جمال العربية فاروق شوشة
جمال العربية
يا هند في مستهل الخمسينيات سمعت بهذا الشاعر لأول مرة. كنا نطلب العلم في الجامعة، ونهتم بدراسة الأدب العربي وتذوق الشعر العربي، وكان بيننا كوكبة من الطلبة-الشرقيين -كما كان يطلق عليهم، قادمين من الأردن، وكان أكثرهم لفتا للانتباه وجذبا للأسماع وتأثيرا في العقل والوجدان الطالب القادم من "السلط" أو من "الصلت" كما يكتبها البعض: خالد أحمد عبدالله الساكت، وكانت مواهبه الأدبية المبكرة، وثقافته الواسعة، وحسه الجمالي المرهف تؤهله لأن يكون ذا دور بارز في الحياة الأدبية والقافية لبلاده. وقد كان. فهو اليوم أديب وشاعر وناقد كبير فضلا عن دوره التعليمي والتربوي العميق التأثير في الأردن. يومها، كان خالد الساكت ينشدها شعر "عرار"، وعرار هو اللقب الذي غلب على شاعر الأردن مصطفى وهبي التل الذي عاش بين عامي 1899 1949، وقد اختار هو لقبه الشعري المستعار من قول الشاعر عمرو بن شاس الأسدي في ابنه عرار:
كما كان يحمل معه الطبعة الأولى التي صدرت من ديوان "عرار" الذي سماه: "عشيات وادي اليابس"، نسبة إلى واد غزير الحياة في شمال مدينة عجلوان، كان يقطنه النور أي الغجر، وقد نسب الشاعر ديوانه إلى ذاك الوادي-كما يقول في شعره- تبركا به وبسكانه، يقول عرار:
وكنا نحن-من بين أصدقاء الساكت ورفاقه- نلتفت من حوله، ينشدنا بإلقائه المتميز مختارات من شعر عرار، فتدهشنا جرأته وانطلاقه وجموحه، وخروجه على ما نسميه وقتها بالتقاليد والمحظورات في الدين والعرف والقيم والسلوك الاجتماعي، لكنها جرأة تفتننا وتستثيرنا وتحفزنا إلى تطلب المزيد، وكان يحدثنا عن صداقة الشاعر لزعيم الغجر المسمى الهبر وعشقه لإحدى بناتهم، وإيثاره الحياة بينهم في مضاربهم وبواديهم عن الحياة في مدن الأردن: عمان أو السلط أو إربد أو غيرها، وكيف كانت بينه وبين الملك عبدالله - ملك الأردن - صداقة حميمة وإعجاب شديد من الملك بشاعريته، تتخللها فترات غضب وقطيعة تصل إلى درجة سجن الشاعر ونفيه إلى أبعد مكان من الأردن، حين يتعرض الشاعر في إطار سخريته المريرة ونقده اللاذع وجرأته التي لا حدود لها لانتقاد أوضاع سياسية وقومية، مما كان يغضب صديقه الملك المعجب به، ويدفعه دفعا إلى عقابه وكأنه يحميه من سلاطة لسانه ويبقي عليه بعيدا عمن يودون الفتك به والتخلص منه. وبهذا الموقف الوجودي الفوضوي، الحريص على ممارسة الحرية الشخصية والانطلاق الجامح إلى أبعد الحدود دخل الشاعر وشعره إلى وجدان جميع أبناء وطنه - في الأردن - وفي أماكن شتى من العالم الشعري، وأصبحت قصائده الساخرة ومقطوعاته الخارجة على الأعراف والقوانين بمنزلة المنشورات السرية التي يتداولها الناس خلسة وكنا نحن - طلاب الجامعة وشداة العلم والأدب - نتخاطفها ونتناشدها ونحفظها ونولع بها ولعا شديدا، لما تجيش به من روح ثورية، وحس نضالي، وموقف شعري معارض، وكسر لرتابة السائد والمألوف. وحين قدم الأديب والناقد الأردني الدكتور محمود السمرة للطبعة الثانية من ديوان "عشيات وادي اليابس" التي صدرت في عام 1973 م، بعد نفاد طبعته الأولى التي صدرت في عام 1949 بمقدمة للأستاذ محمود المطلق - أعاد إلى الذاكرة من جديد حضورا متجددا ومستمرا لشاعرية "عرار"، ولدوره البارز والمستكن في ذاكرة الشعر الأردني منذ ثلاثينيات القرن حتى الآن، وكثيرا ما نجد التماعات من نفسه الشعري، وطريقته في التصوير، وسخريته ومجانته، وكسره للرتابة الشعرية، متناثرة في شعر بعض الشعراء المعاصرين الذين لم يفلتوا من تأثيره وجاذبية إشعاعه ونفاذه إلى وجدانهم ومخزونهم الشعري. وفي شعر عرار كما في شعر كثير من شعراء عصره ومجايليه - وقد كان هو أعلاهم صوتا وشأوا في الأردن - نجد تلك الروح الرومانسية الجامحة، المولعة بالثورة والتمرد والانطلاق وهي تتململ في أسر النسيج الشعري الكلاسيكي وصرامة بنيانه وتماسك صيغته، وقد كان عرار شاعر الأردن - دون منازع - في وقت سطوع نجم الشاعرين الفلسطينيين إبراهيم طوقان وعبدالرحيم محمود، ومن حولهم شعراء الوطن العربي الكبير: الزهاوي والرصافي والجواهري في العراق وبدوي الجبل وعمر أبوريشة وشفيق جبري في سوريا وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) في لبنان، وخليل مطران (شاعر القطرين) وعلي الجارم وعباس محمود العقاد والمازني وشكري ومن بعدهم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل في مصر، ولا بد أن أنفاس التجديد والحداثة الشعرية كانت تراوحه وهو يتابع - عن بعد وعن قرب - ما يصل إليه في حركته الدائبة من دواوين هؤلاء الشعراء، ومن قصائدهم - حتى من كان منهم بعيدا عن متناوله كأبي القاسم الشابي في تونس، ذلك أن كثيرا من قصائده تنحو منحى قصائد الوجدانيين والأبوللونيين - نسبة إلى جماعتي الوجدان وأبوللو - في التشكيل والمعجم الشعريين وفي الموقف الشعري والأداة. وكثير من هذه الكثرة من قصائده تنتسب إلى ما يسمى بقصائد الحالة الشعورية خاصة ما كتبه وهو يعاني مرارة النفي خارج الأردن كقصيدته "راهب الحانة" التي قالها عندما نفي إلى جدة سنة 1923 م وسجن في أحد أقبيتها وحيدا وقد ربط إلى فلق خشبة، أو قصيدته "أهكذا حتى ولا مرحبا" التي قالها وهو منفي في "العقبة" عام 1931 م وكانت ليلة عيد فتذكر زوجته وأولاده وما يقاسيه في منفاه بعيدا عنهم، وهي التي نعيد نشرها اليوم وقد وضعنا لها عنوانا جديدا هو "يا هند" لأنه النداء الذي يتردد كثيرا عبر مقاطع القصيدة حاملا معاناته وشجنه وهمه الوجودي والكوني. وفي شعر عرار أيضا أنفاس وأقباس من تجديدات المهجريين وابتكاراتهم ولغتهم الشعرية كما في قصيدته "راهب الحانة" التي يقول فيها:
طوع إيحاء دعائك وهو شعر يذكرنا بوثبات جبران وعا لمه الشعري المتميز لغة وصوراً وظلالا وموسيقى. وتقول مصادر أخباره إن مصطفى وهبي التل ولد في غرفة متواضعة في مدينة إريد في الخامس والعشرين من مايو عام 1897 وإنه أتم دراسته الابتدائية في مدينة إريد وانتسب إلى مكتب عنبر الشهير بدمشق عام 1913 وعمل في الوظائف الإدارية والعدلية بعد نشوء الد ولة الأردنية والهاشمية وإنه عرف بنضاله ومواقفه الوطنية ضد الاستعمار البريطاني، مما تسبب في نفيه عدة مرات وتسريحه من عمله، وإنه كانت له علاقة حميمة وغريبة مع قبيلة النور وشيخها المسمى بالهبر، وقد توفي في الرابع والعشرين من مايو عا م 1949 ودفن في إربد. وتمثل قصيدته التي نلتقي معها الآن شعره أدق تمثيل، فهي أولا تنتمي إلى قصائد النفي والاغتراف والبعد عن الأهل والأبناء، ثم هي نموذج لانسياب إبداعه الشعري وتدفقه في سلاسة ويسر ورهافة، ثم هي-كسائر قصائده-تتوهج بموقفه الممعن في الخروج على المألوف واقتحام المسالك الوعرة والتعرض لما يجلب عليه شبهات الاتهام ويوقعه في المحظور، لكنه لا يبالي ما دام يتوب ويعلن توبته، ثم سرعان ما ينكث بوعده ويعود لسابق عهده، وفي القصيدة معاناة الشاعر الأب-بكل ما تحمله أبوته من رفق وحنان وانعطاف-تخفيها جميعا مواجهات الشاعر الحادة مع صلف المستعمر وعبث السلطات به والسعي في نفيه وتشريده وسجنه، صانعة منه ومن شعره ذلك المزاج الفريد المتميز، لشاعر شعره حياته وحياته شعره، وقصيدته فضاء مفتوح يغري بالمراجعة والتأمل والوقوع في أسر الدهشة والانبهار. يقول مصطفى وهبي التل عرار:
|
|