الحب والوراثة غسان حتاحت

الحب والوراثة

يرى الطبيب المهتم بالأمراض الوراثية كثيرا من الحالات التي تختلط فيها المأساة بالمهزلة, وتظهر فيها المفارقات العجيبة.

الأمراض الوراثية, لا شك صعبة التشخيص, صعبة العلاج. فإذا أضفنا إلى ذلك الطبيعة البشرية المعقدة, واختلاف الناس في تفكيرهم وعواطفهم, كانت المحصلة ردود فعل متباينة ستبين الحالات التالية نماذج منها.

أولى تلك الحالات عن زوجين جاءا إلى عيادتي يحملان طفلا مصابا بمرض وراثي تنكسي( أي أنه يتطور نحو الأسوأ مهما بذلنا من جهود).وكان هذان الزوجان ابني عم من الدرجة الأولى. بعد أن فحصت الطفل وشرحت للأهل الحقائق العلمية التي يعرفها الطب عن هذا المرض, بينت لهما أن احتمال تكرر حدوث الحالة نفسها فيما يحدث من حمل هو( 52%) في كل حمل وولادة. وذكرت لهما أننا ننطلق دائما وأبدا من الأسرة القائمة. فلا ننصح أبدا بالتفريق بين الزوجين وإن كان ذلك سيقلل كثيرا من تكرار هذه الحالة. كما ذكرت لهما أن ما يهمنا هو ثلاثة أمور: احتمال التكرار, وشدة العبء الذي يلقيه المرض على كاهل الأهل, ومدة هذا العبء.

وخلال سنة أو يزيد ظل هذان الوالدان يراجعانني في العيادة وحالة الطفل تسوء بالتدريج حتى قضى نحبه.

ومر عامان وجاء الوالدان وهما يحملان طفلا جديدا أثبتت الفحوص أنه مصاب أيضا, وتكررت المأساة, ومات الطفل الجديد.

حتى الآن لم تبدأ القصة التي هي محور الحديث, إذ كان أول فصو لها بعد عام من وفاة الطفل الثاني. فقد جاءني في العيادة الزوجان الأولان يرافقهما شقيق الزوج وشقيقة الزوجة. وذكرا لي أن الأخيرين يريدان أن يتزوجا. مع أن ظل المرض الوراثي الخطير يخيم على أسرتيهما. ومع أنهما شاهدا الطفلين المريضين وعانيا من العبء الشديد المديد.

وقد شرحت لهذين الخطيبين المشاكل التي يتوقع حدوثها واحتمالا ت إنجاب طفل مصاب. ومع أننا ـ نحن المستشارين الوراثيين ـ نعرض الحقائق العلمية دون أن نبدي رأيا خاصا في الإنجاب أو عدمه. إلا أنني في هذه المرة ـ وقد رأيت من مأساة هذه العائلة ما رأيت ـ نصحتهما بعدم الزواج. فقال الشاب:

ـ إنني أحب ابنة عمي ولا طاقة لي على فراقها. ولما قلت له: و ماذا بشأن احتمالات ولادة أطفال مرضى? قال لي: ـ لقد اتفقنا على ألا ننجب أولادا.

لم أملك إلا أن أقول له إن حرية اتخاذ القرار عائدة كليا إلي ه وإلى خطيبته فقط. وليس من حق أحد ـ أيا كان ـ التدخل في ذلك القرار.

وغادروا عيادتي وأنا أتساءل في نفسي, ترى ماذا أقول? هل أقول إن الحب يصنع المعجزات? أم أقول إن من الحب ما قتل?.

أما الحالة الثانية فقد أثارت غيظي الشديد, ليس من أهل الطفل ولكن من الطبيب الذي حولها إلي.

فقد كنت في العيادة عندما دخل غرفة الفحص ثلاثة رجال يبدو ال تجهم على وجوههم ترافقهم امرأة تحمل لفافة. قال لي أحد هؤلاء الرجال: لقد ولد لنا ط فل لديه مرض وراثي وقد توفي هذا الطفل, ونصحنا طبيبنا في حمص أن نأتي إلى مستشفى ال أطفال في دمشق, كي يقوموا بفحص جثة هذا الطفل وتشريحها لمعرفة نوع المرض الوراثي. وقد ذهبنا إلى مستشفى الأطفال فنصحنا الطبيب هناك بالقدوم إليك.

طلبت من الأم أن تضع اللفافة على طاولة الفحص. ونظرت إلى ما تحويه. فإذا فيها طفل جمع بين صفرة الموت وزرقة الجيفة.. وانتفاخ البطن مع تيبس في الأطراف (وهو ما اصطلح على تسميته في سوريا بالصمل الجيفي بينما يطلق عليه في مصر التخشب الرمي, وأرى أن مصطلح التخشب الجيفي ه و الأفضل, مع أن الوقت ليس وقت الكلام على المصطلحات الطبية, ولكن ماذا أفعل وعشقي للغة العربية كبير).

وكانت الروائح النتنة تنبعث من الجثة. فقد مضى على الوفاة يو مان وكان الطقس قائظا شديد الحر, ولو كان الطبيب الذي أرسل إلي هؤلاء الناس أمامي ف ي ذلك الوقت لكانت جثته قد استقرت إلى جانب جثة ذلك الطفل, بعد أن أطبق يدي على عنق ه, إذ لم تجر العادة أن يرسل المستشفى ميتا إلى عيادة طبيب.

ومن المفارقات أن تشخيص مرض ذلك الطفل كان واضحا جليا وقد شر حت للأهل بعض المعلومات عن ذلك المرض. وودعتهم وظللت بعد ذهابهم أحس بالقشعريرة دقا ئق عدة. ومن حسن الحظ أن تلك الحادثة لم تتكرر معي من قبل ولا من بعد. فأنا طبيب أد اوي الأحياء ولم يسبق لي أن داويت ميتا.

وتذكرني هذه الحادثة بقصة ليوسف إدريس بعنوان(أبو الهول) قرأتها منذ سنوات طويلة عندما كنت طالب طب وعل قت في ذاكرتي.

يحكي يوسف إدريس في هذه القصة عن طالب طب في السنة الإعدادية يعود إلى قريته في العطلة الصيفية. ويحضر مأتم أحد الوجهاء. وفي هذا المأتم يجتمع مع الجامعيين في قريته, وبما أنه طالب طب فقد كان زعيم الجامعيين دون منازع.

لكن ممرضا ينافسه على نوال اهتمام الحضور بما يحفظه من أسماء أدوية وأمراض. وهنا لا يجد طالب الطب إلا أن يمسك بدفة الحديث بالكلام على المشرحة وتشريح الأموات وهو موضوع لا يعرف عنه الحضور شيئا, وكذلك طالب الطب, إذ كان كل ما شرحه في السنة الإعدادية ضفادع وأرانب وما أشبه.

ويبدأ طالب الطب برواية الحكايات التي ابتدعها خياله, ولا يكتفي بانتصاره ذاك. بل يقول إنه الآن يتمنى لو وجد ميتا ليشرحه وتكفيه يد أو ساق لأن أصابعه تحن إلى التشريح. وهنا سأله أحد الفلاحين واسمه أبو الهول: ترى كم يساوي ثمن الميت? ورد عليه طالب الطب بثقة: عشرون جنيها. فعاود أبو الهول السؤال: وكم يساوي ثمن اليد? فقال الطالب: جنيهان.

ومرت عدة أيام. وذات ليلة استيقظ طالب الطب على أصوات قرع شديد على الباب, فنزل وفتحه ليجد أبا الهول يحمل على ظهره كيسا كبيرا وضعه أمام طالب الطب قائلا: لقد كنت أسير قرب النهر فرأيت جثة طافية, فاستعرت كيسا ووضعتها فيه وجلبتها إليك كي تقوم بتشريحها, فقد قلت إنك تبحث عن جثة, وأنا أرضى بما تجود به علي.

وطلب طالب الطب من أبي الهول أن يحمل الجثة ويعيدها إلى مكانها وأبو الهول يخفض المبلغ الذي يطلبه حتى قال له: أرضى بثمن يد, اعطني جنيهين, ولما رفض طالب الطب ذلك عندها عرف أبوالهول أنه لا يساوم. فترك الميت وأقسم أنه لن يأخذه.

في تلك اللحظة ظهر والد طالب الطب على السلم وسأل ابنه: ماذا يريد هذا الحرامي? قال أبو الهول: إكراما لوالدك سوف آخذ الميت, ساعدني على حمل الكيس. وحمله ومشى بخطوات متعبة. ثم فجأة التفت إلى طالب الطب وقال له:

ـ بذمتك قلت والا ما قلتش?.

البحث عن التشخيص

أما الحالة الثالثة فهي هزيمة لي لكنني اعتدت الصراحة والصدق مع القارىء ومع نفسي قبل ذلك. فقد جاءني والدان ومعهما طفل عمره عدة سنوات لكن طوله لم يكن يزيد على طول طفل عمره عدة أشهر. وذكرا لي أنهما يريدان تقريرا عن حالة الطفل وأنهما ينويان السفر إلى الولايات المتحدة لفحصه. بعد دراسة حالة الطفل أخذت أراجع الكتب المختصة ووضعت أمامي تشخيصا تفريقياً شمل عشر حالات من أمثال سيلفر وبلوم ودو بويتز وغير ذلك من الأسماء الغريبة. وكتبت التقرير ثم ترجمته إلى الإنجليزية.

عندما عاد الوالدان من أمريكا ذكرا لي أن الأطباء هنالك رجحوا أن التشخيص هو مرض سيكل. وهذا المرض ورد ذكره في الصحفة التالية للمرض العاشر الذي أدخلته في التشخيص التفريقي. فلو كنت قلبت الصفحة لكنت توصلت إلى التشخيص الصحيح. ولكن الله أراد لي أن أعرف قدر نفسي فلا أصاب بعجب أو غرور.

البحث عن أمل

أما الحالة الرابعة, فكانت عن طفل قزم شديد القصر جلبه أهله إلي كي أشخص حالته, ولما سألتهم هل يوجد أحد في العائلة قصير القامة قالوا لي إن كل العائلة رجالا ونساء طوال القامة, فحصت الطفل فتبين لي أن لديه اضطرابا في نمو غضاريف العظام, وذكرت للأهل أن هذه الحالة وراثية تنتقل من الأب أو الأم. وبما أن الوالدين طبيعيان فقد حصلت لدى هذا الطفل نتيجة طفرة.

وهنا سألتني جدة هذا الطفل: كم تتوقع أن يبلغ طول هذا الطفل عندما يكبر, قلت لها: ربما يبلغ طوله النهائي ما بين (115 ـ 125سم). وهنا قالت لي الجدة: إن والد هذا الطفل طوله 120سم. قلت له ا: ولماذا لم تذكري ذلك الأمر وقد سألتك عنه. ردت علي: كنت آمل أن عطيني توقعا أعلى للطول النهائي.

ومع أنني أشعر عادة بالغيظ عندما يكذب علي أهل المريض فإنني في هذه المرة شعرت بالإشفاق على الأهل. فقد كانوا يبحثون عن الأمل ولو كان ذلك عن طريق الكذب.

إن مشكلتنا في الأمراض الوراثية وفي الطب عامة هي أنه لا يكفي البحث عن تشخيص بل لا بد من البحث عن علاج وشفاء. وقبل ذلك كله البحث عن الأمل. وكما يقول الطغرائي في لامية العجم:

أعلل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

 

غسان حتاحت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات