نحن والعام 2000 هل نواصل التقدم للوراء؟

نحن والعام 2000 هل نواصل التقدم للوراء؟

حديث الشهر

منذ متى بدأ التفكير فى المستقبل ؟ أما بالنسبة للعالم فقد تم ذلك فى مرحلة مبكرة من هذا القرن . وأما بالنسبة لنا فما زلنا نواصل مسيرتنا الحثيثة . تقدم ، تقدم ، ولكن إلى الوراء.

رغم كثرة الحديث, في الآونة الأخيرة, عن قدوم العام 2000 وبداية القرن الجديد, فها هي مشاعر الدهشة والتأمل والقلق تنتابنا بعد أن أصبحنا, حقيقة, في الأيام الأولى من عام 2000.

وبديهي أن بداية كل عام تُحدث فينا هذا الشعور من الدهشة كمن يرقب مولوداً جديداً تنسل أيامه وتواريخه من ظلمة الأيام الفائتة, ورغم أن الشهور تعيد نفسها, فإن الأرقام تغادرنا دون رجعة. على أن رقم هذا العام الذي بدأناه بالفعل يأخذنا إلى حالة مضاعفة من الدهشة, لعل مردّها تلك الملابسات الهائلة التي مهّدت لمجيئه, والتي تراوحت بين التنبؤات الأسطورية بنهاية العالم مع قدومه, والاحتفالات الأسطورية بفجر انطلاق جديد في أفق التقدم الإنساني.

وبين أساطير الخوف وأساطير البهجة يبقى أن هذا العام 2000 هو مطلع قرن جديد وبداية ألفية ثالثة في تاريخ البشرية.

وبغض النظر عن المراجعات الحسابية التي ترى العام القادم - وليس الحالي - هو بداية للقرن الجديد والألفية الثالثة, فإن ما شاع من حساب حول العام 2000, والذي ربما تكرّس عالمياً بإلحاح منشدي أساطير النهاية أو أساطير احتفالات البداية, هو الباعث على الدهشة الكبيرة في واقع الأمر.

والدهشة, كما يقولون, بداية الحكمة, أو هكذا نتمنى.

فأمور العالم في هذا المفترق الزماني الجديد في حاجة إلى بعض - أو قل إلى كثير - من الحكمة, وأمورنا, نحن العرب, في أمس الحاجة إلى كل الحكمة المختزنة لدى البشر.

وهذه المطبوعة (العربي) - التي جاءت كهدية ثقافية من الضمير الحضاري للكويت لأمتها العربية (من المحيط إلى المحيط, ومن الرمل إلى الرمل) منذ أكثر من أربعة عقود - هي أيضاً في حاجة إلى نشدان بعض الحكمة.

وفي كل ما سلف يبرز السؤال: وماذا تكون طبيعة هذه الحكمة المطلوبة والمنشودة والمرتجاة?, وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال, دعونا نعد - ولو قليلاً - إلى شذرات من زمن القرن الماضي, إلى عقد الستينيات, ونتأملها, فقد نجد فيها إجابة من خلال ما هو كائن, وما ينبغي أن يكون.

كيف يفكرون في المستقبل?

كان القرن العشرون بوتيرة قفزاته العلمية والتقنية, وخاصة في النصف الثاني منه, هو مجرد إرهاصة كبرى للقرن الذي أصبحنا فيه الآن, بل كان ممراً طويلاً للخروج إلى فضاء العام 2000, وفيما كنا نحن أبناء العالم الثالث (كما يطلقون علينا حتى الآن رغم زوال أحد العالمين) مشغولين بمعايشة ذلك القرن أو بمخاصمته, كان هناك شيء آخر يدور في العالمين الأول والثاني على السواء, اسمه الانشغال بالمستقبل, وقد بلغ هذا الانشغال درجة من الجدية المذهلة, وكان هدفهما هو عام 2000, وكان انشغالهما مبكراً جداً, بينما نحن لا ندري عن ذلك شيئاً أو لا نريد أن ندري.

في أواسط الستينيات, أو بالتحديد في العام 1965م, بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية سيرة بحثية جادة لتحديد (المشكلات المستقبلية التي ستواجه المجتمع (الأمريكي بطبيعة الحال) في السنوات الثلاثين القادمة), وتشكلت هيئة بحثية تضم 38 خبيراً من الجامعات ومراكز البحث العلمي ومؤسسات الدولة تحت قيادة عالم المستقبليات (دانييل بل), وأطلق على برنامج عمل هذه الهيئة البحثية اسم (مهمة إلى العام 2000).

وللوقوف على جديّة هذه (المهمة) يمكننا أن نتأمل حجم بعض الشخصيات المشاركة فيها, وطبيعة تخصصاتهم وخبراتهم, فمنهم: (هارفي بروكس) من جامعة هارفارد رئيس المجلس القومي للعلوم, و (زبيجينيو بريزينسكي) مستشار مجلس الأمن القومي في رئاسة كارتر, و (هيدلي دونوفان) رئيس تحرير مجلة (تايم) و(إريك أريكسون) أستاذ التحليل النفسي, و (روبرت فانو) رئيس مختبرات علوم الكمبيوتر, و (صامويل هنتنجتون) المفكر والإستراتيجي الشهير, و(فريد آكلي) نائب وزير الدفاع في رئاسة رونالد ريجان, و (هيرمان كاهان) المنظّر في مجال الحرب النووية, و (فاسيلي ليونتيف) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد, و(إرنست ماير) أستاذ البيولوجيا بجامعة هارفرد, و (دانييل مونيهان) نائب نيويورك, و (إمانويل بايور) كبير علماء شركة IBM, و (روجر ريفيللي) عالم المحيطات, و (ديفيد ريزمان) عميد كلية الحقوق بجامعة هارفرد في إدارة الرئيس كارتر, و (روبرت وود) وزير الإسكان والتنمية الحضرية في فترة الرئيس جونسون.

وعبر مجموعة الأبحاث والمناقشات التي أنجزها وأجراها فريق (المهمة) هذه تم استخلاص النتيجة القائلة إن المجتمع الأمريكي (لم يُعدّ إعداداً جيداً لتفهّم المستقبل), وكتب دانييل بل يقول (المستقبل ليس قوساً سماوياً يتخطى المسافات, وإنما هو جسر يبدأ من الحاضر, من القرارات التي نتخذها الآن, ومن الطريقة التي نصمم بها بيئتنا, ومن ثم نترسّم عبرها خطوط المستقبل).

ولقد عكف فريق (المهمة 2000) على النقاش والبحث وبلورة النتائج في (37) مقالاً بحثياً وزعت على ثلاثة آلاف من أصحاب الرأي والخبرة في الجامعات ومؤسسات الدولة والشركات الكبرى, ثم نشرت مجموعة مختارة من هذه البحوث في سبتمبر عام 1967م في مجلة الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون تحت عنوان (باتجاه سنة 2000 عمل قابل للتطوير).

ومن هذا العمل المنشور, يمكننا أن نتوقف عند ملامح لرؤى مستقبلية ثبت تحققها فيما بعد, وهي مرشحة لمزيد من التحقق, ومنها على سبيل المثال: (أن الإنجازات التقنية الأعظم ستكون في مجالي الكمبيوتر والهندسة الطبية الحيوية, ولسوف تتسع شبكة المتعاملين مع المعلومات عبر وصلات إلى البيوت والمكاتب تزوّد مستخدميها بالمعلومات تبعاً لمتطلباتهم, وعبر هذه الوصلات, سيتمكن الناس من إنجاز مشترياتهم ودفع فواتير الحساب, أما العمل الطبي الحيوي في مجال نقل الأعضاء وتحسين المورثّات والوقاية من الأمراض, فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة نسبة كبار السن بين السكان).

كانت تلك الرؤية المستقبلية تسبق مجيء العام 2000 بأكثر من ثلاثين عاماً! وهي لم تتوقف عند التبشير بثمار التقدم العلمي والتقني المنتظر, بل تجاوزت ذلك إلى التحذير من الآثار السلبية لحراك المجتمع المستقبلي, مجتمع (ما بعد عصر الصناعة)حيث (تتزايد البطالة وتنغلق سلسلة التراتب الوظيفي, مما يخلق بيروقراطية جديدة, وتشحب الروابط العائلية, وتتفاقم الصراعات الاجتماعية والسياسية نتيجة لإلحاح الجمهور العام على النتائج الملموسة, وسوف تكون هناك حاجة ماسة إلى تجديد النظام التعليمي).

كان ذلك في الغرب, منذ أكثر من ثلاثين عاماً مضت, فأين نحن - أبناء العالم الثالث - من الرؤية المستقبلية لصورة الحياة ومجرياتها وتحديّاتها في القرن الجديد, في العام 2000, وقد أصبح واقعاً زمانياً ويحمـل أيامنا القادمة?

ونحن كيف نفكر?

إن مشهد واقعنا العربي الآن في العام 2000 يكشف لنا عمق فشلنا وتخلّفنا, فنحن لم ننجز مشروعنا الوطني والقومي في التنمية والاستقلال والديمقراطية, وإذا ما قارّنا واقعنا الحالي بالعالم (المتوافق) مع القرن الجديد - نتيجة جهد مبذول ورؤى مستبقة - يبدو هذا الواقع كالمتجه إلى المستقبل يحث السير إلى الوراء!

إننا نبدو أشبه بذلك الشخص الذي وقع فجأة على واحد من تلك الممرات المتحركة إلكترونياً, كالموجودة في المطارات, وبدلاً من التحرك مع اتجاه سير الممر أو حتى التشبث بالمكان ليحمله, وإن بسرعة أبطأ, بدلاً من ذلك نراه يهرول مذهولاً في الاتجاه العكسي لسير الممر, في اتجاه الماضي والتقليدي والمهجور في كثير من أمور العقل والمعاش, وكأننا مصابون بصدمة ارتجت لها أدمغتنا, فأمسينا نسير نياماً في اللااتجاه.

لقد فرضنا علينا - وربما نكون قد فرضنا على أنفسنا - أن نستهلك أدوات القرن الواحد والعشرين - كما استهلكنا أدوات القرن السابق أيضاً - الأدوات التي لا نصنعها, حتى نعايش أو بالأدق (نلامس) زماننا, وأن ندفع في ذلك ثمناً باهظاً, مادياً ومعنوياً, والمخرج الوحيد لنا أن نهز أدمغتنا لنستفيق ونسائل أنفسنا: ماذا نريد?

ولابد أن نواجه أنفسنا بشكل نقدي صارم, لابد من نقد أنفسنا في لحظتنا الراهنة, وفي إطار رؤى مستقبلية, ولابد أن نشجع على الاشتغال عليها وتعزيز حضورها في نشاطنا البحثي والتعليمي والعلمي والثقافي منذ اللحظة التي نحن فيها, وألا نجلس نندب حظنا العاثر وزماننا الضائع, فلايزال في الوقت بقية, وإلا فسنظل نعدو على ممر القرن الحادي والعشرين والمتحرك... إلى الوراء.

الرؤية المستقبلية, والنزوع النقدي ضرورتان للعيش في زماننا الذي نرنو إليه, وإلا أصابنا الجمود ومن ثم الذبول والموت, لابد من روح المستقبلية ونقد الحاضر, وكشف عيوبه في كل مساعينا في الحياة, فالمستقبلية هي تحسّب للقريب القادم مفيد ومغن لكل ممارسة, والنقدية طموح للأفضل وعدم القناعة والاكتفاء بالحاضر. من هنا من ضرورة أن يعمل كل منا في موقعه وبأقصى ما يستطيع متجهين إلى المستقبل, أوجّه دعوتي الملحة لكل كتّاب (العربي) طالباً منهم أن يسود خلال كل المعالجات المقبلة في هذه المطبوعة الرؤية النقدية والمستقبلية, ولنكشف للمواطن العربي كل مكامن قصوره وعناصر جمود واقعه, ونسلك به طريق التقدم والرقي والنهضة. إن شهوراً عدة مضت في نقاش واسع داخل أسرة تحرير (العربي), وفي إطار واسع من أصدقائها من أصحاب الفكر والفن, تناولنا فيه أوجه تعزيز ذلك التوجه الذي نصبو إليه, للوصول بها إلى أن تصبح بحق واقتدار مجلة (تشبه زمانها) من حيث الشكل والمضمون, وهذا ما ستلاحظه - قارئنا العزيز - وقد بدأت ملامحها تتبلور في هذا العدد الذي بين يديك من تجديد في القديم وإضافة من جديد. أرجو أن نكون قد بدأنا مرحلة أخرى من مراحل (العربي) لنواكب الجديد في عصرنا وزماننا, ونقدم مساهمة متواضعة, ولكنها أصيلة, في مسيرة وطننا وأمتنا, وستكون - قارئنا العزيز -مساهماً في إبداء الرأي والتوجيه.

 

سليمان العسكري