر شعرٍ والحروف التي عليه سنونو هل دمشق ـ كما يقولون ـ كانت حين في الليل فكر الياسمينُ؟ آه ياشام، كيف أشرحُ مابي وأنا فيك دائماً مسكونُ سامحيني، إن لم أكاشفك بالعشقِ فأحلى ما في الهوى التضمينُ نحن أسرى معاً، وفي قفص الحب يعاني السجان والمسجونُ قادم من مدائن الريح وحدي فاحتضني كالطفل يا قاسيونُ احتضني ولاتناقش جنوني ذروة العقل ياحبيبي الجنونُ أهي مجنونة بشوقي إليها هذه الشام أم أنا المجنونُ حامل حبها ثلاثين قرنا فوق ظهري وماهناك معينُ كلما جئتها أرد ديوني للجميلات، حاصرتني الديونُ إن تخلت كل المقادير عني فبعيني حبيبتي أستعينُ كم أعاني في الشعر موتا جميلاً وتعاني من الرياح السفينُ ولون من بلاغة القدماء في طليعة ألوان الجمال التي اهتم بها قديما علماء البلاغة العربية ـ وهم يتناولون تراثنا الشعري بالدراسة والتأمل والتحليل ـ كاشفين عن مواطن الجمال فيه ـ ما أسموه "بالتذييل"، ويقصدون به إطلاق الشاعر للحكمة أو المثل، يختتم به بيته الشعري، فيكون له وقع عميق وصدى قوي في النفس والقلب، كما يكون أسرع إلى تركيز المعنى المطلوب، وأنفذ في إيصاله وتبليغه ويمثلون لهذا "التذييل" بنماذج شتى من تراثنا الشعري: يقول أبوفراس الحمداني: تهون علينا في المعالي نفوسُنا ومن يخطب الحسناء لم يُغلها المهرُ ويقول أبوالطيب المتنبي: وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعدُ بذا قضت الأيام مابين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائدُ وهو القائل أيضا: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لاتشتهي السفنُ وما أيسر أن نتعرف على الحكم التي اختتمت بها الأبيات السابقة ـ والتي أصبحت تسري مسرى الأمثال ـ مما أكسب هذه الأبيات جمالا وروعة، وجعل لختامها وقعا جليلا، ترتاح له الأذن، ويهتز له القلب والعقل. وهناك نموذج طريف ـ لشاعر قديم ـ اختتمت جميع أبياته بهذا "التذييل" البديع الذي يتضمن مثلا أو حكمة، يقول فيها: يحيرني من طرفه لحظاتهُ وهل في الورى من لايحيره السحرُ؟ أرى منه جمرا مضرماً في جوانحي وكلً محب في جوانحه جمرُ لقد عيل في الأحزان صبري كلهُ ومن حالف الأحزان خالفه الصبرُ عشقت ـ وقلبي ضاع في العشق سره ـ وفي أي قلبٍ يجمع العشق والسرُ؟ كما لاحظ البلاغيون القدماء أن بعض الشعراء قد يفتنون في التذييل، فيأتون في البيت الواحد بمثلين أو حكمتين: يقول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ وكل نعيم لامحالة زائلُ ويقول أبوفراس الحمداني: ومن لم يوق الله فهو مضيعٌ ومن لم يعز الله فهو ذليلُ ويقول المتنبي: أعز مكان في الدنا ظهر سابحٍ وخير جليس في الزمان كتابُ ويقول: وكل امرىءٍ يولي الجميل محببٌ وكل مكان ينبت العز طيبُ
|
|