الذاكرة والوجع اليومي في السينما اللبنانية نديم جرجورة

الذاكرة والوجع اليومي في السينما اللبنانية

هل يشهد لبنان, حالياً, نهضة سينمائية حقيقية, أم أن ما يُنتج من أفلام جديدة ليس إلاّ (فورة إبداعية) سرعان ما تنتهي, مع أنها تؤكّد مجدّداً أن (المبادرة الفردية) في عملية الإنتاج المحلي لا تزال هي السائدة, في المقاييس كلّها?

هل تؤسّس الأفلام اللبنانية حديثة الإنتاج, أو على الأقلّ تساهم في تأسيس (سينما عربية جديدة), كما علّق بعض النقّاد العرب, أم أن العناوين التي بدأ عرضها أخيرًا في مهرجانات عربية ودولية, وفي صالات تجارية لبنانية, لن تتعدّى محلّيتها في المشهد الفني والثقافي اللبناني?

تُطرح هذه التساؤلات إزاء ارتفاع عدد الأفلام اللبنانية الروائية الطويلة المنتجة في خلال الأعوام القليلة الفائتة, التي جمعت غالبيتها إبداع المضمون بجمالية الشكل. هنا قراءة نقدية خاصّة بالمشهد السينمائي اللبناني الجديد, في ضوء النتاج العربي الحديث.

بات واضحاً أن السينما اللبنانية, أو (السينما في لبنان) كما يحلو للبعض أن يصفها, دخلت مرحلة تأسيسية جديدة, بإنتاج أفلام روائية طويلة, اتّسم بعضها بنمط متجدّد وجمالي وبديع, شكلاّ ومضموناً, واقتُبست مواضيعها من الهمّ الإنساني اللبناني, فرداً وجماعة, ومن القهر والمعاناة والألم والبحث عن خلاص, عاكسة حسّاً مجتمعياً وعاطفياً وانفعالياً, مأخوذاً من الواقع المعيش. في حين أن أنواعها مختلفة: استعراضية غنائية راقصة, دراما إنسانية صافية أو مطعّمة بشيء من الفانتازيا, اجتماعية بحتة, إلخ. وفي مقابل هذا, لا يُمكن التغاضي عن تجربتين لبنانيتين جديدتين, خاضهما مخرجان ينتميان إلى (جيلين) سينمائيين مختلفين تماماً, وذلك في عاصمتين سينمائيتين تُعتبران (قبلة) السينما عربياً وغربياً: فجوسلين صعب حقّقت (دنيا) في مصر, وعمر نعيم أنجز (النسخة النهائية) في هوليوود.

إنتاج مشترك

أنتجت الأفلام اللبنانية الجديدة, التي اختيرت في هذه القراءة, بفضل تعاون وثيق قام بين المخرجين وشركاتهم الإنتاجية الخاصّة بهم من جهة أولى, ومؤسّسات/دول غربية متنوّعة, من جهة ثانية. ولأن منتجها الأول والأساسي لبنانيٌ, بسبب الانتماء الجغرافي للمخرج, فهي أفلام لبنانية ذات إنتاج مشترك. لهذا, يُمكن القول إن (دنيا) جوسلين صعب لبناني, بمعنى ما (علماً أنه إنتاج مصري فرنسي مشترك), على غرار (لِيلا قالت هذا) لزياد دويري: الموضوع فرنسي, غالبية العاملين فيه تمثيلاً وتقنيات فرنسيون. ومع هذا, فإن مخرجه وبعض العاملين فيه لبنانيون. في حين أن (النسخة النهائية) يبقى فيلماً هوليوودياً بامتياز, أنجزه مخرج أمريكي من أصل لبناني. هذا ما ينطبق على الفيلم الجديد لجوزف فارس, (زوزو): فهو لبناني, بموضوعه وممثليه ومخرجه وبعض فريقه التقني والفني, في حين أن إنتاجه مشترك بين السويد وبريطانيا والدانمارك. أما الأفلام الأخرى, فأنتجت بفضل دعم مالي أساسي من مؤسّسات أوربية عدّة. هذه الأفلام هي, بالإضافة إلى (دنيا) و(النسخة النهائية) و(ليلا قالت هذا): (خلص) لبرهان علوية, (فلافل) لميشال كمّون, (أطلال) لغسان سلهب, (يوم آخر) لجوانا حاجي توما وخليل جريج, (البوسطة) لفيليب عرقتنجي و(معارك حب) لدانييل عربيد (هناك أفلام روائية طويلة أخرى يُفترض بمخرجيها أن ينتهوا من تنفيذها في الربع الأول من العام الجاري). يكشف هذا الكمّ من الأفلام الروائية الطويلة, المنتجة في الأعوام القليلة الفائتة, أن السينما اللبنانية مقبلة على نقلة نوعية في الشكل والمضمون, تساهم (هذه النقلة) بشكل جدّي وفعّال في التأسيس لمرحلة تاريخية جديدة من عمرها الطويل. فكيف إذا أضيفت إليها أفلام وثائقية عدّة, أكّدت خصوصيتها الفنية بمزجها التسجيلي بالروائي, وبخروجها من صنمية العلاقة التقليدية بين الكاميرا والموضوع, وبتعمّقها في اختبار قدرات الفن البصري على معالجة الموضوع المختار بتجديدية دائمة, وروائية قصيرة لا تقلّ أهمية إبداعية أبداً عن النتاج السينمائي الآخر, والتجريبية والـ(فيديو آرت) التي تسعى إلى التماهي بالنتاج الغربي, وتحاول أن تثبت حضورًا ما في المشهد اللبناني, وهي بمعظمها تستعين بالتقنيات المختلفة لـ(ديجيتال). بهذا كلّه, يتبيّن أن (الصناعة) المحلية ستشهد (فورة) كبيرة من الأعمال, لا يُمكن التنبؤ بمدى جدّيتها الفنية والدرامية, مما يؤدّي بالضرورة إلى مواكبة نقدية تعاين أفقها, وتبلور نتاجها, وتغربل موادها وأشكالها وأساليبها.

الحرب مازالت باقية

باستثناء (دنيا) و(النسخة النهائية), تناولت الأفلام الأخرى كلّها مواضيع لبنانية. وباستثناء (لما حكيت مريم), اختارت غالبيتها الساحقة مواضيعها من الحرب وآثارها أولاً, ومن التحوّلات التي عرفها لبنان في تسعينيات القرن الفائت ثانياً. ذلك أن (دنيا) جوسلين صعب عالج موضوع المرأة المصرية والكبت النفسي المتولّد من إرغامها على الزواج ممن لا تحبّ, وتناول مسألة الختان بشكل عابر في سياق بحثه عن معنى الفرد وعالمه الخاص في مواجهة الجماعة وتقاليدها. وبحث (النسخة النهائية) في سؤال مطروح دائماً: هل يحقّ للإنسان أن يتدخّل في مسار حياته, أو أن يتلاعب بذكرياته, أو أن يقدّم للآخر ما يحلو له ويُغيّب ما يريد? إنه فيلم خيال علمي يعاين مأزق الإنسان الفرد في علاقته بذاته وذاكرته وذكرياته وحضوره في الحياة والمجتمع. بدا (دنيا) مرتبكاً في تحليله البصري, وضائعاً في معالجته الدرامية, وباهتاً في إدارته للممثلين, على الرغم من بعض مشاهده الراقصة جيّدة الصنعة (صمّمها وليد عوني). وامتلك (النسخة النهائية) شروطه الفنية والدرامية الخاصّة بنوعية الخيال العلمي, من دون أن يتوصّل إلى الإبهار المشهدي أو التجديد المطلوب نصّاً وأداءً وسياقاً.

أما الحرب التي دمّرت لبنان خمسة عشر عاماً, والسلام الهشّ والمنقوص الذي خلّفته منذ خمسة عشر عاماً, فهما (الموضوع الأثير) لدى عدد من المخرجين اللبنانيين, الذين وجدوا فيهما كمّاً هائلاً من العناوين الإنسانية المختلفة, التي تصلح للمعالجة والتحليل والبحث في مفردات الحياة اليومية ومقوّمات العيش في الألم والقلق والانكسار والإحباط, وفي معنى الخراب والهوية في مدينة مشوّهة ومسحوقة. في هذه التفاصيل كلّها, المفتوحة على أسئلة واحتمالات وآفاق, وجد سينمائيون ينتمون إلى (أجيال) مختلفة ضالتهم الإبداعية بحثاً في معنى الصراع الدائم بين الحياة والموت. لا يستعيد بعض هؤلاء السينمائيين الحرب بشكلها المباشر, بل بلغة مواربة وجميلة (أحياناً) كي يرسم أفق الحياة ولوعة الآنيّ وغموض المستقبل والتباساته, من دون أن يتغاضى عن الذاكرة والماضي, وكي يطرح أسئلتها المجنونة التي تبدأ بالوجود والهوية والانتماء, ولا تنتهي عند الموت والخراب. لم تكن الحرب موضوعاً وحيداً, إذ إن بشاعة السلام الهشّ والمنقوص أثارت السينمائيين وعدداً من المثقفين اللبنانيين المستمرّين في التنقيب فيه بحثاً عن السلم الأهلي والمدني الحقيقي, وحرّضتهم على مواجهة آلة النسيان التي أريد لها أن تمحو الذاكرة كلّها, ودفعتهم إلى التعمّق في تفاصيلها ودروسها. في هذا كلّه, تجنّب بعض هؤلاء المخرجين اللغة المباشرة والخطابة الفظّة في قراءة الواقع, فقدّموا أفلاماً تُبهر العين بجمالية صنعها, وتحثّ العقل على مزيد من التفكير والسؤال, بفضل تقنية المعالجة والبناء الداخلي وآلية السيناريو.

لهذا, يُمكن القول إن السينما اللبنانية الجديدة باتت قادرة, إلى حدّ ما, على وضع حجر أساس لنهضة سينمائية حقيقية, أقلّه على المستوى المحلي, لأنها استوفت شروطها الفنية والتقنية والدرامية, بشكل بصري وجمالي ودرامي لافت للنظر, وأبدعت في خياراتها الدرامية (المواضيع, آلية المعالجة والتحليل البصري, رسم الشخصيات, بناء العلاقات, إلخ.) ومقارباتها الإنسانية, واشتغالها التقني. أما عربياً, فالسؤال محتاجٌ إلى تراكم لبناني أكبر, على الرغم من التراجع الخطر في الإنتاج السينمائي المصري والعربي, علماً أن هناك محاولات جادّة يقوم بها سينمائيون عرب, حين يجمعون المخيّلة بالتقنيات الحديثة, ويبتكرون أشكالاً مختلفة في الكتابة والمعالجة البصرية والتغلغل في ثنايا الذات والروح بجرأة ووعي واحترام أصيل للشروط السينمائية.

حب وحرب وذاكرة محطمة

في فيلمه الروائي الطويل الأول (البوسطة), قدّم المخرج الوثائقي فيليب عرقتنجي صورة مختلفة عن الواقع اللبناني, من خلال الاستعراض الراقص والغنائي. استعان بتقنية الفيلم الاستعراضي, من دون أن يطوّرها أو أن ينتقص من قيمها الفنية الجميلة. جمع الرقص والغناء بعلاقة حبّ, والذاكرة المحطّمة بفعل الحرب بيوميات السلم المزعوم, مضيفاً إلى هذا كلّه رحلة سياحية في الجغرافيا اللبنانية. لذا, تميّز عرقتنجي عن الآخرين باستخدامه الرقص والغناء شكلاً لمضمون إنساني معالَج ببساطة وتواضع. كما تميّز بأنه أنجز فيلماً روائياً هو الأول له, كما حصل سابقاً مع المخرجين الوثائقيين أيضاً جان شمعون (طيف المدينة) وبهيج حجيج (زنّار النار). أما برهان علوية (خلص) فمستمرٌ في التنقيب عن معالم السلام المنقوص والارتباك الإنساني الناتج من سني الحرب والفراغ الروحي والاجتماعي والإنساني الذي ولّده هذا السلام الملتبس, من خلال صديقين يواجهان وطأة السلم والذاكرة المضرّجة بألم الحرب ودمائها وإحباطاتها. أما جوزف فارس, اللبناني المقيم في السويد, فعاد إلى أحد أعوام الحرب اللبنانية, كي يرمّم شيئاً من الذاكرة الفردية, بسرده مقتطفات من الحياة اليومية لعائلة سحقتها الحرب ولم ينجُ منها إلا الابن الصغير الذي يهاجر إلى السويد للعيش في كنف جدّيه, فإذا بالحياة هناك لا تقلّ قسوة وخراباً عمّا هي عليه في لبنان. وإذا حافظ (البوسطة) على حدّ أدنى من السوية الإبداعية, من دون أن يتخلّى عن بعض الجماليات المطلوبة, فإن (خلص) مشحونٌ بكمّ هائل من الانفعال الذاتي في صوغ المشهد الإنساني المحطّم وفي بحث المرء عن خلاصه الروحي, في إطار بصري سلس مشغول بحرفية لافتة للنظر. كما (زوزو), الذي أبدع جوزف فارس في تنفيذه, كتابة وتمثيلاً وديكورات وتصويراً وتوليفاً ورسماً للشخصيات وإعادة فبركة للذاكرة من خلال التجربة المعيشة.

حكايات الأزمة

لا يبتعد مخرجو الأفلام الثلاثة الأخرى (يوم آخر, فلافل وأطلال) عن الحرب اللبنانية, بقدر ما يغوصون في نتائجها المدمِّرة في الذات الإنسانية والمجتمع والعلاقات. لا يعودون إليها إلاّ كي يعيدوا رسم آثارها في الواقع الآنيّ وتفاصيله المتشعّبة وإحباطاته. لا يصوّرون متاهاتها وأشكالها المباشرة, بل يغوصون في معالمها المنبثقة منها كي يرووا شيئاً من حكاياتها المرسومة على الوجوه وفي الأزقّة والأمكنة الموزّعة في شوارع بيروت وفضائها. هذه أفلام تتجاوز الحرب بمعاركها وأحزابها وناسها وطوائفها وقتلاها وجنونها وفوضاها, كي تصوّر السلام المنقوص والملتبس, من خلال أفراد يعانون الوجع والقلق والعزلات والتحوّلات المخيفة: في (يوم آخر), يذهب الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج في رحلة إنسانية في داخل الفرد وارتباكه وعيشه اليومي في البؤس والألم. استعان غسان سلهب, في (أطلال), بشخصية مصّاص الدماء, لا لينجز فيلماً عنها, على غرار ما فعلته السينما الغربية, بل لكي يخترق معالم الروح والذات للفرد الطالع من الحرب وأزماتها المختلفة إلى رحاب الفوضى والتمزّقات في السلام الآنيّ. وارتأى ميشال كمّون أن يتوغّل في الحاضر, فاختار لـ(فلافل) حياة عدد من الشباب اللبنانيين الذين لم يعرفوا الحرب إلاّ عبر (المأساة) التي ولّدها هذا السلام الموبوء.

يا عروس المجد طال الملتقى بعدما طال جوى المغترب
سكرت أجيالنا في زهوها وغفت عن كيد دهر قلّب
وصحونا فإذا أعناقنا مثقلات بقيود الأجنبي


(عمر أبو ريشه)

 

نديم جرجورة 




مشهد من فيلم (البوسطة) لفيليب عرقتنجي





جوليا قصّار في (يوم آخر) لجوانا حاجي توما وخليل جريج





المخرج غسان سلهب





مشهد من (زوزو) لجوزف فارس





المخرج ميشال كمّون





مشهد من (معارك حب) لدانييل عربيد





فاهينا جيوكانتي في مشهد من (ليلا قالت هذا) لزياد دويري