العبدلله (بدون) رغم أنفه

(الذي يده في الماء, ليس كالذي يده في النار). (لا يعرف الشوق إلا من يكابده, ولا الصبابة إلا من يعانيها). أمثال وأشعار وأقوال مأثورة تتمحور جميعها حول المعنى السالف ذكره في عنوان المقال.

وفي هذا السياق: كان العبدلله يتعاطف مع من اصطلحنا على تسميتهم بـ(البدون), وقد تجلى هذا التعاطف في مقالات شتى: كتبتها منذ أن ظهرت قضية (البدون) كمشكلة عويصة تحتاج إلى حل عادل وحاسم, يتكئ على معايير موضوعية, أحسب أنها موجودة في ملفات وأضابير اجتماعات وجلسات مجلس التخطيط, إبان عصره الذهبي, كما ذكر لي ذلك الصديق الغالي أحمد علي الدعيج مديره العام - رحمه الله وغفر له - إبان عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لكن الحكومة تناست توصيات مجلس التخطيط, في شتى مناحي التنمية ولحستها - كما هو دأبها - دون أن يرف لها جفن!

إننا جميعًا نتحول إلى حكماء بعد وقوع البلية, وهو أمر غير محمود كما ترى, لم يسلم منه العبدلله ذات نفسه! من هنا, سأدع الحكمة جانبًا, وأتخلى عن لقب (سليمان الحكيم), وأتحدث عن محنة (البدون) كما شعرت بها, وكابدتها مدة شهر كان له العجب!

  • والمسألة وما فيها أني كنت مسافرًا إلى (الرباط) عاصمة المملكة المغربية الشقيقة, لإجراء استطلاع صحفي مصوّر عن (دار الحديث الحسنية), وتم الاتفاق مع المؤسسة الأكاديمية - المكرسة لعلوم الحديث, وتمنح طلابها شهادتي الماجستير والدكتوراه - على لقاء مديرها العام الأستاذ الدكتور (فاروق النبهان) والذي كنت أعرفه حين كنت أعمل مستشارًا إعلاميًا بالسفارة الكويتية, إبان سفارة كل من السفيرين (حمد الرجيب) و(عبدالله حسني) - رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.

فقد كان الدكتور (النبهان) يزورني بمكتبي بالسفارة, لأكتب لأمين عام الجامعة آنذاك الأخ الصديق أنور عبدالله النوري, لتجديد انتداب الدكتور من الجامعة الكويتية للعمل في دار الحديث الحسنية بالرباط.

وفي اليوم المحدد للقاء, وعمل الاستطلاع, تأبطت شنطة كأنها (جراب الحاوي), لكونها تختزن: جواز السفر, والبطاقتين المدنية والصحفية الوطنية, وكذلك الدولية, وكل ما بحوزتي من فلوس ودراهم, وبطاقة ائتمان وعملات صعبة, وأخرى (طايحة الحظ), وجار عليها زمن الانفتاح والانبطاح, فضلاً عن جهاز تسجيل معتبر, وكاميرا فخيمة, وورق مصقول وأقلام سيالة بالحبر الجاف!

ركبت القطار السريع من محطة الركاب, ميممًا صوب الرباط, بمعية صديق مغربي, تطوع أن يقوم بمهام تسجيل الحوار, وتصوير مبنى الدار والقيمين عليها وما إلى ذلك.

وقد تمت المهمة على خير مايرام, بعد أن أمضينا في (دار الحديث الحسنية) سحابة نهارنا.

هانحن نعود بالقطار نفسه من الرباط إلى الدار البيضاء, على أمل أن أسافر منها في اليوم التالي إلى مدينة مراكش الأثيرة إلى نفسي, أو (مسقط قلبي) بالإذن من الأديبة (غادة السمان) مولاة التعبير السالف الذكر.

وصلنا بسلامة الله, ركبنا سيارة أجرة متوجهين صوب الفندق الذي اعتدت أن أقطنه كلما جئت إلى (كازابلانكا), كما نعتها البرتغاليون منذ القدم, أو الدار البيضاء اسمها بالعربي الفصيح - إن شئت ذلك.

كان سائق السيارة خمسينيًا ملتحيًا وقورًا منصتًا إلى آي الذكر الحكيم, الذي كان يتلوه القارئ الشهير الفذ الشيخ مصطفى إسماعيل - رحمه الله - ووجدتني أنجذب بشدة إلى تلاوته المتميزة, ومن ثم تداعى مسجد الحسين - في قاهرة المعز بمصر المحروسة - إلى الوجدان والذاكرة معًا. وفي اللحظة التي صمت فيها الشيخ ليملأ رئتيه بالأكسجين قلت لمولى السيارة: أتمنى عليك أن تتمشى على كورنيش (عين دياب), حيث تتلاطم أمواج المحيط الأطلسي, إلى حين انتهاء مولانا الشيخ من تلاوته المموسقة, ولذنا - نحن الثلاثة - بالصمت منصتين للتلاوة بخشوع يليق بها.

بداية المشكلة

كان الموسم شتاء, وسيف البحر - المحيط الأطلسي - خال من مريدي السباحة والشمس والتريض. وقد خطر لي فجأة إثر نوبة عطاس طلب مناديل ورق من داخل شنطتي (جراب الحاوي) إياه. قلت لصديقي الذي بمعيته الشنطة: (أرى الساك ديالي عافاك) قلتها بالدارجة المغربية كما هو واضح. رد بدهشة بالغة: (الشنطة ديالك ماكيناش معايايا!) أراها معاك يا سي الحاج! قلت له عبارة معجونة بالقلق: دع عنك المزاح الآن - عافاك الله - وأرني الشنطة دابا. هنا: انتبه سائق السيارة إلى حوارنا, وخفض من صوت الراديو, ثم تساءل: (أشنو كاين..? ييك ما كاين باس? قلت له: - وأنا بين الخشية والرجاء - كاين باس, ومصيبة, وبلية, وورطة ستورثني الهم والنكد والمشاكل, وما خفي أنكى وأسوأ! شنطتي التي تحوي فلوسي, وكل ما يعرّف بي, وتذكرة السفر, وبطاقة الائتمان, والهويتين الصحفيتين الوطنية والدولية (مشات عليا), زد على ذلك - إن شئت - بطاقة عضوية رابطة مرضى السكري هي الأخرى, كانت في الشنطة (ديالي), التي لا أعرف ما إذا كنت نسيتها في القطار اعتمادًا على أن صديقي, الذي هو بعمر أولادي سيحملها عني, كما فعل حين كنا في الطريق إلى المحطة, وسواء كانت الشنطة ضاعت, أم سرقت, أم نسيت, فالمحصلة النهائية أن العبدلله أصبح - يا ولداه - (بدون) مكعب! أي أسوأ أنواع (البدون) حالاً وحظًا وواقعًا! ذلك أن معشر البدون يفتقرون إلى الهوية وبطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر وشهادة الجنسية, إلى آخر ما يدلل على مواطنتهم, إلا أنهم يملكون ما يقيم أودهم. أما العبدلله فقد تحوّل إلى حافٍ و(مديونير) لا يملك شروى (سندويش فلافل) ولله الحمد!

ومن هنا نعت ذاتي بـ(البدون) المكعب, الذي لا يملك شيئًا البتة! طرنا بسيارة الأجرة كجلمود صخر حطه السيل من علٍ (أو من حسين إن بغيت!), ميممين صوب محطة القطار الرئيسية بالدار البيضاء. هرعنا إلى مكتب المفقودات, سجلنا ووثقنا واقعة ضياع الشنطة وما فيها. نظر إليّ الموظف المختص بالمفقودات نظرة تنطق بقولة: (يالك من عروبي معتبر! كيف تضع كل ما تملك, وجميع ما يعرف بهويتك وكل مستلزمات الإقامة والتجوال والسفر وممارسة الحياة اليومية (البورجوازية), اللائقة بإنسان ينتمي إلى قبائل (بني نفط) في شنطة يدوية?! اتصل بالتلفون كثيرًا, محاولاً الاهتداء إلى شنطتي دون جدوى. قال - وهو ينهي المقابلة بتعاطف واضح مع محنتي - سأتصل بك إذا جد جديد, مر عليّ غدًا لأمنحك شهادة تسهل شكايتك لدى مخفر الشرطة عن واقعة فقدان الشنطة.

تحسست جيبي قبل أن أغادره, وإذا بي أعثر على مفتاح الشنطة, وأدت فرحة سوداوية عبثية غير مشروعة, وأنا أتذكر (الأغنية الزجلية الضاحكة: (سرقوا الصندوق يا محمد...لكن مفتاحه معايا!).

ولم أقل لموظف المفقودات إن مفتاح شنطتي المفقودة بحوزتي, خشية أن يتأكد انطباعه بأن هذا (العروبي) المشرقي يشابه أولاد عمومته الجنوبيين القادمين من غياهب الصحاري!

رهين المحبسين

  • باختصار, ودون الخوض في التفاصيل المملة أكثر مما فعلت, حسبي الإعلان بأني صرت في القطر المغربي الشقيق - كما أسلفت آنفًا - دون هوية ولا جنسية...و...لا شيء البتة سوى ملابسي الموجودة بالفندق...ولله الحمد!

ومن ساعتها, ابتدأت معاناتي كإنسان (بدون)..! وزاد طين محنتي بلة أن بليتي حدثت مساء الجمعة, الأمر الذي يفرض عليّ الانتظار إلى حين صباح الاثنين القادم, لأتمكن من الاتصال بالسفارة والقنصلية في (الرباط) العاصمة.

قبعت بالفندق أضرب أخماسًا في أسداس, بحثًا عن حل لمشكلتي, معللاً النفس - في لحظة تفاؤل رومانسية - بأن الإنسان الذي أخذ الشنطة بقصد الاستحواذ على المال, قد يكون لصًا إنسانًا (حضاريًا) فيعيد إليّ جواز السفر, والبطاقة المدنية وغيرهما! فقد قرأت في الصحف, وشاهدت مسلسلات وأفلامًا, تؤكد تفاؤلي السالف ذكره. لكن دراما الحياة اليومية ليست بالضرورة مضاهية لدراما التلفزة والسينما.

وهكذا أمضيت عطلة نهاية الأسبوع داخل الفندق لا أبرحه, تتنازعني مشاعر الخشية والرجاء. فكلما لعلع التلفون بالرنين, فزّ قلبي وأنا أمسك سماعته, فتهبط عليّ خيبة الأمل حين يكون المتصل أحد أصدقائي المغاربة متسائلاً عن آخر أخبار (الفقيدة) - رحمها الله!

سجن خمس نجوم!

  • أنا الآن في سجن ذي خمس نجوم, فلو غادرته إلى السوق, أو التسكع في الشارع, والتصعلك في الأسواق الشعبية, فلن يكون في مقدوري ذلك, لأن سيولتي المالية تتناقص, وفي سبيلها إلى النضوب! زد على ذلك, إمكان أن يستوقفني رجل أمن ليسألني: (شكون أنت?) مطالبًا إياي بمعرفة هويتي, ورؤية ما يدلل عليها! ولن ألومه بطبيعة الحال, فهذا من حقه وواجبه, سيما أنه حدث أمس حادث إرهابي استهدف سائحين أجانب في أحد فنادق مدينة مراكش. ومن هنا كنت أسير في الشارع على إيقاع (كاد المريب أن يقول خذوني)! فكلما التقيت شرطيًا, أو سيارة بها ثلة من الدرك الملكي أشحت بوجهي لأداري قلقي وأحجب خشيتي!

وأذكر مرة - بالمناسبة - أني كنت في (ساحة جامع الفنا) بمراكش, أفترس رأس خروف مشويًا بمطعم شعبي, وفوجئت بالدركي يختارني ويصطفيني من دون روّاد المطعم المختلفي الجنسيات, ليطالبني ببطاقة التعريف والهوية! مع أن سمتي وهيئتي يشيان بأني مراكشي قح كما يقول الأخوة المغاربة أنفسهم! ويومها وجدتني أغضب لظني أن الدركي اقتحم خصوصيتي, وليس من حقه أن يطالبني ببطاقة التعريف, سيما أن أكلة رءوس الخراف المشوية ليست ممنوعة, ولا يحتاج أكلها إلى التحقق من هوية آكلها! حين نظر في جواز سفري - وكانت طلعتي البهية بالملابس العربية الخليجية - أعاد إليّ الجواز وهو يعتذر قائلاً: سامحني ياخويا (خممتك) وخمنتك وحسبتك جزائريًا! وكانت العلاقة بين الأخوة (الأعدقاء) - المغربيين والجزائريين - في أسوأ حالاتها!

والعبدلله يؤمن بمقولة شعبية يلعلع بها إخوتنا في مصر المحروسة تقول (إمشي عدل يحتار عدوك فيك). لكن إيماني وسط ضياع شنطتي, إياها مثلوم ومجروح! فكيف لي السير (دوغري) وباستقامة وأنا (بدون) وثيقة تعرف بي?! ومن هنا حق لي أن تستحوذ عليّ مشاعر الخوف المرضي, المنعوت حركيًا في قاموس التحليل النفسي بـ (الفوبيا) - والعياذ بالله - فالخوف غول يفترس الإنسان غير المدجج بسلاح الهوية والمواطنة والأنا.. وكل ما يؤكد وجوده الشرعي القانوني الحقوقي!

ودرءًا للمشاكل التي يمكن أن يتعرض لها المرء جراء فقدان وثائق الهوية, آثرت أن أقبع في الفندق لا أبرحه أبدًا, إلى حين صباح الاثنين موعد بداية عمل السفارة الكويتية في مدينة (الرباط), أي أنه عليّ الانتظار أزْيَد من يومين, لأتمكن من الاتصال بالقنصلية, علّها تجد لي حلا لمسألة فقدان الهوية!

ووسط السجن المرصع بخمسة نجوم, وجدتني أفكر مليا بأحبتي: أصدقائي (البدون) وأستدعيهم إلى ذاكرتي, فزارني على التو الصديق العزيز الشاعر والكاتب الصحفي (سليمان فليّح), فسألته حالما تربع في الذاكرة: كيف كنت تسيّر حياتك اليومية وأنت (بدون), كما يقول القوم هنا? أطلق تنهيدة طافحة بالأسى والشجن والحزن النبيل وقال: لعل (شادي الخليج) مطرب الكويت الكبير قد جسد حالتي - وحالتك أيضًا - حين شدا (حالي حال.. كيف أسوي.. كيف أحتال?!).

قلت له: دعك من كلام الأغاني, وحدثني عن معاناتك في حياتك اليومية, قال - وهو يمد شاربه - بصراحة في فمي ماء, وفي زوري وبلعومي (بحصة) - كما يقول إخوتنا في لبنان - الحق أثارني تحفظه وزأرت فيه قائلاً: (تف) الماء وأخرجه من فمك. أما (البحصة) فـ (بقها) وتكلم حتى أراك كما أنت, كي أستعد للمعاناة التي تنتظرني في ثنايا حياتي اليومية القادمة. قال: إن مسألتك بسيطة جدًا, فكل ما فقدته ستحصل على (بدل فاقد) سوى الفلوس.. ربنا يعوضك خيرًا.

  • الحق أني أرهقت نفسيًا من شدة التفكير في حالة (فقدان الهوية), ولم أجد مناصًا من طلب أن يعودني الطبيب.

نصيح ومواعظ

ولجأت إلى طبيب نطاسي (ولا تسألني عن معنى نطاسي الآن بحق الله, اسأل مجمع الخالدين في الزمالك, أو اتصل بالربع في رابطة الأدباء) ما علينا!

قال الطبيب - وهو يقيس النبض - ضغطك عال, وحرارتك مرتفعة, ودرجة (الاشمئناط) عندك توجب نقلك فورًا إلى المستشفى.. و.. و.. قاطعته قائلا: ليس في مقدوري دخول المستشفى مطلقًا, لأني - ببساطة - لا أمتلك هوية تعريف. فأنا الآن: السيد إكس.

ضحك صاحبنا, ظانًا أني أمزح وأستخف دمي! ذهبت بمعيته إلى المستشفى - على مضض - وسط مشاعر تذبذب بين الخشية والرجاء بشأن قبول إدخالي المستشفى دون هوية.

ولا حاجة بي إلى القول إن إدارة المستشفى رفضت وجودي, على الرغم من وساطة الطبيب, وعدت أدراجي إلى الفندق, متأبطًا خيبة الأمل, ومعتمدًا الإحباط, وموكلاً نفسي إلى الحي الذي لا ينام!

إن الناس في مثل حالتي هذه, لا يملكون أن يقدموا للعبدلله سوى الكلام والموعظة, واحد يقول: شدة وتزول, وثان يربت على ظهري مهونًا الأمر, وثالث ينصحني بالركون إلى الراحة وعدم القلق, إلى حين بداية أول الأسبوع لمكالمة السفارة الكويتية, ورابع يكبرني سنًا لم يوفرني من التقريع والتوبيخ جراء إهمالي الذي تسبب في ضياع الشنطة وما فيها. والمحصلة قبض الريح الذي لا جدوى منه.

ووسط هذا المناخ المشحون بالتوتر والقلق جاءني تلفون من أحد أولادي يسأل: عسى ما شر? قلت: الشر كله يا ولداه!

فأنا الآن (بدون) وليس أثقل على المرء في مثل هذه الحالة, من إذاعة رواية واقعة فقدان الشنطة. رويتها للآخرين عشرات المرات, صارت بالنسبة لي كما الأسطوانة المشروخة جراء اجترارها وتكرارها. بصراحة صارت رواية الواقعة, مملة, ومؤلمة, وتثير الأسى والحزن على (الربع البدون)!

الولد يقول لي بهدوء أعصاب يغبط عليه: لا عليك يا أبتاه, المسألة لا تستأهل ردة فعلك هذه المدججة بكل المشاعر السلبية, باكر - السبت - سأذهب إلى الإدارة العامة للجوازات لأقدم بلاغًا بالواقعة, وقاطعته محتدًا, وتريدني أن أقبع في مكاني ثلاثة أشهر إلى حين نشر الواقعة في الجريدة الرسمية (الكويت اليوم), وربما تلجأون إلى الإعلانات المبوبة - بسبب أو لآخر - معلنين أن (البابا: خرج ولم يعد). قاطعني - هو الآخر على غير عادته - قائلا: يبه.. هونها وتهون.

قاطعته - بسخرية مرّة - تقول (هونها وتهون)?!

ما أسهل (الحكمة) و(الموعظة) عندما يلعلع بهما إنسان (يده في المياه الباردة), ولم يكابد مطلقًا معاناة الحياة دون وطن, ولا هوية, ولا بطاقة تموين, وملف صحي, وكرسي دراسة أو مقعد دراسي أرض أرض كما كنا نتعلم في مدارس (الملالوه) الملا مرشد, والملا سليمان, والملا الخنيني وغيرهم رحمهم الله جميعهم, قلتها وسكت قليلا لأكرع حسوة ماء أرطب بها لساني الناشف من الحزن والنكد والقهر! فاهتبل الولد المحروس بالسلامة الفرصة ليقول لي: أشوفك رحت بعيدًا في خيالك الطافح باليأس والقنوط, فضلا عن الأوهام التي جعلتك تبالغ في توصيف حالتك! من قال إنك بدون? قلت - متبرمًا - الحرامي الذي سلب الشنطة وما فيها! ولقد هم بأن يستغل كوني أبًا ديمقراطيًا قسرًا وعنوة, وبحكم الظروف ويقول: الحق عليك, لا تعلق إهمالك على مشجب سوء الحظ, والقدر, وصديقك المغربي الطيب, لأن كل هذه المبررات لن تعيد إليك الشنطة مطلقًا, الحق أن الولد لم يقل ما ورد على لسانه بالصيغة الصريحة التي سطرتها, ولكنه قالها بعد أن زوقها بعبارات الحشمة وأدب مخاطبة الوالد (سي السيد)! وهذا ما كان يعنيني - ساعتذاك - وهو أن الشنطة ضاعت أو سرقت, لكن هيبة السيد الوالد حاضرة لم - ولن - تضع!

السكن في (بانسيون) البدون!

كان حريًا بي - بحكم وضعي (البدون) إياه وشح الدراهم.. إلخ مغادرة الفندق الفخيم إلى (بانسيون) شعبي جدًا يضاهي مساكن (البدون)! عل تعاطفي مع محنتهم ينطوي على بعض معاناتهم ومكابدتهم. راقت لي الفكرة بحق, واستفتيت قلبي ودراهمي, فوجدتني مستقرًا على حافة سرير سفرتي بمعية ثلاثة مغاربة, يبدو أنهم فلاحون أو رعاة غنم وإبل. الشاهد: راعهم أن يكون خليجيًا نفطيًا يقطن معهم بالنزل نفسه! وأنعته بـ (النذل) مجازًا أو مزجًا, لكونه لا ينتمي إليهم لا من قريب ولا من بعيد.

ورأوا في وجودي الغريب: مشروع قصص, وحكايا تغنيهم عن سماع (الحكواتي) الذي يتحلقون حوله في ساحة ميدان جامع الفنا بمدينة مراكش! وأستأذن القارئ في استطراد بسيط: الميدان المذكور, يعد من أشهر معالم مدينة مراكش, إن لم يكن أشهرها! وقد اعتبرته هيئة اليونسكو - ميدان جامع الفنا - تراثًا إنسانيًا شفويا لا يجوز مسه, ويجب المحافظة عليه بكل السبل, لأنه فضاء فريد لا مثيل له, وسأخصه بمقالة درامية في الأعداد القادمة.

نعود الآن إلى البانسيون حيث قام العبد لله بدور (الحكواتي) الذي مل من رواية حكايته!

إلا أن احتفاء هذه الثلة بي, وحدبهم عليّ: حرضني على أن أرويها بنبرة هادئة خالية من الانفعال, فقد يكون حالهم أسوأ - لاحقًا - إنهم لا يعرفون من المشرق سوى (مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف!).

ولم يسمعوا بجواز السفر, وتذكرة الطيران, وبطاقة الائتمان, إلى آخر عدة وعتاد وأسلحة وزاد السائح النفطي الخليجي.

وحين عرفوا - بعد لأي - أن كل الضجة و(الهلمة), واستجلاب مشاعر القنوط والحزن والاكتئاب: كرمى لبطاقة التعريف (ديالي) انفجروا ضاحكين! مع أني لم أقل نكتة تثير الضحك, بل واقعة تستدعي النكد! اقال كبيرهم الذي علمهم الصعلكة في البلاد بدون هوية (بطاقة تعريف: (إنهم لا يحتاجون إلى بطاقة تعريف, ولا يستخدمونها سوى مرة واحدة كل أربع سنوات, حيث يحضرها وكلاء مرشحي البرلمان لهم - كما طلبات الوجبات السريعة - إلى غاية دورهم وخيامهم وعششهم وبيوتهم الصفيحية, في (موسم) الانتخابات البرلمانية كل أربع سنوات!

وبصراحة, لقد غربت, وشرقت, وسحت في أرض الله الواسعة, وقابلت شتى أنواع البشر, لكن هؤلاء الصحبة الثلاثة الطيبين لم أجد راحة وسكينة وتواصلاً معهم يشبهه, فضلاً عن أن نسيان وتناسي بليتي لم يتم إلا حين احتضنتنا تلك الغرفة البسيطة المتواضعة التي تعبق جنباتها رائحة الشاي المغربي الصحراوي الأخضر, المعطر بالنعناع والمحلى بالسكر الكثير, والذي كان حاضرًا طوال وجودنا في الغرفة العشة! وثمة طباخ غاز (ميكرو) صغير يفي لغرض إعداد الشاي.

وهنا تداعت إلى ذاكرتي خدمة الغرف بالفنادق الفخيمة ذات النجوم الخمس, بينما كان (بانسيوننا) دون نجوم, سوى أنك ترى فيه (النجوم) في عز الظهر!

فالغرفة في البانسيون هي غرفة النوم, والأكل, والطبخ وغسيل الملابس وكل شيء ولله الحمد.

وفي صباح يوم الاثنين الباكر, كنت أمام بوابة سفارتنا في (طريق زعير) برباط الفتح, العاصمة السياسية للمملكة المغربية, نفحت سائق التاكسي الذي نقلني من محطة القطار بالرباط إلى السفارة آخر ما تبقى بحوزتي من دراهم, وتلقفني (سي العربي) الفراش العتيق بالسفارة بالأحضان, وهمست بأذنيه بتردد وحسرة: كاين عندك عشرة دراهم يا سي العربي?

أجاب بحماس ونخوة واضحين: كاين يا سيدي ثم نظر إليّ بعين متوجسة متحفزة فاحصة, للتأكد من أني بحاجة ماسة إلى العشرة دراهم بشدة, لأشتري بها قلمًا أكتب به طلبًا لسعادة القنصل العام ليمنحني ورقة عودة للديرة صالحة لسفرة واحدة وتؤخذ مني بالمطار, لأذهب إلى المنزل دون ركام البطاقات والهويات وكل تجليات الهوية الوطنية التي يتمتع بها كل كويتي بالتأسيس أو بـ ...!!

لكن أتريد أن أقول لك الحق: أفكر الآن في الحرامي (المحتاس) المحتار كيف يفتح شنطتي المشفرة.. بينما مفتاحها بمعيتي?!

والحق - أيضًا - لا لوم ولا تثريب على سرقته المال الخاص بي, ولا أخاله سيشعر بالذنب وهو يرى المال العام (سداح مداح) مستباح في الليل والصباح.. يسلبه الكبار دون خشية, ربما لأنهم يظنون المال العام (سبيلاً) مباحًا يمارسه الحرامية دون جناح! ومعذرة للسجع الذي اقتحم السياق (بدون) تأشيرة مرور تمنحه حق الصياح!

ولكن مالنا وللمال العام وسراقه, فقد بات (عاما) ينهبه الحرامية (بدون) خشية ولا إحساس بالذنب أبدًا, ومن أمن العقوبة أساء الأدب! ولذا تجد سجون بني يعرب تعج بصغار السراق والحرامية فقط لا غير! وصغار تجار المخدرات فقط! ومن لف لفهم.

وبالرغم من البق والحشرات التي تشاركنا السكن في الغرفة الكالحة - كزنزانة سجن أثرية - لم أتبرم من سوء الخدمة (الفندقية) إن لم أقل غيابها, سيما أن رفاق الغرفة الزنزانة يمثلون الإنسان العربي المغربي الصحراوي النقي (المفلتر), الذي لم يتلوث بعد (بعوادم) ودخان وسموم ونفايات الحياة الحضرية المدنية للحواضر العربية الحديثة.

باختصار: طاب لي المقام في (بانسيون البدون), لأن الرفاق البدو طيبون, ويتسمون بحسن المعشر والاحتفاء بـ (الضيف) الحافي القادم من مضارب بني نفط المنعمين!

ومن هنا حين اضطررت إلى وداعهم, لعودتي إلى وطني بورقة مرور صالحة لسفرة واحدة, ومحددة باتجاه العودة ولا إياب ودعتهم على مضض, ربما لأني كنت (بدون) مؤقتًا عشت معاناتهم كمن يكابد المعاناة في معسكر تدريب.

ومهما يكن الأمر فالإنسان البدون - عنوة مثل العبد لله, أو ظلمًا وجورًا مثل البدون الذين أخبرهم وأعرفهم عن كثب - وصمة عار في جبين الإنسانية, وستظل كذلك إلى حين زوالها من كل الأمصار العربية والإسلامية والأجنبية إلى الأبد!.