ثقافة الطفل في عصر المعلومات عبدالتواب يوسف

ثقافة الطفل في عصر المعلومات

لم يعط المهتمون بثقافة الطفل اهتماما كافيا بالجانب المعرفي منها. وإنما اجتذبتهم الآداب والفنون وما إليها. لذلك صرنا في حاجة ماسة إلى العلوم والبحث عن سبل توصيلها للأطفال من خلال التكنولوجيا الحديثة.

حين نتحدث عن التعليم في بلادنا ننتقد بشدة مدرسة التلقين التي نسير عليها، ولعل التعبير الصيني الساخر حول هذه القضية يكشف أبعادها، فهم يرون أننا نقوم مع أطفالنا بما يقومون به مع البط البكيني: نحن نزغطهم، معا والأمريكيون يرون أن الكبار يظنون أنفسهم إبريق شاي ويرون أطفالهم أكوابا فارغة، فيروحون يسكبون ما لديهم من شاي فيها.

هل من تناقض ما بين أن نعيش عصر انفجار المعرفة، ورفضنا لأسلوب تلقينها للأطفال؟.. في تقديري أنه ليس هناك أي تناقض، فالذي ننتقده هو أسلوبنا في توصيل المعرفة، وعدم قدرتنا على تحديد المعلومات الأساسية التي لا بد لنا من تقديمها لهم، فضلا عن أننا لا ندربهم على الحصول على المعرفة عن طريق جهودهم الخاصة والذاتية.. بجانب أننا لا نجعلهم يطبقون هذه المعرفة ويستثمرونها عمليا.. كل ما هنالك أن نحشو كتبهم الدراسية ونحشدها بالكثير الذي عليهم أن يستذكروه ويستوعبوه ليختبروا فيه، ومن بعد ذلك ينسوه، وكما تقول الدراسات لميدانية التي أجريت في هذا المجال: ينسى الطلاب ما يزيد على تسعين في المائة من هذه المواد.

هم يحفظون الكثير، عن ظهر قلب، وذ لك يجعلهم يعرفون أقل القليل، بل هم قاصرون عن بلوغ المستوى المطلوب من المعرفة، وما ينبغي لهم أن يعرفوه، ولا يعرفونه على حقيقته.. ومن النادر أن نجد بينهم من يعرف كيف يستخدم الكتب المرجعية، بل لقد أفزعني أن الكثيرين منهم لا يعرفون شيئا عن دوائر المعارف، وإن سمعوا بها فإنهم لا يعرفون كيف يستعملونها.. وهم كذلك لا يعرفون الكثير عن المعاجم، والقواميس والأطالس، وليس من بينهم من يحسن قراءة خريطة لمدينة أو حي ولا خريطة لمحافظته أو بلده أو وطنه العربي، وهناك من لا يفرق بين خطوط الطول وخطوط العرض.

الأمر لا يقف عند هذا، فهم أيضا لا يربطون المعلومات بعضها ببعض، وكثيرون يضعونها في غرف منفصلة، مغلقة، صيانة لها، ومحافظة عليها.. وإذا لم يفعلوا ذلك خلطوا فيما بينها إلى حد عدم التعرف على انتماء موضوع ما بالعلم الخاص به، والأسئلة التي نطرحها عليهم تكشف ذلك بوضوح.

إلى أي علم تنتمي الألوان؟

الرد السريع أنها تتصل بالفنون، ونسبة ضئيلة هى التي تتنبه إلى أنها تتبع علم الضوء والبصريات وهكذا. وفي تقديرنا أن عملية الربط هذه لها أهميتها القصوى، كما أنها تضيف إليهم الكثير..

وهناك مشكلة استدعاء المعلومات في الوقت المناسب لتطبيقها والاستفادة منها، فقد يكون الواحد منهم على علم بالمعلومات، لكنها لا تواتيه بالسرعة المطلوبة، وفي اللحظة التي يحتاج إليها.. وبالتالي نحس أن المعلومة بلا جدوى.. ونشعر بأن صاحبها لم يستوعبها بقدر كاف، ولم يهضمها، ولم تصبح جزاء من نسيج معرفته الشامل.

وقضايا التعليم والمعرفة متنوعة متشعبة، ونحن نجد أنفسنا أمام صعوبات ومشكلات كثيرة إزاءها.. مثلا: هل نعلمهم أن أشياء معينة صحيحة مائة بالمائة؟..

ماذا عن التاريخ، والحدث يقع أمام أعيننا وتختلف الرؤية إليه، هل من سبيل لتأكيد ما وقع منذ آلاف السنين؟

وهناك ألف سبيل وسبيل لتقديم المعرفة للأطفال ويتوقف الأمر على نوعيتها وأسلوب توصيلها إليه، والوسيلة التي نستخدمها.

عندما كنا أطفالا -قبل أكثر من نصف قرن- كان تلاميذ المدارس الصناعية يدرسون مادة، يتعثرون، ونتعثر في نطق اسمها، هي التكنولوجيا.. وكنا نسألهم عنها، ونود لو أن واحدا منهم شرح لنا معنى الكلمة، ولا أظن أنهم كانوا يعرفونه، فما بالكم إذا هم حاولوا أن ينقلوه للآخرين.. وظلت الكلمة طوال مرحلة طفولتنا مستغلقة علينا، وغير مفهومة لنا، وبقدر صعوبة نطقها -يومئذ- كانت صعوبة التعرف عليها، واستيعاب معناها..

ومن المؤكد أنها اليوم ميسورة النطق لأطفالنا، بل هم يستخدمونها في حياتهم اليومية، بسهولة ووعي، والصغار جدا منهم حين تأتيهم لعبة جديدة باهرة، يندهش لها أصدقاؤهم، نجدهم يفسرونها لهم بكلمة واحدة، يقولونها ببساطة شديدة، هي: تكنولوجيا!.. هم يجدون في الكلمة نغمة موسيقية، يترنمون بها، وهي لم تعد ثقيلة على الآذان، كما كانت على أيام طفولتنا.. ولن تعدم أن تجد طفلا في الثامنة أو التاسعة يقول: إن ألمانيا واليابان متقدمتان بفضل التكنولوجيا!

نحن نرفض أن يتخلف أطفالنا عن عصرهم، إنهم لا بد أن يواكبوه، ويلحقوا به، بعد أن فاتنا عصر البخار والكهرباء.. وما عقدته من مقابلات ما بين علماء العرب وعلماء الغرب في كتاب اللقاء الفريد كنت أقول من خلاله إن الفرق بين هؤلاء وأولئك نقطة.. العرب سبقوا، ولحق بهم الغرب، وتفوقوا عليهم، وعلينا أن نلهث، إذ بيننا وبينهم هوة واسعة.. وأطفالنا في سباق مع أطفال العالم، ونحن لن نقبل أن يتفوق عليهم الطفل الإسرائيلي، أو الأمريكي، أو الياباني، أو الألماني، لذلك

-ونحن نسعى للسلام- علينا أن نضع في أيدي أبنائنا سلاح العلم والتكنولوجيا.. وهذه مهمة المجتمع، والأسرة، والمدرسة، وأجهزة الإعلام ووسائل الثقافة.. وتحديث أطفالنا، ووضعهم على طريق التكنولوجيا أمر بالغ الحيوية، وهو هدف لا بد من تحقيقه مهما كان الثمن.

التكنولوجيا كهدف

أما الهدف الثاني، فهو أن نتخذ من التكنولوجيا وسيلة فعالة لتقديم المعرفة والمعلومات، ولا بد من تدريبهم على استخدام الكمبيوتر، واستثمار الإذاعة مسموعة ومرئية، والاستفادة من الفيلم والمسرحية، والفانوس السحري، والشرائح.. إنها وسائل باهرة وجذابة وقادرة على أن تشد الصغير إليها وأن تقدم له المادة بأسلوب ممتع، فتثبت لديه، ولا ينساها أبدا.. أي أن التكنولوجيا هدف في حد ذاتها، ووسيلة لتحقيق أهداف عدة ما من أحد يعترض عليها عمليا حتى الذين يسبونها فوق المنابر من الميكروفون الذي هو تكنولوجيا يساء استخدامها.. وقد يتساءل البعض: أي تكنولوجيا تلك التي تتحدثون عنها في بلد فقير المال، طفل في الريف لا يحصل على مجلة أو صورة ملونة؟! لماذا التكنولوجيا وقد نقلنا الذخيرة خلال حرب أكتوبر بعربات بدائية جرها الجنود أو دفعوها كعربات البطاطا والذرة المشوية.. وانتصرنا؟ لماذا التكنولوجيا ونحن لم نتقدم في أمور الطباعة كثيرا وهناك دول كثيرة كنا نسبقها فأصبحت تفوقنا، ولن نقارن أنفسنا بـ (سنغافورة) أو (بولونيا) في إيطاليا؟ هل الأمر لا يتجاوز موضوعا للإبهار؟! وعدد ممن سافر للخارج وعاد يقدم شيئا كالحواة ؟!

التكنولوجيا -مهما تقدمت- ستظل وسيلة لا أكثر ولا أقل، من أجل الوصول بمادتنا إلى الطفل من خلال عينيه، وأذنيه.. سماعا ورؤية وقراءة.

وتأتينا كتب غاية في التقدم، ولكنها أيضا غاية في ارتفاع سعرها إلى حد لا يتمكن من الإقبال عليها غير الأثرياء.. فما بالنا بالكتاب الإلكتروني، وصفائح الكمبيوتر، والكاسيت، والأفلام.. جنبا إلى جنب الألعاب التعليمية.. ترى هل تقضي كل هذه التكنولوجيا على الكتاب؟!.. الجواب: لا.. سيظل الكتاب سيد أدوات المعرفة وهو أعظم اختراعات البشر.

ولست أنسى ذلك الفيلم البريطاني القصير للأطفال، والذي عرض في مهرجان سينما الأطفال بالقاهرة، وقد أداه ممثل معروف، قدمه وحده، حكى فيه عن التكنولوجيا في حياته منذ أن يفتح عينيه في الصباح إلى أن يغلقهما ليلا لينام.. لقد استيقظ على صوت منبه، وصنع له الفرن الكهربائي الشاي، واستخدم التليفون.. ولم يفته أن يحدثنا عن الماء في الصنبور، والكهرباء في المصابيح وانطلق إلى الاستديو في السيارة، وإن كان كثيرا ما يستخدم مترو الأنفاق.. وفي الاستديو كانت تنتظره الكاميرا، لتلتقط صوره وهو يؤدي دوره، و.. إن التكنولوجيا، والعلم، من رفاقه -كأنفاسه- وذلك على مدى اليوم.. وكنا نشاهد الفيلم مع مجموعة من الأطفال، ولم نتفوه بكلمة انبهارا، بجانب أننا ما كنا نريد أن يتأثروا بآرائنا، غير أن مفاجأة كانت تنتظرنا.. لقد صفق الأطفال بحرارة منقطعة النظير للفيلم، ومنحوه جائزتهم.. مع أنه فيلم علمي، تعليمي، سردي، والممثل يتحدث في مونولوج طويل ظننا أنه قد يكون مملا لهم، وإذا بحبهم للاستطلاع وإقبالهم على المعرفة، يجعلهم ينفعلون إلى حد لم نتوقعه ولم نتصوره.. وكان إتقان التقنية في كل ما يتعلق بالفيلم وراء نجاحه الساحق: موضوعه، السيناريو، التمثيل، الإخراج، التصوير، و..، و..، كان كل ذلك على أعلى مستوى..

تكنولوجيا التعليم

وتتردد عبارة "تكنولوجيا" التعليم على ألسنة التربويين، وقد نبتسم إذا ما سمعنا من أحدهم أن التعليم قد أصبح تكنولوجيا، هو الآخر وهناك محاولات دءوب، فيها إصرار ومثابرة من أجل تقديم كتب المعرفة للأطفال، بشكل جذاب وممتع، وذلك بابتكار إطارات جديدة وفريدة لتسريب المعلومات إلى عقول الصغار.

وقد فاز كتاب "استبيان" بجائزة المجلس العالمي لكتب الأطفال سنة 1994 وهو بالإسبانية، وصدر في كولومبيا للكاتبة: جاريو انيبال نينو والكتاب في 96 صفحة، لمرحلة فوق الثامنة من العمر، ويحاول أن يجيب عن سبعة عشر سؤالا غريبا وطريفا، وقد تكون الإجابة جملة واحدة، أو أغنية من أغاني المهد، أو قصيدة بسيطة، وربما قصة قصيرة.. ويحاول الكتاب أن يؤكد أن الممالك الأربع الطبيعية تعيش في عالم الخيال مع سكانه، ومن بينها قطط، وماشية وبوم، وحصان طائر في جيب فتاة صغيرة وما إلى ذلك.

تبهرنا كتب المعرفة -وهي تحتاج منا إلى دراسة خاصة- بالمحاولات الدءوب لتقديمها في إطارات محببة، بل إن الكتب المدرسية ذاتها قد سارت في هذا الاتجاه ومضت فيه وقطعت شوطا طويلا، ونستطيع أن نقدم قائمة طويلة بعناوين كتب شديدة الجاذبية للأطفال في مجالات الرياضيات، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الأحياء. واستخدم البلاستيك الشفاف في الرسوم التشريحية لجسم الإنسان، وما إلى ذلك. كما أن الألعاب العلمية، التي يتعلم الطفل من خلالها قد غمرت الأسواق، وبعضها تصاحبه أدوات، وأجهزة، ومواد كيميائية من أجل إجراء التجارب. واتسعت الهوايات العلمية إلى حد أنه قد أصبح لها حوانيت خاصة بها، بمعنى أن هواة صيد الأسماك مثلا يجدون لهم فيه ركنا محددا به أدوات الصيد، بكل أنواعها، وعن الأسماك، وعن الصيد، وكل ما يتعلق به. الصيد هنا محور، والكتب تتحدث عن صيد الأسماك في كل دول العالم، وأساليبه، وكمياته وما إلى ذلك والطيران له ركن آخر، يكتظ بأمور الطيور وريشها، وصولا إلى الطائرات ونماذجها -عسكرية كانت أم مدنية-!، وقوائم وببلوجرافيا للكتب التي صدرت عن هذه وتلك، بل والأعمال الأدبية التي كتبت عنها، هم يريدون استثمار هوايات الأطفال، والكشف عنها، وعن مواهبهم، فيقومون بجهد ييسر للآباء تنمية هذه المواهب والهوايات.

متاحف العلوم

وما رأيت مكانا أكثر سحرا من المتاحف العلمية والأطفال أصبحوا يقبلون عليها بقدر ما يقبلون على الملاهي والسيرك، وأكثر، وهي في ذاتها مدارس ومعاهد يتلقى فيها الأطفال المعرفة، والمدن الكبرى في البلاد المتقدمة -وليست العواصم فحسب- تحفل بهذه المتاحف، التي هي في تقديري جزء لا يتجزأ من تكنولوجيا التعليم التي تقتصر في البلاد النامية على بعض الوسائل التعليمية، ولا أكثر من ذلك.

وعودة للكتاب، ومرة أخرى يقع الاختيار على كتاب من أمريكا اللاتينية، مترجم للإنجليزية عن الإسبانية -أيضا- وعنوانه "كم يساوي المليون؟".. وهو يريد أن يجسد هذا الرقم والأرقام الضخمة، وقد حاز مؤلفه ديفيد شوارتز على جائزة اتحاد مكتبات الأطفال.. ونلتقط بعضا من سطور الكتاب لنرى كم هي جذابة مادته.

"المليون واحد، وإلى يمينه ستة أصفار، وهو أعلى من أي عمارة وأي جبل وأبعد من المسافة التي تقطعها الطائرة، وإذا رسمت مليون نجمة تحتاج إلى 76 صفحة كراسة. وإذا وضعنا مليون سمكة صغيرة في حوض فلا بد أن يكون في سعة الاستاد الرياضي، وإذا أردنا أن نعد من واحد إلى مليون يستغرق ذلك منا 23 يوما دون طعام أو شراب! وهكذا

إن كتب المعرفة أصبحت توضع بشكل مبتكر وأيضا بأساليب وأشكال جذابة تغذي الأطفال وتشدهم إليها.

وبعد..

ونحن نرتاد مجال المعرفة كجزء لا يتجزأ من ثقافة طفلنا، ندرك مدى القصور والتقصير في هذا المجال الحيوي، الذي لا يمكن الاعتماد فيه فحسب على المدرسة، هي -بلا شك- لها دورها في ثقافة الأطفال وهو دور يحتاج إلى إيضاح ودراسة، ونعد بالنهوض بهذه المهمة، لكننا هنا اقتصرنا على الأولويات الخاصة بمحوري: المعرفة، والتكنولوجيا، في عصر أصبح ينسب إليهما، ولن يقلل ذلك أبدا حق دور الآداب والفنون، بل إن الإنسانيات تلقي عليهما الضوء من الجانب العلمي، ونحن بهذا الاتجاه نفتح آفاقا جديدة في مجال ثقافة الطفل، نأمل أن يساهم فيه التربويون والمعلمون، فهم لهم خبراتهم وممارساتهم، وما أوردناه هنا دراسة تمهيدية نرجو أن نتبعها بجهود تثري هذا المجال.

 

عبدالتواب يوسف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات