القدس كما عرفتها.. نقولا زيادة نقولا زيادة

القدس كما عرفتها.. نقولا زيادة

هذه شهادة مؤرخ حول مدينته التي ضاعت. القدس درة المدن العربية التي نفقد كل يوم جزءًا منها. كأنها روح تتسرب خفية من جسدنا العربي المغشى عليه. فمتى نستفيق?

عرفت القدس لنحو ربع قرن تقريبًا بين سنتي 1921 و1947. لكن هذه الفترة يمكن تقسيمها إلى ثلاث: أولاها طالب علم في دار المعلمين 1921-1924; وثانيتها زائر زيارات متتابعة أثناء عملي في مدرسة عكا الثانوية 1925-1935; وثالثتها مقيم في القدس, أستاذا في الكلية العربية 1939-1947. وكان لكل من هذه الفترات سبيل للتعرف على القدس يختلف اختلافًا جذريًا عنه في الأخريين.

بعد دخولنا دار المعلمين (1921) بنحو أسبوعين تقريبًا, قال لنا مدير دار المعلمين الدكتور خليل طوطح إنه سيرافق الطلاب الجدد جماعات لزيارة المدينة بقصد التعرف على معالمها. شعرت بمنتهى الغبطة لذلك الإعلان. كانت الزيارة الأولى لسور القدس. هذا السور بناه السلطان سليمان القانوني سنة 1543. كانت ثمة أجزاء صغيرة من الأسوار تعود في تاريخها إلى فترات سابقة, لكن الصيغة الأساسية هي تلك التي تمثل عناية السلطان سليمان بالمدينة المقدسة.

كان سور القدس لا يزال قائما, درنا حوله من الخارج حينا ومن الداخل حينًا, ودخلنا من بوابة وخرجنا من أخرى.

خرجنا من مبنى دار المعلمين وسرنا بضع دقائق فوصلنا باب الزاهرة (الساهرة), وهو أحد الابواب في الجهة الشمالية من السور. لم ندخل المدينة ولكننا جارينا السور من الخارج متجهين غربًا, فوصلنا بعد دقائق باب العامود. وله اسم آخر هو بوابة دمشق (Damascus Gate), لأن الطريق الذي يبدأ عنده ويتجه شمالاً كان, في نهاية المطاف, يصل بالمسافر إلى دمشق. بعد بضعة أمتار من باب العامود ندور بزاوية السور, ونصعّد في اتجاه شمالي جنوبي في شارع السلطان سليمان إلى الزاوية الجنوبية الغربية من السور, مارين بالباب الجديد الذي فتح أيام عبد الحميد الثاني (1876-1909). ذلك أن المنطقة المصاقبة للسور من الداخل كانت قد ازدحمت بالسكان والمدارس, وأصبح الوصول إليها من الأبواب الأخرى شاقا, فكان فتح هذا الباب تيسيرًا لأعمال السكان.

بعد الباب الجديد ببضعة أمتار نصل إلى الزاوية الجنوبية الغربية للسور إذ بعدها يتجه السور شرقا مع ميل نحو الجنوب حتى يصل باب الخليل (الذي كان يسمى بوابة يافا (Jaffa Gate), لأنه يؤدي, في نهاية المطاف إلى يافا على الساحل), وفيها كان يتم انتقال السكان القادمين بحرًا, زائرين للأراضي المقدسة أصلا, وتجارا ورسلا سياسيين إلى البلاد فيما بعد.

وإلى جانب باب الخليل كانت ثمة ثغرة في السور تعود إلى سنة 1898. في تلك السنة قام غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا بزيارة ديار الشام, وكان من الطبيعي أن يزور القدس. لكنه أبى أن يمر من باب في سور بناه سلطان آخر, فكان له ما أراد إذ إن عبد الحميد أمر بهدم هذه الثغرة كي يمر غليوم عبرها.

في الجهة الجنوبية من السور يقع باب رئيسي هو باب النبي داود. هذا الباب كان يصل أرباض القدس الخارجية بالداخل. ويسمى أحيانًا, عند الطوائف المسيحية (باب العليّة). ذلك بأن العشاء الأخير الذي أعد للسيد المسيح, والذي قبض فيه عليه لمحاكمته والحكم بصلبه, أقيم في قاعة كبيرة في الدور الثاني مما يسميه أهل القدس (عليّة).

نحن دخلنا من باب الخليل إلى ساحة القلعة, التي كانت تقوم فيها بقية من القلعة الرومانية القديمة, وما بني بعدها على مر الدهور مررنا فيها بكنيسة إنجيلية بناها الإنجليز في القرن التاسع عشر.

ولكن أهم ما مررنا به في اتجاهنا نحو باب النبي داود من داخل السور هو دير الأرمن. كان هذا الدير معلمة مهمة في القدس. بنيت بعض أجزائه في القرن السادس عشر لما ازداد عدد الأرمن الذين يقيمون في القدس. ومع توالي الزمن اتسع بحيث أصبح شبه بلدة, إذ كانت تقوم فيه كاتدرائية ومنازل كثيرة للسكن وحوانيت ومصانع.

درنا به ووصلنا باب النبي داود ثم سرنا داخل المدينة محاذين لساحة الحرم الشريف وبعد اتجاه شمالي وصلنا إلى باب في الجهة الشرقية من السور, فخرجنا وسرنا في موازاة السور شمالاً, ودرنا غربًا, فإذا نحن مرة ثانية أمام باب الزاهرة.

تسلقنا السور حيث يمكن, وأشرفنا على جزء من المدينة القديمة.

تجاور الأديان

كانت الزيارة الثانية لساحة الحرم الشريف. والدكتور طوطح كان يعرف تاريخ القدس, وقد وضع كتابا في تاريخها بالاشتراك مع بولس شحادة صاحب مرآة الشرق. ومن هنا كانت رفقته في زيارة القدس أكثر من مجرد وقوف على الأطلال.

يومها رأيت للمرة الأولى أثرًا عربيًا إسلاميًا مطعمًا بالفن البيزنطي في قبة الصخرة المشرفة, وتخطيطا لجامع كبير بناه عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي كي تبدو عظمة الإسلام لزائري المدينة المقدسة.

أما الزيارة الثالثة, فكانت إلى كنيسة القيامة, التي بنتها الملكة هيلانه أم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين (312-337), وهو الذي اعتنق المسيحية, وجعلها أولاً دينًا من الأديان المعترف بها في الإمبراطورية, ثم اتخذت, فيما بعد, دين الدولة الرسمي. جاءت هيلانه لزيارة الأرض المقدسة, وبنت كنيسة, حيث ولد المسيح في بيت لحم وأخرى ضخمة في القدس, حيث حكم عليه وصلب وقام في اليوم الثالث.

لا يتسع المقام هنا لوصف مفصل لكلا المكانين كنيسة القيامة وساحة الحرم الشريف. والذي قصدته أنا من هذه الرواية إنني, أنا شخصيا, أخذت بالفن الذي تمثل في مبنيين رئيسييّن للمسيحية والإسلام. شغفت بالمكانين, وما أكثر ما زرتهما, وأنا تلميذ في دار المعلمين. كنت أحمل معي كتابًا وأذهب إلى ساحة الحرم أجلس على الأرض راكزًا ظهري على جدار الصخرة أو المسجد الاقصى, مستمتعا بالهدوء والطمأنينة, التي كانت تمثلهما أسراب الحمام التي تطير في الأجواء, وتبدو كأنها تسبح في عالم الأحلام - مثلي أحيانا.

أما كنيسة القيامة فكنت أذهب للصلاة فيها, لكن لأن القداس, بما فيه قراءة الإنجيل, كان يتم باليونانية, فقد عزفت عن زيارة العبادة. ولكن في إحدى السنوات قضيت أربعًا وعشرين ساعة داخل كنيسة القيامة لأحضر الطقوس الدينية المتعلقة بالسيد المسيح. وكانت تجربة لا يمكن أن تنسى. لكن القدس التي عرفتها تلك السنوات لم تقتصر على زيارة المكانين المقدسين, وهما ليسا القدس كلها.

لندخل الآن إلى قلب المدينة المقدسة. كنا ننتقل من المدرسة إلى باب العامود لندخل إلى المدينة. هناك كنت اجتاز شارعا مهمًا - باب أو شارع خان الزيت. هذا يبدأ بعد دخولك باب العامود بنحو خمسين مترا.

هو شارع مسقوف بزجاج أصفر قليلاً, بحيث يمكن للنور أن يدخل اليه. كان الشارع ضيقا ومبلّطا, ولم يكن يسمح للخيل أو الجمال بالمرور فيه - حتى الحمير كانت تجتازه على مضض.

في هذا الشارع مطاعم يلجأ إليها القادمون من الريف لقضاء حاجاتهم. وكانت في هذا الشارع حوانيت لكل ما يحتاج إليه الرجل العادي, وكان زبائنه خاصة من أهل الريف المقدسي. كان هؤلاء يقصدون القدس يوم الجمعة للصلاة في المسجد الأقصى. وعندها يمرون بهذا الشارع ليبتاعوا حاجاتهم على اختلاف أنواعها - ثيابًا, أدوات منزلية, مواد غذائية وأشياء لا توجد في القرى.

الشارع يبدو طويلاً, إذ إنه يجدر بك أن تسير وئيدًا كي لا تؤذى. وكان في نهايته طريقان: واحد إلى اليمين يوصلك إلى القيامة والآخر إلى اليسار يحملك إلى الحرم الشريف.

فإذا خرجت من ساحة كنيسة القيامة صعدت بضع درجات يمينا لتجد نفسك أمام سوق يباع فيها كل ما يأمل الزائر أن يحمله معه من آثار الأرض المقدسة: من مجسمات لكنيسة القيامة وكنيسة المهد إلى صلبان أنيقة الصنع إلى لوحات رسمت عليها صور القديسين وكنائس القدس وبيت لحم أو نقشت عليها, إلى مسابح لا يحصى لها عدد, إلى الكتاب المقدس مجموعًا أو مجزءًا يضمه ويحنو عليه غلاف من خشب الزيتون أو الصدف. وهذا كله لا يعدو أن يكون أمثلة لما تجد هناك. وفي الأسبوع السابق ليوم الفصح كانت الشموع المختلفة الحجم والزخرف تزين الحوانيت هناك.

وأنت إذا انتهيت من هذه الفسحة المحدودة وجدت نفسك في سوق حارة النصارى. هذه السوق كنت تجد فيها كل ما يلزمك أو زوجك من القماش أو الأثواب الجاهزة. وكان فيها محلان لكي الطرابيش. ذلك بأن الذين لم يعاصروا اعتمار الطربوش, على أنه الأداة الوحيدة لغطاء الرأس, لا يعرفون, بطبيعة الحال, أن الطربوش كي يحتفظ بكيانه عندما يعتمر كان يجب أن يُقشّش ويُكوى.

أذكر أنني في سنتي الأولى في دار المعلمين (1921-1922) ابتعت طقما بنيا بمبلغ 125 قرشًا من محلات ميشيل مَنِّه. وفي نهايته الجنوبية يسلمك هذا الشارع إلى ساحة باب الخليل الداخلية.

ليسمح لي القارئ أن أتوقف عند حانوت لفتني في أول سوق خان الزيت على يسار الداخل من باب العامود. كانت في مقدمة الدكان بسطة واسعة فيها مربعات خشبية كثيرة, وفي كل منها عدد من الرسائل, كثرت أو قلت. ولكنني خجلت أن أقف فأسأل صاحب الحانوت عن هذا الذي أراه. إلا أن الرجل كان يبيع أنواع الدفاتر وأقلام الرصاص والورق وورق النشاف والحبر - وهي أمور كنا نحتاج إليها. أخذت أبتاع ما يلزمني من هذه الأمور من حانوته, فلما شعرت أنه يمكنني أن أسأله عن تلك المربعات والرسائل, أقدمت على ذلك. ابتسم الرجل, ثم قال ثمة عدد كبير من أبناء قرى القدس مهاجرون في أمريكا. هؤلاء يبعثون إلى أقاربهم برسائل بريدية. لكن البريد الرسمي لا يقوم بتوزيع الرسائل إلى هذه القرى الصغيرة. لذلك كان أهل القرى يطلبون من المغتربين أن يضعوا عنوانًا مقدسيا على رسائلهم, مثل دكان أو عيادة طبيب أو صيدلية. خطر لي أنا أن أنظم تبادل الرسائل بين الوطن وبلاد الاغتراب. بدأت بالبعض واتفقنا على أن تعنون رسائلهم بواسطتي. وفي يوم الجمعة إذ يأتي أهل هذه القرى لأداء صلاة الجمعة في القدس, كانوا يمرون بي ويأخذون رسائلهم. وازداد العدد بحيث أصبحت الوحيد, الذي عنده مكتب بريد خصوصي. إذا عثر الرجل على رسالة أخذها ودفع لي المبلغ المتفق عليه. وكثيرا ما كانوا يطلبون مني قراءة هذه الرسائل. وعندما يعدون الرسائل لإرسالها كانوا يضعونها عندي ويدفعون أجرتي وثمن الطوابع وأنا أرسلها إلى الخارج. كل هذا عن طريق البريد الرسمي طبعا. وقد يتلقى الواحد منهم شيكًا بنكيّا أو حوالة بريدية, فكان يعهد إلي تدبير أمرها وقبضها له.

أماكن يحن إليها القلب

ولنخرج من باب الخليل: عندها يبدأ شارع يافا, الذي كان يجاري سور القدس. شارع يافا كان أول منطقة انتقل إليها تجار المدينة القديمة - وكان ممن انتقلوا اليها ميشيل مَنّه الذي ابتعت من محله بدلة للتخرج (1924), كما نقل إليه عدد كبير من الحوانيت التي أصبحت تحتل أماكن أوسع وأصبحت أجمل ترتيبا.

بالنسبة لي كانت هناك مكتبة فلسطين العلمية لصاحبيها بولس ووديع سعيد (وهذا الأخير هو والد الدكتور إدوارد سعيد الكاتب والناقد والمفكر والسياسي المعروف).

هذه المكتبة تعرفت عليها في زيارة أو اثنتين, وأنا تلميذ في دار المعلمين. لكن في الفترة التي قضيتها أستاذًا في مدرسة عكا الثانوية (1925-1935), كانت مكتبة فلسطين العلمية أحد الأماكن التي أحج إليها. وقد كانت صلتي بعالم الكتب الإنجليزية التي كنت أقتني منها عددًا كبيرًا في التاريخ وما يمت إليه ويحيط به.

ومن أطرف المقاهي التي سمعت عنها في القدس يومها مقهى البرستول, الذي كان خلف السور مباشرة وقد ثقب السور خصيصًا للوصول إليه. هذا, الذي عرفته فيما بعد, كان مطعمًا وبارًا على النمط الإنجليزي. في نهاية سور القدس المصاقب لشارع يافا كانت ساحة صغيرة تسمى ساحة البوسطة (فيما بعد ساحة اللنبي) وفيها يقع المطعم الوطني, الذي عرفته مباشرة أثناء زياراتي المتكررة إلى القدس من عكا.

هنا, باستثناءات قليلة, كان ينتهي الجزء الأصلي العربي من شارع يافا, الذي يمتد غربًا مسافة طويلة. إذ فيه كانت تقوم مبان يهودية تمتد على جانبيه للتجارة والمكاتب والسكن.

أما وقد انتشرنا خارج القدس فلنشر إلى مبنى متوسط السعة كانت تقوم فيه يومها جمعية الشبان المسيحية, التي كانت تحيي نشاطات علمية وفنية كبيرة بالنسبة لتلك الأيام. أذكر أنني حضرت فيها سلسلة من المحاضرات عن فضائل الأديان: تكلم فيها عن المسيحية القس الياس مرموره, وعن الإسلام الشيخ نديم الملاح وعن البهائية حسين روحي (أحد كبار موظفي إدارة معارف فلسطين يومها). ولم أحضر المحاضرة عن اليهودية.

وكانت ثمة (جمعية) تتألف من الموظفين البريطانيين في حكومة فلسطين وقريناتهم تقدم رواية لشكسبير سنويًا. حضرت فيها أول رواية إنجليزية - مكبث.

وكان شارع ماملاّ (أصلها مأمن الله) من الشوارع الرئيسية في ظاهر المدينة. شارع تجارة ومطابع وشوية كتب عربية (هذا عن فترة 1921-1924).

وما دمنا قد أصبحنا خارج السور فلنتحدث عن ضواحي القدس. ونحن إذا بدأنا في الجهة الشمالية الشرقية, وجدنا وادي الجوز, الذي يبدو أن سكانه, وقد خرجوا من المدينة القديمة, كانوا من أصحاب الأعمال الصغيرة أو المتوسطة, لكن عندما نتجه غربًا, نقع على حي الحسينية الذي يقوم على تلة مرتفعة قليلاً وتزينه بيوت قليلة لكنها جميلة. وهناك كانت تقع مباني دار المعلمين المتواضعة, التي كانت أصلا للسكن, لكن مديرها رتبها, بحيث إنها أصبحت صالحة لأن تكون مدرسة.

وبعد هذه المباني - إلى الشمال منها - كان يقوم مبنى كبير هو المدرسة الأمريكية للدراسات الأثرية. وإلى الشمال من حي الحسينية يقع حي الشيخ جراح, الأقل مساكن, ومن سكانه إسعاف النشاشيبي, ولكنه الحي الذي نما على نحو سريع في السنوات التالية.

وأكبر حي خارج السور في الشمال كان حي المصرارة, الذي يصله باب العامود بداخل المدينة. كان الأكثر ازدحامًا وتنوعًا سكانيًا, ويكاد يتمتع ببعض الاستقلال من حيث حوانيته, التي كانت تلبي حاجات السكان الأساسية. وأكبر معالم هذا الحي المدرسة الدستورية, التي أنشأها خليل السكاكيني سنة 1909, تيمنا بإعادة الدستور (1908).

وكان ثمة مبنيان كبيران شمالي حي المصرارة - الأول دير الآباء الدومينيكان, الذي كان يحتوي على أغنى مكتبة في المنطقة للدراسات التاريخية والدينية في فلسطين.

أما المبنى الثاني فهو المجمّع الأنجليكاني, الذي كان يضم كاتدرائية كبيرة ودار إقامة المطران الانجليكاني ومكاتبه ومدرسة المطران الإنجليزية, التي يعود إنشاؤها إلى أواسط القرن التاسع عشر (اسمها الرسمي مدرسة سانت جورج, لكن لأنها كانت تقوم في المجمع المطراني, أطلق عليها مدرسة المطران).

في الجهة الغربية كانت ترتفع تلة الطالبية, وهذه اختارها الأغنياء من الطائفة الإنجيلية للانتقال إليها, وظلت وقتًا طويلاً, يسكنها هؤلاء ومن انضم إليهم, لكنها لم تكن حكرًا عليهم.

والجهة الجنوبية الغربية من القدس, القطمون, اختارها مبدئيًا وجهاء الطائفة الأرثوذكسية. في هذه الضاحية بنى خليل السكاكيني بيتًا له فيما بعد كنت أتردد عليه فيه لما سكنت القدس (بعد 1939).

لعل الضاحية الجنوبية كانت الأكثر ازدحامًا بالسكان بالنسبة لضواحي القدس الأخرى. فكان فيها البقعة التحتة والبقعة الفوقة. كان يغلب على سكان الأولى أبناء البلد ممن خرج من القدس القديمة, كما كانت تضم بعض الأسر, التي انتقلت من القرى الجنوبية القريبة من القدس. أما البقعة الفوقة - وكانت تسمى الكولونية الألمانية - فكان قد أنشأها فريق من الألمان الذين هاجروا إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر, على اعتبار أن نهاية العالم قد اقتربت, باقتراب نهاية الألف الثاني على ميلاد السيد المسيح. وانضم إلى هذه الناحية من الضاحية بعض سكان المدينة القديمة. هذه الضاحية كانت تصاقب طريق بيت لحم.

وقد قدر عدد سكان القدس في تلك الأيام بنحو 000ر90 نسمة.

مدارس وشخصيات

كانت ثمة مدارس ثانوية في القدس, بعضها كان يعود تأسيسه إلى أواسط القرن التاسع عشر. منها مدرسة سانت جورج (مدرسة المطران), التي كانت تقوم على نظام المدارس الداخلية في إنجلترا من حيث التدريس والعناية بالأخلاق والنظام والرياضة. كان مديرها يومها رينولدز, الذي تولى إدارتها نحو ثلث قرن.

كان خليل بيدس أستاذ اللغة العربية فيها. وهو ضليع باللغة الروسية وصاحب قلم أنيق رشيق. نشر مجلة النفائس لسنوات, وترجم الكثير من عيون الأدب الروسي إلى العربية.

كان خليل بيدس من الناصرة, وكنا جيرانا في المنطقة, فقد كان يأتي لزيارتنا وتفقد أمورنا, نحن الطلاب الناصريين.

والمدرسة الإنجليزية الثانية كانت معاصرة للأولى هي صهيون (مدرسة المطران غيبوت الإنجيلي, الذي كان هولانديا), لكنها عرفت باسم مدرسة صهيون لأنها كانت تقوم على جبل صهيون.

وكانت تقوم في حي المصرارة (كلية الشباب), الأحدث عهدًا, والتي طورت تدريسها فيما بعد بحيث كانت تقدم مساقًا كاملاً في الآداب يعادل البكالوريوس, وكان من خريجيها حسن الكرمي, اللغوى المعروف والقاموسي المبرّز.

وفي الجهة الغربية من القدس, وعلى مسافة ليست باليسيرة كانت تقوم مدرسة شنِلّر الالمانية, التي أنشئت سنة 1862 واسمها الرسمي دار الأيتام السورية, لكن لأن مؤسسها كان القس هرمان شنِلّر غلب اسمه على الاسم الرسمي. كان بعض تلاميذها الاوائل من أيتام حرب لبنان الأهلية في الستينيات. وهذه المدرسة كانت تختلف عن المدارس الأخرى, في أنه كان فيها قسم للصناعات (مقابل التعليم الثانوي الأكاديمي) كان متخرجوه مضرب المثل في الإتقان والجودة وقد أقفلت عند احتلال بريطانيا فلسطين, ثم فتحت بإدارة رئيس أمريكي (المستر آش), لكنها أعيدت إلى صيغتها الألمانية فيما بعد. وقد كان رئيسها أيام كنت في دار المعلمين ثيودور شنلّر, حفيد المؤسس. (في الأربعينيات المتأخرة من القرن العشرين اشتد الضغط الصهيوني على المدرسة الألمانية. فانتقلت بفروع ثلاثة إلى الناصرة وعمان ولبنان (في خربة قنافِر في البقاع), والذي أعرفه أن فرعي عمان ولبنان لا يزالان حتى اليوم يقومان بالخدمة التربوية, لكنني لا أعرف عن فرع الناصرة تمامًا).

وتعتبر مدرسة الفرير النموذج الفرنسي للتربية والتعليم في القدس. وهي واحدة من عشرات المدارس, التي فتحتها منظمة الفرير الكنسية في أنحاء العالم.

وكانت للبنات كلية مس روبرتسون (المدرسة الإنجليزية للبنات) هذه طورت فيما بعد لتصبح كلية على مستوى كلية الشباب.

وعلى نحو ما كان للإنجليز مدرسة للبنات, فقد كان في القدس مدرستان أخريان مهمتان للبنات: الأولى ألمانية هي مدرسة شميت والثانية فرنسية هي كلية مار يوسف.

أما المدارس العربية فالرسمية منها كانت المدرسة (الكلية فيما بعد) الرشيدية التي أنشئت في أواخر العهد العثماني, وتولت إدارة فلسطين البريطانية شئونها بعد الحرب. وكانت هناك روضة المعارف وهي مدرسة عربية خاصة. وقد أنشأ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الكلية الإسلامية التي كانت تعنى بإعداد الموظفين الذين يعملون في المحاكم الشرعية أو مع المحامين الذين يتعاملون معها.

وفي مقابل دار المعلمين كانت ثمة دار المعلمات التي أنشئت في بدء عهد الإدارة البريطانية.

كانت (مرآة الشرق) لبولس شحادة وبيت المقدس لبندلي مشحور تصدران في القدس (جريدة الجامعة العربية صدرت 1925).

كان للقدس من قبل دور علمي كبير على نحو ما كانت عليه كبرى المدن في العالم الإسلامي. وقد خرّجت هذه عددًا من العلماء والأدباء والشعراء, كما أن عددًا من علماء بيت المقدس تلقوا العلم في الأزهر الشريف لكن سني الحرب العالمية الأولى, أخرت هذه النواحي. وكان لا بد أن يمر بعض الوقت قبل ان تعود إلى المدينة مكانتها العلمية أولاً, وتأخذ بأسباب التقدم ثانيًا. والذي أعرفه أن النشاط الثقافي الرئيسي الذي كان يتم في القدس كان يتركز حول جمعية الشبان المسيحية وكانت مفتوحة للجميع, وكان هناك النادي اللاتيني, الذي كان نشاطه يقتصر على أتباع هذه الطائفة.

تركت دار المعلمين 1924, علّمت السنة الأولى في ترشيحا, قضاء عكا, ثم نقلت سنة 1925 إلى مدرسة عكا الثانوية واستمر عملي فيها إلى سنة 1935. خلال هذه السنوات العشر كنت أزور القدس مرة أو أكثر في السنة. وكانت إقاماتي فيها تطول. فأنا أرغب في كسب المعرفة مباشرة من الذين يملكونها وفي القدس كثيرون وعن طريق الكتب: كان من اليسير الحصول على الكتب العربية من مصر. أما الكتب الإنجليزية, وكانت حاجتي إليها كبيرة, فقد كنت أحصل عليها بواسطة مكتبة فلسطين العلمية في القدس.

القدس تتطور

خلال هذه السنوات العشر, يمكنني أن أسجل الأمور التالية حول تطور مدينة القدس.

أولا: اتساع نطاق الأحياء اليهودية خاصة في الجهة الغربية وازدياد عدد السكان اليهود بأعداد كبيرة. ومع أن هذا الانتشار اليهودي شمل مناطق مختلفة في فلسطين, فقد تركز في حيفا ويافا تجاريًا, وفي القدس علميًا (الجامعة العبرية 1925) وإداريا - مكاتب الوكالة اليهودية, التي كان على الحكومة المنتدبة أن تستشيرها في أمور كثيرة خاصة بإدارة فلسطين, وذلك بموجب صك الانتداب.

ثانيًا: كانت القدس عاصمة فلسطين, ومن ثم فإن جميع الأمور المتعلقة بالإدارة, كان يجب أن تبدأ من القدس أو تحال إلى القدس لإبداء الرأي. وما دمنا في سبيل الحديث عن الإدارة فلنشر إلى أن المستشار القضائي (بنتويتش) ومدير دائرة الأراضي (هايمسون), ومدير دائرة الهجرة والجوازات (ابرامسون) كانوا بريطانيين, لكنهم كانوا يهودًا. (ويكفي أن المندوب السامي الأول كان هربرت صموئيل - الزعيم البريطاني في حزب الأحرار, والوزير السابق, والرجل الذي كانت له أصابع في صياغة وعد بلفور 1917 كان يهوديًا صهيونيًا).

ثالثًا: خلال هذه المدة أصبح من الممكن أن يحصل الواحد على عدد كبير من الكتب, التي تصدر في مصر من مكتبتين أو ثلاث كان أفضلها مكتبة الأندلس. الذي كان صاحبها يختم كل الكتب التي يبيعها إعلانًا عن المحل.

رابعًا: نشأت جمعيات جديدة ونشطت القديمة. الجديد كان جمعية الشبان المسلمين. ونشط النادي اللاتيني بعض الشيء واستمرت جمعية الشبان المسيحية في نشاطها.

خامسًا: كانت تقوم دار واحدة عربية للسينما في منطقة باب العامود يوم كنت تلميذًا في القدس كان اسمها سينما القدس الكبيرة. وقد احترقت سنة 1923. وظلت القدس العربية خالية من دار للسينما. إلى أن فتحت أول دار سينما عربية سنة 1925 وحضرت فيها فيلم الوردة البيضاء لعبد الوهاب, ثم تلتها دور أخرى, لكنها كانت يومها صغيرة نسبيًا.

سادسًا: كانت قد قامت في فلسطين حركة نهضة أرثوذكسية عربية, أولاً بسبب تصرف البطريرك داميانوس (1897-1931) السيئ والمجحف بحق أبناء الطائفة, وثانيًا بسبب تصرفه في بيع أوقاف الكنيسة لليهود. وعقدت, بدءًا من سنة 1924 مؤتمرات في حيفا (مرتين) والقدس وانتخبت لجنة تنفيذية مقرها القدس, كان رئيسها يعقوب فراج. ومع أن حكومة فلسطين عينت ثلاث لجان لبحث القضية, فإن تصرف البطريرك لم يتوقف سوءًا, بل زاد حتى توفي.

سابعًا: كانت الزعامة السياسية بفلسطين قد اتضحت خيوطها. كان هناك تجمعان (لا يمكن أن يسميا حزبين) رئيسيان, الأول يتزعمه الحاج أمين الحسيني, مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى, وكان يطلق على أتباعه المجلسيين, وكان اسمه الرسمي الحزب العربي الفلسطيني ورئيسه جمال الحسيني. وحزب الدفاع الوطني (وكان يشار إليه بالمعارضين) ورئيسه راغب النشاشيبي, رئيس بلدية القدس إلى سنة 1936. وفي أواسط عقد الثلاثينيات, ظهرت أحزاب (تجمعات) سياسية أخرى أرادت الخروج عن طوق الحاج أمين الحسيني, وهي: حزب الاستقلال وأمينه العام عوني عبد الهادي; وحزب مؤتمر الشباب ورئيسه يعقوب الغصين (يافا) وحزب الإصلاح برئاسة حسين فخري الخالدي; وحزب الكتلة الوطنية ورئيسه عبد اللطيف صلاح (نابلس) والجمعية الإسلامية بحيفا, وهي مؤسسة حزبية برئاسة رشيد الحاج إبرهيم (1899-1953).

وكان معنى هذا توزع النشاطات السياسية الذي غلب عليه الخلاف بدل تجميع القوى والتنبه إلى معنى وعد بلفور وأهمية تعيين هربرت صموئيل للقيام بوضع طرق التنفيذ ووسائله.

ثامنًا: كان ثمة نهضة أدبية وقد وضعت كتب تناولت الأوضاع السياسية في فلسطين والعالم العربي. وقامت مطابع جديدة لعل أنشطها كانت مطبعة بيت المقدس (داخل الباب الجديد في القدس)

تاسعًا: ازداد عدد المقادسة الذين خرجوا من المدينة القديمة فنمت الأحياء التي تحدثت عنها.

كانت آخر زيارة لي إلى القدس في صيف 1935. وفي خريف تلك السنة ذهبت إلى لندن, إذ حصلت على بعثة علمية من إدارة المعارف. غبت أربع سنوات, ولما عدت عينت أستاذًا في الكلية العربية في القدس. عندها سكنت المدينة وأقمت فيها إلى سنة 1947.

كان من الطبيعي أن تكون معرفتي بالقدس في هذه الفترة أوفى, إذ انخرطت في حياتها انخراطًا كليًا: تعرفت إلى كثيرين من أهل المعرفة في مقدمتهم زملائي في الكلية العربية (والكلية الرشيدية). وشاركت في النشاطات الثقافية في جمعية الشبان المسيحية والنادي الأرثوذكسي والنادي اللاتيني (هذه النشاطات لم تقتصر على القدس, ولكنني أنا اتحدث اليوم عن القدس).

الحالة السياسية

ليس من اليسير التأريخ للحركة السياسية العربية في فلسطين في هذه الفترة التي أقمت فيها في القدس (1939-1947) في مقال عام عن المدينة المقدسة. لكن لا بد من وضع بعض المعلومات والملاحظات التي أرى أن الإشارة إليها ضرورية.

يبدو أنه كان هناك نوع من التأرجح في القيادة الوطنية أشرت إليه من قبل, فبين 1921 و1929 لم يكن الحاج أمين الحسيني خصمًا نشيطًا ضد الإدارة البريطانية (1921-1929 بدأت مرحلة جديدة في تاريخه الحاج أمين, وتاريخ الحركة الوطنية عامة. فقد قبل المفتي بمنصب الإفتاء عام 1921 كما قبل برئاسة المجلس الإسلامي الأعلى (تم هذا أيام المندوب السامي الأول - هربرت صموئيل 1920-1925) وهكذا بدأت الحركة الوطنية - زعامة وجماهير - فترة كانت أقل عطاءً وزخمًا, من حيث الممارسات الوطنية. وهنا تخلّت الحركة الوطنية عن الكثير من اندفاعها ورومانسيتها, التي شهدتها المرحلة الأولى, ودخلت في مرحلة هادنت فيها الاستعمار, أو على الأقل لم تصنفه على أساس أنه العدو الرئيسي أو التناقض الرئيسي, مع أنها بقيت على رفضها القاطع للصهيونية واعتبارها رأس الشرور) (علي سعود عطية في (المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام وفلسطين, المجلد الثالث - تاريخ فلسطين) مطابع الجمعية العلمية الملكية عمان 1982, ص 438-9). المقال بكامله فيه تفاصيل أكثر على الموضوع (ص 421-483).

وفي حادثة البراق (1929) ظهر نوع من النشاط المعادي للسياسة البريطانية.

لكن الإضراب الفلسطيني, الذي دام ستة أشهر وقيام حركة الشيخ عبد العزيز القسام, التي كلفت حكومة فلسطين خسائر كبيرة, وقد اضطرت هذه إلى الاستنجاد ببعض فرق من الجيش البريطاني من خارج فلسطين لمحاربتها, والتي انتهت سنة 1935 باستشهاد الشيخ عبد العزيز في إحراج يعبد (جنين), أدت إلى شيء من العمل الجدي, وقامت على أثر ذلك اللجنة العربية (الفلسطينية) العليا بنشاط كبير, انتهى بأن أعلنت اللجنة إنهاء الإضراب بناء على طلب الدول العربية (أعضاء جامعة الدول العربية), التي تلقت من بريطانيا وعدًا بأن تنظر في قضية فلسطين على نحو يرضي العرب. طالت المفاوضات بين بريطانيا والدول العربية, ولم ينعقد (مؤتمر الطاولة المستديرة) في لندن إلا في 1939 (كنت أنا يومها طالب علم في لندن), واتصلت أنا وموسى عبد الله الحسيني برؤساء الوفود العربية الخمسة, التي جاءت لندن وهي مصر والمملكة العربية السعودية والعراق واليمن والأردن فقط, لأن الحكومة الفرنسية لم تسمح لرئيسي الوفدين اللبناني والسوري بالذهاب إلى لندن فبقيا في باريس, وتابعا المناقشات والمفاوضات من هناك.

وكانت نتيجة المفاوضات التوصل إلى قرارات فيها قدر ضئيل من الإنصاف للعرب من حيث بيع الأراضي والهجرة اليهودية, وأمور أخرى, ولو إنها كانت مؤقتة, صدرت في كتاب أبيض عن الحكومة البريطانية 1939.

لكن لم تكد الوفود العربية, بما في ذلك الوفد الفلسطيني تعود إلى بلادها وتتلقى التهنئة على الجهود والنتائج حتى تلبدت الغيوم العالمية, وأعلنت الحرب العالمية الثانية (صيف 1939), وعندها طار الكتاب الابيض.

في سنة 1939, شعر الحاج أمين الحسيني, بأنه معرض لعمل رسمي ضده مثل الاعتقال أو النفي أو كليهما, فتخفى بزي امرأة, وخرج من فلسطين إلى بيروت. لكن إقامته هناك لم تطل بسبب موقف الفرنسيين منه (وهم حلفاء بريطانيا حربًا وسلمًا - إلى درجة معينة), فانتقل إلى العراق. (وقصة أعماله وتنقلاته ونشاطه في إيران وأوربا قضية خارجة عن الموضوع.)

وهنا تولت اللجنة العربية العليا إدارة شئون القضية الفلسطينية, (لكن الاتصال والإشارة بالحاج أمين, وبعض الأحيان التقيد بالرأي - كان امرًا أساسيًا في تصريف الأمور.)

أعود إلى سياق الحديث. كانت القضية الشغل الشاغل للجميع, لكن الحرب القائمة كانت درعًا يتقي به الجميع اللوم وينتظرون جلاء الأمور بعد الحرب - كل هذا في ظل أحكام عرفية.

على أن القضية السياسية مع أهميتها, لم تشغل كل فئات (ولا أحب استعمال طبقات) المجتمع. فالفكر كان له أهله وأصحابه. لا أستطيع أن أتحدث عن جميع الذين عملوا في هذا الميدان. ولكن لا بد من أن نتذكر أن كتّاب المقالات كانوا كثرًا, إذ إن هؤلاء شملوا كتّاب المقالات السياسية والأدبية وسواها. كانوا ينشرون في جريدة فلسطين والدفاع والحرية (إسحق عبد السلام الحسيني) والجامعة الإسلامية (سليمان التاجي الفاروقي) والكرمل. وفي مجلات كانت تصدر عن أندية تعنى بالأدب والفكر مثل مجلة المنبر (النادي الأرثوذكسي). ونشرة النادي اللاتيني, التي كان يشرف عليها روكس بن زائد العزيزي, اللغوي الكبير. وكانت مؤسسة الدومنيكان الكاثوليكية تنشر مجلة فرنسية حول الدراسات المتعلقة بالأراضي المقدسة. كما كانت دائرة الآثار الفلسطينية تصدر نشرة فصلية بالإنجليزية تتناول الكشوف الأثرية التي تتم في البلاد.

عندما نتناول الحركة الفكرية على نحو عام, دراسات وتاريخا وقصة ورواية وشعرًا يصبح من الصعب الفصل بين نشاط القدس ونشاط مراكز أخرى في فلسطين. صحيح أن القدس ظلت نقطة الانطلاق الأساسية, لكن الصحف كانت تنشر في يافا وحيفا, وما دبجه أصحاب الأقلام فيها لم يقتصر على السياسة والاقتصاد والإدارة, بل تعدى ذلك إلى مقالات تتعلق بالتاريخ والفكر والأدب والمجتمع ذلك لأن المجلة الأسبوعية أو الشهرية لم تكن قد تطورت بعد,. فضلا عن أن التأليف كان له زبائنه في أماكن متعددة من البلاد.

ولنبدأ على كل بالمؤسسات الثقافية, التي عرفتها القدس في ذلك العقد. كانت ثمة مؤسسات لدراسة آثار وتاريخ الأراضي المقدسة. لكن الاجتماعات التي تعقد, والمحاضرات التي تلقى, كانت شديدة التخصص بحيث يُعنى بها عدد محدود فقط. لكن الذي أود أن أتحدث عنه هو المؤسسات, التي كانت تعنى بالجمهور الأعرض من المثقفين. هنا تأتي الأندية والجمعيات التي زاد عددها عن ذي قبل وتعددت اهتماماتها. منها ما كان قائما من قبل, لكن دائرة اهتمامه اتسعت وتنوعت مثل النادي اللاتيني وجمعية الشبان المسلمين ومنها ما قام بعد, وأهم هذه كان النادي الأرثوذكسي, والذي كان أوسع نشاطًا في محاضراته وندواته.

لكن المؤسسة الثقافية التي بزّت سواها في الأوساط العربية, هي جمعية الشبان المسيحية. هذه كانت يومها قد انتقلت من مكانها القديم البسيط إلى مبنى كبير في ظاهر المدينة إلى الجهة الجنوبية. كان المبنى يضم مكتبة جيدة, وقد يمكن القول بأنها كانت متميزة, تضم كتبًا مختلفة الأنواع وصالحة لجميع الهوايات تقريبًا, فضلاً عن أن غرفة الصحف كنت تعثر فيها على دوريات عربية وإنجليزية في مجالات متنوعة. وعهد بالإشراف على المكتبة والدوريات إلى خبير في هذه القضايا. كانت فيها قاعة كبيرة للمحاضرات العامة, التي كانت تستعمل بانتظام وقاعة أصغر للندوات, وكانت هذه تستعملها مؤسسات ثقافية لا تملك قاعة للاجتماع. كما كان ثمة مسرح للتمثيل. إلى هذا كله كان فيها غرف رياضة تتسع لعدد كبير من المهتمين إلى بركة للسباحة. كما كانت تضم مطعما للاعضاء وضيوفهم.

نشاطات هذه الجمعية كان يفيد منها عدد كبير من المثقفين, ويمكنني القول عن تجربة (وتقديم العون أحيانًا) إنها كانت أكبر عامل ثقافي مؤثر في القدس.

ولننتقل الآن إلى المدارس. المؤسسات التي تجاوزت التعليم الثانوي هي الكلية العربية (بدءا من السنة 1927, إذ أضيف إليها سنتان), والكلية الرشيدية بدءًا من السنة 1942, أما المؤسستان الأجنبيتان اللتان استمرتا في عملهما, إذ أضافت أربع سنوات بعد التعليم الثانوي (وكانت الشهادات التي تمنحهما تساوي درجة البكالوريوس) فهما كلية الشباب وكلية القدس للبنات وهما إنجليزيتان.

وقد عنيت المدارس الثانوية العربية بتقوية مناهجها وبرامجها واختيار المدرسين فيها كي تتمكن من اللحاق بالركب العام.

وقد أنشئت مدرستان ثانويتان جديدتان في العقد الخامس من القرن العشرين, كلية النهضة لخليل السكاكيني, ولبيب غلمية وكلية الأمة لشكري حرامي وعبد الله نعواس.

كانت ثمة لجان ثقافية متعددة في أنحاء البلاد, لكن اللجنة, التي كانت لها نشاطات متعددة هي (لجنة الثقافة العربية), التي تأسست سنة 1943 بعضوية (الأسماء حسب ترتيب الحرف الأول) اسحق موسى الحسيني وسعدي بسيسو وقدري حافظ طوقان وعبد الحميد ياسين وعبد الرحمن بشناق ونقولا زيادة ويوسف هيكل, وقد عهدنا بالسكرتارية إلى اسحق موسى الحسيني. ألقينا عددًا من المحاضرات في القدس ويافا وحيفا ونابلس وغزة حول القومية العربية وقد نتج عن هذه المحاضرات كتب هي (القومية والعروبة) (نقولا زيادة) 1945 و(تاريخ الحركة العربية) (سعدي بسيسو) و(مستقبل العالم العربي) (يوسف هيكل).

ونشرت أنا مع صديقي علي شعث كتبًا دورية باسم سلسلة الثقافة الحديثة. لكن لأننا كنا موظفين لم نشر إلى أن السلسلة تصدر بإشرافنا, بل وضعت تحت طاقية المكتبة العصرية بيافا لصاحبيها حنا صليب, وبطرس ملك. نشرنا منها: (رحلة إلى إيران) (أحمد سامح الخالدي) و(العلم في المطبخ) (علي شعث) و(قصص) (عبد الحميد ياسين) و(أمراء عرب من بلاد الشام) (نقولا زيادة) و(العلامة انستاس ماري الكرملي (أعده وحرره روكس بن زائد العزيزي).

لكن هذا نموذج على النشاط المنظم, ولعله لم يكن الوحيد, لكن لم أقف على شيء مثله.

 

نقولا زيادة 





أضرحة الملوك بالقرب من باب دمشق أحد ابواب القدس ويقال إن المدفون فيها هي هيلانه ملكة بلاد ما بين النهرين





مسجد عمر أو قبة الصخرة المذهبة التي تعلو قبر سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو المكان الذي أسري منه النبي محمد عليه الصلاة والسلام