حصن الحصون.. قلعة صلاح الدين خالد عزب

باحثون روس في جزيرة العرب.. تجار ومغامرون ومستكشفون

يكشف هذا المقال عن صفحة شبه مجهولة في تاريخ الجزيرة العربية,.. وهي محاولة الإمبراطورية الروسية للوجود دومًا فوق الرمال العربية.

تعددت الأسباب التي دفعت الرحّالة الغربيين إلى زيارة الجزيرة العربية, فقد بدأت طلائعهم تتوافد منذ القرن الخامس عشر الميلادي, وتفاوتت أهدافهم ما بين السيطرة على أجزاء من العالم الإسلامي, أو التحكم في ممراته المائية الحيوية, أو التنصير, أو حب المغامرة والاستكشاف, وكانت أولى محاولات الأوربيين لزيارة الجزيرة العربية قد تمثلت في زيارة بيتر دي كويلان إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة سنة 1487م, وتدور شكوك كثيرة حول هذه الزيارة وهل تمت فعلاً أم لا? لكن من المؤكد أن أول رحالة أوربي قام بزيارة الجزيرة العربية هو الإيطالي لودفيكو دي فارتيما, الذي زار الجزيرة العربية سنة 1503م, وكان دي فارتيما مرسلاً من قبل البرتغاليين للتجسس في إطار الصراع الذي كان دائرًا آنذاك بينهم وبين المماليك من أجل السيطرة على الممرات البحرية وطرق التجارة في البحر الأحمر, بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح. وكان دي فارتيما قد بدأ رحلته من مصر التي توجه منها إلى الشام, حيث قضى وقتًا بدمشق تعلم خلاله اللغة العربية, وسافر منها مع إحدى قوافل الحجاج تحت اسم الحاج يونس المملوك المصري, وتمكن من الوصول إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة, وقدم وصفًا لرحلته منذ خروجه من دمشق, حتى مغادرته لجدة في نهاية رحلته.

إننا نلاحظ أن الاهتمام بجمع المعلومات عن الجزيرة العربية بدأ منذ مطلع القرن السادس عشر, إذ انطلقت أفواج من العلماء الأوربيين تترى, فمجموعة منها اتجهت إلى الشمال ومجموعة أخرى اتجهت إلى الجنوب, ويندر من جمع في رحلاته بين الشمال والجنوب. وكانت حدود من جاءوا من الشمال هي مكة. أما حدود من جاءوا من الجنوب فنجران. وما بين هذين الحدين انفردت بعثة ريكمانز العم وريكمانز ابن الأخ وجون فيلبي وليبنز سنة 1952 بزيارة المناطق, ابتداء من جدة ثم إلى نجران متجهة نحو وادي الدواسر وما حوله.

وقد حظي الجنوب ببعثات أثرية أمريكية وفرنسية وإيطالية وروسية, نقبت في مواقع مختلفة, إلا أن الشمال لم يتح للبعثات الأثرية التنقيب فيه, وذلك لأن المملكة العربية السعودية اعتمدت على تكوين منقبين سعوديين قادرين على العمل في هذا المجال, ومن ثم يمكن التعاون مع البعثات الأجنبية من منطلق التكافؤ في المعرفة والخبرة. وعلى أي حال ماذا كان وراء هذا الاهتمام? ولماذا اقتسموا الجزيرة العربية إلى جنوب وشمال?

أما لماذا قسمت الجزيرة العربية إلى جنوب وشمال فإن هذا يرتبط بالرحالة الغربيين أكثر مما يرتبط بالرحالة الروس, ولذا فإننا سوف نسبر أغوار معرفة روسيا بالشرق الأدنى القديم في العصور القديمة, ثم في العصور الإسلامية, وما يدل على ذلك قدر المستطاع.

التجارة هي البداية

يقول دانتسنج مؤلف كتاب (الرحالة الروس في الشرق الأوسط): إن أول المصادر المدونة عن تجارة الروس مع البيزنطيين كان عن طريق البحر الأسود ومع البلدان الآسيوية عن طريق بحر قزوين فهي ترجع إلى أربعينيات القرن التاسع الميلادي أي الثالث الهجري, ودلل على ذلك بالتجارة الرائجة بين روسيا وأقاليمها المختلفة, وبين ما وراء النهر من البلدان الإسلامية وتحدث عن نوع التجارة التي كانوا يتبادلونها, وأن هذه العلاقات التجارية كانت موجودة من دون شك قبل هذه الفترة بمدة طويلة, حيث إن نوع البضاعة التي كانت تسوق في أسواق المدن الإسلامية, كانت تدل على مصدرها, كما دلل على العلاقة الاقتصادية بين الروس والعرب بالعثور على مسكوكات إسلامية, في روسيا ترجع إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين أي القرنين الثاني والثالث الهجريين, وهذا يدل على أن العرب والسماسرة الذين كانوا يتعاونون معهم, والذين كانوا يعيشون في منطقة الفولجا كانوا يزورون روسيا, وفي الوقت ذاته كان الروس أنفسهم يزورون البلدان الإسلامية. ولاشك أن الرحالة المسلم ابن فضلان قد نقل لنا فيما بقي من رحلته معلومات ثرية عن تلك البقاع التي سار فيها حتى وصل إلى السويد, ويعود ذلك إلى العصر العباسي.

هذا من حيث العلاقات الاقتصادية غير الموثقة بالشكل الذي نرتضيه كمؤرخين ولكن الدلائل البسيطة التي أشرنا إليها آنفًا تعطي شبه اليقين بأن هناك علاقات قديمة بين المنطقتين, أما إذا ما حاولنا أن نبحث عن العلاقات, أو الارتباطات العلمية بين المنطقتين فإننا يمكن أن نقول إن الخطوات الأولى على طريق تأسيس الاستشراق العلمي في روسيا ترجع إلى الربع الأول من القرن الثامن عشر, إذ تأسست أكاديمية العلوم في بيترسبورج سنة 1724م, وفي هذه الفترة ظهر في أكاديمية العلوم بعض الأجانب كانوا يعرفون اللغات الشرقية, وكان أشهرهم (بايير وكير).

وكان بايير ممن تلقوا العلم في جامعة (كينكسبيرج), ودرس اللغات الصينية والعبرية, القديمة والعربية, وانتقل سنة 1725م إلى بيترسبورج, حيث عمل في قسم الشرق الأدنى واللغات الشرقية في أكاديمية العلوم.

دراسات في الخط العربي

أما كير فقد حصل سنة 1722م على الماجستير من جامعة (لايبزيك), وقبيل قدومه إلى روسيا نشر مجموعة من أعماله العلمية, وكان على معرفة جيدة بلغات شعوب الشرق الأدنى, خصوصًا اللغة العربية, وكان هذا العالم أول من برهن على أن الخط الكوفي ما هو إلا الخط العربي القديم. وعلى الرغم من عدم معرفتنا بالبراهين والأدلة التي جعلته يقرر هذه الحقيقة فإننا نعتقد أنه ربما ربط بين هذا الخط والخط النبطي أو الخط الآرامي. وقد قدم إلى روسيا سنة 1832م لتدريس اللغات العربية والفارسية والتركية للشباب الملتحقين بكلية الشئون الخارجية. وهذا يذكرني باليابانيين الذين يدرسون اللغات الأوربية لمن يرغب من موظفي الخارجية سواء كانوا من العاملين في السفارة الأجنبية أو المرافقين لضيوف الدولة, وإن كان الروس قد سبقوا اليابان في ذلك.

وفي الثلث الأخير من القرن الثامن عشر اتخذت الإمبراطورة (كاثرين الثانية) بعض التدابير في سبيل الاهتمام بتدريس اللغات الشرقية في المؤسسات التعليمية, التي تقع في الأماكن التي تدين بالدين الإسلامي, فتم فتح مدرسة في (قازان) سنة 1759م, وازداد الاهتمام بالشرق الأوسط بشكل ملموس في هذه الفترة, إذ شرعت المؤسسات في روسيا بجمع مجموعات كبيرة من المسكوكات ومجموعات من المواد الأثرية ونماذج من المخطوطات الإسلامية.

ولعل هذا القدر الكبير من المواد التاريخية والاقتصادية والثقافية دفع الإمبراطورية الروسية إلى إنشاء جمعية كان لها دور بارز في النشاط العلمي, وبالأخص ممتلكات الدولة العثمانية ودول البحر المتوسط ومصر وشمال إفريقيا, ولذا أنشئت الجمعية الجغرافية للإمبراطورية الروسية سنة 1845م وقد لعبت هذه الجمعية دورًا كبيرًا في الإنجازات التي حققها الباحثون الروس وكان من بين مؤسسيها ضابط الأركان العامة (بيرج) وضابط الأركان العامة (فرونجينكو), وهكذا نلاحظ أن الجمعية الجغرافية بكل منجزاتها وأهدافها كانت لخدمة الإمبراطورية الروسية, وبالأخص خدمة القوات المسلحة الروسية.

أهداف جغرافية

بعد هذه الإلمامة المختصرة عن خلفيات الاهتمام بالشرق الأدنى قديمًا, والشرق الأوسط حديثًا, والرواسب العلمية والتاريخية, نشعر أن الإمبراطورية الروسية اهتمت بالرحلات إلى مناطق كثيرة, وبعثت بعلمائها وباحثيها للوصول إلى معلومات جغرافية وأنثربولوجية وسكانية عن المناطق التي تحدها جنوبًا, والتي تحف البحر المتوسط شمالاً وجنوبًا. وهكذا نجد فئتين من الرحالة, رحالة بعثتهم الجمعية الجغرافية للإمبراطورية الروسية, وهؤلاء كان لهم دور كبير في جمع المعلومات المختلفة. ومجموعة أخرى من الرحالة, كان هدفهم زيارة الأراضي المقدسة في بلاد الشام وفلسطين, وهؤلاء أسهموا بقدر وافر في جمع المعلومات, وخاصة ذات العلاقة بالكنائس والأديرة, ونشاطها ونشاط البعثات التبشيرية من أوربا والولايات المتحدة الأمريكية, والصراع الدائر بين المذاهب المحلية والمذاهب القادمة من وراء البحار, ويبدو واضحًا من خلال هذه التقارير السخط المركز على الدولة العثمانية وولائها في الأقاليم المختلفة والأوضاع الاجتماعية المتردية في تلك الأقاليم, نتيجة لتعسف الولاة وقهرهم لشعوبها, ونحن لا نستطيع أن نقف مع أو ضد هذه المعلومات إلا إذا أطلعنا على تقارير أخرى تصف تلك المجتمعات في العصور ذاتها.

أما بالنسبة للرحالة الروس إلى الجزيرة العربية, فإنه, ومما يؤسف له, أننا نفتقر إلى وجود رحالة إلى الجزيرة العربية, إذ إنها على ما يبدو لم تكن ضمن اهتمامات الروس في فترة الهجمة الاستكشافية إلى المناطق التي أشرنا إليها, في حين أن الدول الغربية ابتداء من إيطاليا, وانتهاء ببريطانيا كثفت رسلها إلى الجزيرة العربية شمالاً وجنوبًا, وكل منهم حاول أن يجمع ما أمكن جمعه, فمن اتجه إلى الجنوب, كان يبحث عن براهين تثبت العلاقة بين اليمن وفلسطين, وخاصة فيما يتصل بالفترة التي حدثت فيها أحداث ملكة سبأ ونبي الله سليمان, وقد انعكس ذلك حتى على محاولاتهم وضع تسلسل تاريخي لجنوب الجزيرة العربية, وذلك قبل أن نبدأ مرحلة التنقيب الأثري في النصف الثاني من القرن العشرين, مما عدل هذا التسلسل بناء على المعطيات التي أبرزتها التنقيبات الأثرية, وانخفض بها قرابة أربعة قرون.

أما بالنسبة لاهتمامهم بالشمال, فهو أيضًا لا يبعد كثيرًا عن الأهداف نفسها التي قدم من أجلها رحالة الجنوب, فهم يبحثون عما يثبت أخبار التوراة عن القبائل والأماكن التي جاء ذكرها فيها, وعن الصراعات بين هذه القبائل وبني إسرائيل. وكان التركيز بشكل خاص على فترتي القرنين السادس والخامس قبل الميلاد, والقرن الأول قبل الميلاد, وعلى الأخص الحضارة النبطية. وفي الفترة الأخيرة بدأ الاهتمام بالحدود الرومانية والبيزنطية, وتتبع النشاط الروماني في هذه المناطق, ومن هنا أصبحت معظم أبحاثهم تنطبع بهذا الطابع الذي لا يلتفت إلى دور العناصر المحلية في تشكيل تاريخ الجزيرة العربية, سواء في الجنوب أو الشمال, كما أنهم لا يلتفتون بقدر كاف إلى وشائج القربى بين الجنوب والشمال, بل يركزون على الجانب السياسي والحربي الذي يشير إلى العدائية بين الجهتين, دون الالتفات إلى المعطيات البناءة بين الجنوب والشمال, في مجال القانون والآداب واللغة, وهذا هو ما نسعى إلى تأكيده في منظورنا الحديث, ونتمنى أن يشارك الباحثون من غير العرب في هذا التوجه.

انطباعات الحجاج الروس

ولا نستطيع أن نعلل أسباب ندرة الرحالة الروس إلى الجزيرة العربية, إلا بأن من كتبوا عن الرحالة ورحلاتهم لم يهتموا بإبراز نشاط الرحالة, أو بشكل أدق, الحجاج المسلمين الذين كانوا يتوجهون إلى الأراضي المقدسة في الجزيرة العربية, وهؤلاء هم صنو الرحالة من غير المسلمين الذين كانوا يقصدون الأراضي المقدسة في بلاد الشام وفلسطين, واهتم بهم الباحثون الروس, وعن طريق هذا الاهتمام بهم وصلتنا معلومات كثيرة عن المجتمعات التي زاروها. أما الحجاج المسلمون الروس, فلاشك أنهم كانوا ضمن الحجاج المسلمين في كل عام, ولا نستبعد أنهم تركوا لنا رصيدًا ضخمًا من الانطباعات, كما هو حال غيرهم من الرحالة المسلمين وبالأخص المغاربة, حيث كشفت أخبار رحلاتهم عن معلومات وافرة عن الحجاز والجزيرة العربية في عصور إسلامية مختلفة.

وبالرغم من هذا, فإننا نجد ذكرًا لثلاثة موظفين روس كانوا يعملون في القنصلية الروسية بجدة, وأولهم (إيشاييف) الذي سافر من جدة إلى مكة سنة 1895م, ونقل لنا مؤلف كتاب (الرحالة الروس في الشرق الأوسط), قبسات مما كتبه من انطباعات وهو يصف الكعبة بقوله: (إنها بشكل مستطيل, وأنه أقدس مكان في مكة) ثم بقوله: (ولقد ثبت الحجر الأسود المشهور في الزاوية الشرقية من الجدار, وهو أقدس شيء في بيت الله. وموقعه في الجدار في علو, بحيث يكون باستطاعة المرء تقبيله, ويستقر الحجر من الأعلى والجوانب في طوق من الفضة, ويظهر جزء منه فقط وذلك لتقبيله من قبل الحجاج. وأما تحديد حجمه فليس بالإمكان. وتُغطى جدران بناء بيت الله من جميع أطرافها عادة بقماش حريري سميك من اللون الأسود, وكتبت في الغطاء كلمات باللغة العربية تتعلق بالعقائد الأساسية الإسلامية بطريقة التطريز, لا إله إلا الله, محمد رسول الله, ويهيأ في كل سنة غطاء جديد بأمر السلطان العثماني).

أما المنظر الداخلي للبيت, فهو شيء فريد من نوعه ويصفه بقوله: (تقف في الجانب الأيسر من المدخل, وعند الباب تمامًا منضدة خشبية متوسطة الحجم وبسيطة جدًا, وهي عارية وغير مغطاة بأي غطاء, يستقر عليها مفتاح فضي كبير. والحاج حر في أسلوب استعماله والتبرّك به, يستطيع أن يضعه على صدره أو يقبله. أما أجرة هذه المراسيم فتحددها رغبة وكرم الحاج نفسه, أما الدخول إلى حرم بيت الله, فليس من الأمور السهلة, وهو ليس في متناول جميع الحجاج في كل الأحوال, ويفتح باب البيت في موسم الحج فقط, وكذلك في أوقات معينة في النهار, والدخول إلى هناك يكلف مالاً ونقودًا غير قليلة. ومع ذلك, إذا وجدت الرغبة للدخول فمن الممكن في أي وقت يشاء الحاج وبتوصية خاصة مسبقة أن يشبع رغبته, غير أن الدخول في متناول الشخصيات الغنية جدًا فقط, وهو يحتاج إلى كثير من الجهد والعناء ومصاريف غير اعتيادية).

كما زار (إيشاييف) السوق ووصفها بقوله: (هناك سوق خاصة لتجارة الرقيق في وسط السوق المركزي بقرب بيت الله, وهي تتألف من قسمين غير كبيرين تجلس الجاريات وأولادهن بشكل اعتيادي على الكراسي, أما العبيد فهم يجلسون على الأرض مباشرة, وينتمي هؤلاء الناس التعساء إلى العرق الأسود والصفر, أما من أين يؤتى بهم إلى هنا, فإني لا أعرف عنهم بالضبط أي شيء. وأما ثمن العبد بصورة عامة, فليس غاليًا). وهكذا نجد أن هذه الأوصاف لهذا المسلم لم تكن على مستوى يجعله أهلاً لنقل معلومات كافية عن المناطق التي زارها, ذلك لأنه لم يتدرب في مدارج الجمعية الجغرافية, ولم يتحدث إلا عن الرقيق, ولكنه لم يحدثنا عن حلقات العلم في المسجد الحرام, ولاشك أن بعضًا من قومه أو من جيران دولته, كانوا يدرسون في الحرم, إلا إذا كان مؤلف هذا الكتاب لم ينتق إلا هذه القطع, التي لا تعطي معلومات مفصلة.

بحث حول تأثير الحج

أما الرحالة الثاني, فهو النقيب الركن (دافليتشين), وقد زار الحجاز سنة 1898م, إن هذا الرحالة, وإن كنا لم نعرف من خلال ما جاء عنه, الطريق الذي سلكه للحجاز هل كان بحرًا أم برًا?, فإن إرساله من قبل الحكومة الروسية إلى الحجاز جاء عن طريق اهتمامها بأثر الحج في مسلمي روسيا, مما يوحي بأن هناك مظاهر لاحظتها الحكومة الروسية على المسلمين الذين يعودون من الحج, ولذا فقد اتبعت الطريقة نفسها, التي اتبعتها الحكومة الهولندية, عندما بعثت بعض الرحالة إلى مكة لمعرفة أثر الحج على الحجاج الإندونيسيين. ويبدو أن دافليتشين قد قام بالمهمة, وألمح إلى دور السلطة التركية في الحجاز, وكان مما قاله: (سلطة الحكومة التركية كانت ولاتزال حتى في الوقت الحاضر, تعتمد على القوى المسلحة فقط, فالسلطة هذه موجودة فقط في المواقع التي تتعسكر فيها القوات. وبتعبير آخر إن الترك يملكون المدن فقط, ويسيطرون على الطريق بين مكة وجدة بشكل أو بآخر, وهي تدار بوظائف خاصة, ولم ينظم الترك خلال الأربعة قرون, التي تملّكوا فيها الحجاز أي علاقة بينهم وبين السكان الأصليين, ولم يستطيعوا تهدئتهم أو التأثير فيهم من الناحية الثقافية. والعلاقة بين الجانبين دون ثقة وفي عداء مستمر, وتتميز السلطة الإدارية في أكثر الأحوال بالرياء, والتعسف, والجور. أما عمليات القوات المسلحة, فكانت على الدوام غير حاسمة وغير متواصلة, ولهذا السبب كان البدو لا يخشون السلطة, ولا يكنون لها الاحترام الواجب). وهنا نلاحظ موقف النقيب الركن من السلطة العثمانية, وعن علاقة الترك بأهل الحجاز خلال أربعة قرون, مع أننا نشاهد أن الدولة العثمانية قد وسعت الحرمين الشريفين, واهتمت بالمباني الحكومية, وأدخلت كثيرًا من التقاليد والعادات التركية في حاضرة الحجاز.

أما الرحالة الثالث, وهو مرتبط أيضًا بالأماكن المقدسة, فإنه القائم بأعمال القنصلية بجدة (نيكولسكي), وقد أشار الباحث عن (الرحالة الروس في الشرق الأوسط), إلى أن في تقريره معلومات غزيرة, وقد أشار في معلوماته إلى أن أغنى الحجاج هم الإندونيسيون, وأن أفقرهم هم الهنود. ولعلنا ننقل هذه الفقرة مما جاء في تقريره, وهي تعطي لمحة عن الناحية الاقتصادية في مكة, وتأثير الحجاج بها: (وصل ما مجموعه سبعة وستين ألف شخص في موسم الحج لسنة 1904-1905 عن طريق ميناء جدة وينبع, أما المجموع العام للحجاج الذين زاروا مكة في هذه السنة, فيقدر بين مائة وخمسين ألفًا, ومائتي ألف شخص, وتعتبر هذه العناصر الوافدة جميعها مستهلكًا كبيرًا للبضائع والسلع, وذلك على الرغم من أن الكثير من الحجاج يجلبون معهم إلى مكة أيضًا بضائعهم الخاصة لبيعها هناك. ويبيعون أيضًا عند انتهاء موسم الحج أو في حال الشح والنقص في نقودهم, قسمًا لا يستهان به من الممتلكات الشخصية التي يحملونها 1965م:340هـ).

ومما لاحظناه على هؤلاء الرحالة الثلاثة أنهم لم يهتموا إلا بالحجاج الآسيويين, في حين لا نجد ذكرًا لغيرهم من الحجاج من إفريقيا مثلاً, ولعل الاهتمام بالآسيويين ناشئ من اهتمام الحكومة الروسية بهم أكثر من اهتمامها بحجاج إفريقيا. كما أن من قدم من هؤلاء الرحالة لم يذكر شيئًا عن اهتمام هؤلاء الرحالة على قلتهم بالمدينة المنورة, إذ إن تركيزهم جاء على مكة فقط, ولا ندري لعل ذلك راجع إلى البعد المكاني عن القنصلية في جدة.

حولي ناظريك عني فما أسطيع أجلو سرا هناك خفيا
ويح نفسي ما للعواصف تخبو ويفت الخذلان في ساعديّا
أنا طفل الحياة يا ضلة الروح فعفوا إن جئت أمرا فريا
فبليني فقد شعرت بروحي وثبت وارتمت على شفتيّا


(عمر أبو ريشة)

 

عبدالرحمن الطيب الأنصاري