الانهيارات العربية.. من المسئول? جورج قرم

الانهيارات العربية.. من المسئول?

ماذا فعلنا بأنفسنا حتى نصل إلى تلك الحالة المخزية من الانحطاط والتمزق والرغبة في هجر الأوطان واستمرار الشعور بالقلق والقهر وعبثية الحياة?

منذ إنشاء دولة إسرائيل سنة 1948, وبشكل خاص بعد الانكسار العسكري العملاق أمام الجيش الإسرائيلي عام 1967, تشهد الساحة العربية الانهيار وراء الآخر, بحيث أصبحت المجموعة العربية في النظام الدولي أقل مجموعة تحظى باحترام بقية العالم والدول الكبرى.

كثيرا ما نميل إلى تحميل الأنظمة العربية أو على الأقل البعض منها كل المسئولية في أوضاعنا هذه. وكأن تلك الأنظمة قد نزلت على رءوسنا من الفراغ وتعمل كأجهزة مقفلة على نفسها لا تتأثر بمحيطها المحلي والدولي ولا تؤثر فيه, وكأنها تعمل في ظلام داكن وتجهل كل ما يدور حولها. أو على الأقل نقنع أنفسنا بأن هذه هي الحالة, وبالتالي فلا مسئولية بتاتًا علينا كإعلاميين, كمثقفين, كمفكرين, كرجال أعمال, كأساتذة مدارس وجامعات أو كرجال دين. بل قررنا سلفًا بأن المشكلة كلها في الأنظمة ونحن جميعًا أبرياء بالقدر المحتوم الذي كُتب علينا دون أن نتمكن من مقاومته أو الإفلات منه.

ما أسهل وما أحلى من هذا الموقف الذي يعفي كل الفاعلين في أمتنا العربية من أي مسئولية نحمّلها إما للمؤامرات الخارجية وإما لمطابخ المخابرات العربية التي نعتقد أنها تتحكم كليًا بأنظمتنا السياسية. وبموازاة هذا الموقف المضحك, تشهد الساحة العربية موقفًا موازيًا في تبرئة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مدعية أنها خاضعة تمامًا لحفنة من المحافظين الجدد المتحالفين مع قوى الضغط الصهيونية في أمريكا, وأنه لولا ذلك لم يكن هناك أي مشكلة بيننا وبين العملاق الأمريكي الذي تهادنه أنظمتنا إلى أبعد الحدود, وكأن هذا العملاق ليست له أي مطامع في السيطرة على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولذلك, ونظرًا لهذه البراءة, فنحن, أنظمة وإلى جانبها العديد من المثقفين ورجال الأعمال, نستمر في موالاته وفي الإيمان بأن نياته تجاهنا هي صافية وديمقراطية الطابع حقًا, بل أكثر من ذلك فهو الذي يخلُصنا من أنظمتنا السياسية ذات الطابع الإبليسي) التي لا تعلم كيف تتصرف في النظام الدولي وكيف تحصل على احترام المنظومة الدولية.

نحن والنهضة العربية

إن هذه المواقف لهي في الحقيقة أكبر مصدر لضعفنا وانهياراتنا المتتالية, ذلك أنها ترفض رؤية الواقع بتعقيداته وتسمح لنا بالاستمرار في الاتجاه الانحطاطي الكبير الذين نمشي عليه منذ أكثر من نصف قرن. وأود هنا أن أشير بشكل خاص إلى مسئولية المثقفين العرب الذين, في غالبيتهم, لم يوظفوا طاقاتهم العقلية في بناء صرح ثقافي وحضاري متين يحول دون قيام الأنظمة السياسية العربية بالتصرفات التي نشكو منها. فالجدير بالذكر أن مسيرة النهضة الفكرية العربية التي انطلقت ببعثة رفاعة الطهطاوي الشيخ المصري الأزهري الجليل إلى باريس في بدايات القرن التاسع عشر, وقد تعممت هذه المسيرة في أرجاء مختلفة من الوطن العربي, مشرقًا ومغربًا, قد توقفت بعد انهزامنا أمام إسرائيل ودخولنا فيما بيننا في صراعات عقائدية سطحية تعكس الصراع الأيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة. فقد انقسم المثقفون العرب حينئذ بين فكر ليبرالي وفكر اشتراكي, بالإضافة إلى الموجة العارمة لما سمّي بتيار (الصحوة الإسلامية) كنقيض لهاتين المدرستين, وذلك على اثر التراجع الحاد في الفكر القومي العربي العلماني الطابع الذي تعرض لضربة شديدة مع نكبة عام 1967. وقد تحوّل الجزء الأكبر من المثقفين العرب إلى مجرد مروّجي عقائد حادة اعتبرت أداة سحرية لإخراج الأمة العربية من انحطاطها المتجدد, فإما ماركسية حادة وإعجاب بالاتحاد السوفييتي, وإما ليبرالية على الطريقة الأمريكية وإعجاب بالولايات المتحدة, وإما أخيرًا الهروب إلى الأمام بصحوة دينية رفعت شعار (الإسلام هو الحل) لإسكات كل من الطرفين العقائديين المتناقضين.

ومع انتشار وتوسّع وسائل الإعلام العربية المسموعة أو المكتوبة, تحوّل العديد من المثقفين العرب إلى جيوش سياسية تستعمل قلمها في مناقشة الأحداث اليومية من هذا أو ذاك المنظور العقائدي وإلى موالاة أو معاداة هذه أو تلك من الأنظمة العربية حسب شبكات النفوذ التي انخرطوا فيها.

ونتج عن هذ التطور الخطير انقطاع مطلق عن التراكم المعرفي من أجل التكيّف مع العالم الحديث الذي كان قد قام به روّاد النهضة العربية, ابتداء من الطهطاوي ومرورًا بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والأمير شكيب أرسلان وأحمد فارس الشدياق وأحمد أمين وقاسم أمين ولطفي السيد والكواكبي وخلدون ساطع الحصري وأمين الريحاني وخير الدين التونسي والشيخ عبدالحميد بن باديس, وانتهاء بطه حسين وقسطنطين زريق. وقد اختفت من المكتبات أعمال هؤلاء الرواد وحل محلها كتابات سطحية غزيرة تأخذ بالحلول السحرية الماركسية أو الليبرالية أو الدينية الطابع والتي لا تمت بصلة إلى المشاكل الحقيقية للوطن العربي, بل هي أصبحت عنصرًا من عناصر التفرقة والفتنة بجميع أنواعها. وقد أصبح بعض المثقفين العرب رموزًا سياسية محضة, كتاباتهم في غالبيتها صحفية الطابع وهجومية, تهتم فقط بالحدث اليومي وتئوله حسب أهوائها العقائدية, وكأن الحدث اليومي هو الحدث المركزي في تاريخ الأمة (خاصة الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية أو تطورات الحرب في أفغانستان أو في تشيشينيا أو في البوسنة أو في ما يقوله هذا أو ذاك من المسئولين الغربيين حول الشرق الأوسط). وسرعان ما يأتي حدث آخر فيتحمس المثقف الإعلامي للحدث الجديد ولتأويلات جديدة لا تصلح جديتها إلا بمدى أيام أو أسابيع محدودة. ومن جرّاء ذلك فقد الجمهور العربي أي رؤية واضحة للمشاكل التي يتخبط فيها ولأسباب الحلقة المفرغة لانحطاط لا نهاية له. ومما زاد الطبن بلّة في السنين الأخيرة الكتابات السطحية والحادة في آن معًا التي تلقي على العوامل الداخلية قط مسئولية الانحطاط, وفي مقابلها كتابات أخرى تحمّل العامل الخارجي المسئولية في هذا الانحطاط المريع, وكأن لا علاقة معقّدة بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية أو كأن النظر إلى الدنيا هو ثنائي الطابع فقط, فإما الشر فينا كلنا كعرب, أم هو آت كليًا من الخارج ليفسدنا!

سطحية المثقفين العرب

هذا الانحراف في دور معظم المثقفين العرب الذين أصبحوا يكرسون جهودهم لكتابات صحفية وإعلامية الطابع بعيدًا عن الأبحاث الجدية, سواء أكانت فردية أو جماعية, لهو مسئول إلى حد بعيد عن استمرار الوضع الراهن حيث الأنظمة العربية تتخبط في فراغ ثقافي وحضاري عربي وتغيب الضوابط الفعلية لها من الطابع المعنوي الفكري والحضاري والأخلاقي, ولا توجيه سياسيا عميق الجذور يمكن أن يضيء الطريق إلى تصرف عقلاني وحكيم. ولذلك, نرى تلك الأنظمة تستفرد بهذا أو ذاك من المثقفين الذين يعملون في الحقل السياسي اليومي ويتمعنون في انتقاد وتجريح نظام معين, فيصبح المثقف في السجن أو يفقد وظيفته, وبالتالي وسيلة العيش المادية, في لعبة عقيمة بين أنصار (ديمقراطية) أكانوا من الإسلاميين أو الليبراليين من جهة, وأنظمة قمعية تخاف على حالها لأنها هي ليست قائمة ضمن منظومة فكرية حضارية تضبط عملها وتصرفاتها من جهة أخرى.

وفي هذه اللعبة سبب إضافي لتدخل القوى الخارجية في شئوننا الداخلية. فهي تسكت إذا كان النظام القمعي يسير على هواها في السياسة الإقليمية والدولية. إنما تقيم الدنيا وتقعدها إذا كان النظام لا يتجاوب مع الرغبات الخارجية في السياسات الإقليمية والدولية, والأنظمة العربية واقعة تحت كمّاشة بين معارضي الداخل وطلبات الخارج المتغيرة والمتحركة. وإذا كان من حق الناشطين في السياسة والشأن العام التهجّم على ممارسات أنظمة قمعية, فإن هذه التحركات لم تؤد إلى تغيير ما نحو الأفضل بشأن الحريات طالما لم تتغير المعطيات العامة التي وصفناها وما دامت لم تبرز قوى ثقافية وحضارية جديدة تعيد التواصل مع روّاد النهضة العربية وتسمح بإعادة انطلاق آلية التراكم المعرفي الفلسفي والسياسي والسوسيولوجي والديني والأخلاقي, بما يتناسب مع أوضاعنا وبإعادة اللحمة إلى مسارنا التاريخي, فنتمكن من القضاء على فترة الانقطاع التي بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي والتي لانزال نعيشها حتى اليوم.

إنّ تخبّط الأنظمة العربية في العشوائية والقرارات غير العقلانية وغير المدروسة هي نتيجة هذا الفراغ الفكري الذي نعيش فيه, ونتيجة غياب المنظومة الحضارية المتماسكة التي تضع الضوابط للعمل في الشأن العام كما في الشأن الخاص.

وفي اعتقادي أن عجزنا هذا ناتج عن سببية معقدة وليس عن سببية أحادية الجانب كما يتصور معظم المحللين. ومادمنا لن نتناول هذا التعقيد بالروية والبصيرة, فإننا سنراوح مكاننا التعيس في هذه الدنيا. فهناك العديد من الأسئلة المزعجة التي لابد من طرحها لكي نتلمّس بعض جوانب الخروج من النفق المظلم الذي نحن فيه. ومن بين هذه الأسئلة ما يدور حول عجزنا عن القيام بمهمتين أساسيتين لم نولِهما أيّ نوع من الاهتمام, إحداهما ثقافية حضارية أخلاقية والأخرى علمية واقتصادية وتكنولوجية, وهما قضيتان مركزيتان يتكاملان للخروج من حلقة الانحطاط المتواصل.

القضية الأولى: انعدام القدرة البحثية

ماذا نفعل لتقوية القدرة البحثية في شتى أنواع العلوم الإنسانية وعلى رأسها التاريخ أو الفلسفة وهما من العلوم الأساسية التي لابد من بنائها بشكل منظومة متكاملة متراصة متماسكة يرتاح إليها كل إنسان عربي, كما هو الحال في الحضارات والثقافات الأخرى.. وتكملة, ماذا نفعل لإطلاق حرية الاجتهاد الديني? وهي التي أمنت رونق الحضارة الإسلامية في عصورها الأولى وهي التي تميز بها فكر رواد الإصلاح في عصر النهضة العربية التي توارت تحت الرمال ويجب بعثها مجددًا. ولا مجال لتطوير مثل هذه المنظومة دون حوارات مكثفة ومعمقة وإنتاج بحثي واسع يتكامل مع الزمن ولو أنه يتباين في الاستنتاجات والتأويلات. فالتاريخ والفلسفة والسوسيولوجيا ملك الجميع, ولا أعتقد أن هناك عقبة أمام هذا النوع من الأبحاث العلمية مادام المثقف العالم لم يحد عن رسالته المعرفية بالانجرار وراء العمل لم يحد الصحفي والإعلامي والتعرض الحاد لهذا أو ذاك من الأنظمة العربية.

هكذا تطورت المعارف في الدنيا كلها, إنما في وطننا العربي, فنادرًا ما نرى جامعة أو مؤسسة ثقافية تكرّس الموارد المادية والبشرية والجهود الكافية للمساهمة الفعّالة في إعادة بناء حضارتنا العربية, بل نرى التوسّع في الاختصاصات عشوائيًا دون التركيز على البعض منها ودون جعل العمل البحثي محورًا أساسيًا من الحياة الجامعية والثقافية. بل العكس هو الصحيح, فالمثقف العربي الذي ينتج أعمالاً وأبحاثًا معمّقة يقوم بها خارج أي إطار مؤسسي وبجهوده الخاصة والفردية. وهناك بعض الأشخاص الذين يكونون بذاتهم مؤسسة ثقافية لأنهم يثابرون في الكتابة والتحليل والتمحيص في حقل معيّن مثل التاريخ والفلسفة أو الشئون العامة العربية.

أما القليل من المؤسسات الثقافية القائمة في الوطن العربي فإننا نراها, في كثير من الأحيان, تدخل في دوامة النشر الغزير دون التصويب على المجالات التي يجب التركيز عليها. ناهيك عن مئات من الندوات التي تقام في كل أرجاء الوطن العربي ولا تأتي بجديد, وهي في معظم الأحيان تضع قائمة المواضيع المطروحة للمناقشة حسب ما يأتي من الخارج من تيارات فكرية أو شعارات براقة أو مواضيع سطحية وسخيفة تتكرر من سنة إلى أخرى, نذكر منها على سبيل المثال الشرق الأوسط الكبير, تعميم الديمقراطية, صدام وحوار الحضارات, الأصالة والحداثة, العولمة, الغزو الثقافي الغربي, الإسلام والقومية العربية...إلخ, من مثل هذه المواضيع المطأطأة وغير المركّزة.

وكما تبيّن من دراسات عديدة حول وضع العلوم في الوطن العربي وتوافر القدرات البشرية الكبيرة (وبشكل خاص دراسات د.أنطوان زحلان المنشورة من قبل مركز دراسات الوحدة العربية), فإننا نمتلك الإمكانات الكبيرة لتحقيق التقدم العلمي والمعرفي المتسارع, لكن دولنا ومجتمعاتنا لا تولي هذه القدرات والإمكانات أي اهتمام يُذكر إلا في بعض الحالات الاستثنائية القليلة. وبالتالي تبقى تلك القدرات مكبوتة غير مستنفرة وغير مستثمرة في إطار جهود جماعية لإجراء نهضة فكرية وثقافية وحضارية ثانية, ودعا إليها أخيرًا الباحث اللبناني د.ناصيف نصّار المختص بتطور الأيديولوجيات الفكرية عند العرب. ومن المؤسف حقًا أن نرى القليل جدًا من التفاعل بين الشخصيات العربية الباحثة في العلوم الإنسانية, فيبقى كل باحث وكأنه وحيد لا يشير إلا قليلا لأعمال الباحثين الآخرين لخلق عملية التراكم المعرفي التفاعلي ضمن عملية بناء منظومة فكرية عربية تغتني بهذا التراكم والتفاعل, فتفتح الأفق الجديدة وتشجّع العنصر الشاب في توسيع طاقاته الفكرية وتأمين صوابية إدراكه وشموليته بالنسبة إلى تطور الوطن والبيئة المحلية الإقليمية والدولية.

القضية الثانية:
البعد عن التكنولوجيا

ماذا يفعل القطاع الخاص في مجال الأبحاث والتطوير وتشجيع الابتكار في شتى الفنون الإنتاجية, أكانت زراعية أو غذائية أو صناعية أو خدماتية لكي تدخل المجتمعات العربية في نهضة إنتاجية كبرى نحن بأمس الحاجة إليها لأسباب عدة وجوهرية? أولها ضرورة إيجاد فرص العمل للجيل الشاب الذي يعاني انسداد الأفق المهنية أمامه, ولذا يهاجر الشاب الفقير كما الشاب الغني المتعلم ليجد فرص عمل في بيئة مختلفة, متماسكة, توفر لمن له الإرادة القوية فرص النجاح في الحياة العملية. ونحن نرى باستمرار, ما يحققه المغتربون العرب ذوو الكفاءة والاندفاع من نجاحات باهرة في جميع القطاعات في الخارج, من النجاح في إدارة شركات غربية كبرى أو النجاح في ميدان الطب والصحة أو في مجال العلوم الدقيقة (الرياضيات, الفيزياء والكيمياء) أو في الترقي لدى وزارات مهمة في أوربا أو الولايات المتحدة أو أجهزة الأمم المتحدة. وهذه طبعًا خسارة أخرى كبيرة للوطن العربي. ومن المؤسف حقًا ألا يقوم القطاع الخاص العربي بتكريس أي جهد يذكر في إنشاء المختبرات وفي تحسين جودة الإنتاج المحلي, وفي تدريب متواصل للقوى البشرية العاملة فيه. وفي تشجيع المهندسين والمهنيين لتطوير القدرات الابتكارية في كل مجالات الإنتاج الصناعي أو الخدماتي أو الزراعي. ونحن نعلم اليوم أنه يتراجع تدخل الدولة في الاقتصاد, وهو اتجاه عالمي, أصبح القطاع الخاص هو الذي يقوم بالأبحاث والتطوير لتأمين جودة الإنتاج والخدمات ولتشجيع الابتكارات التكنولوجية الجديدة ضمن إطار زيادة التنافس الدولي الذي تفرضه حركة العولمة. والمنطقة العربية, كما تدل الإحصاءات, هي أقل منطقة في العالم بعد إفريقيا جنوب الصحراء تنفق على الأبحاث والتطوير, وأن القطاع الخاص لايزال فيها بعيدًا تمامًا عن هذا النوع من الإنفاق.

وهذه هي الدعامة الثانية في حلقة الانحطاط والتخلف التي نتخبط فيها. والجدير بالذكر هنا أن دول شرق آسيا أو دول أمريكا اللاتينية كانت أكثر فقرًا من بعض الدول العربية في بداية الستينيات, وقد عانى المجتمع الكوري عقودًا من احتلال وحشي لأراضيه من قبل اليابان, وتعرض لحرب شعواء أدت إلى تقسيم بلاده إلى قطرين, كما أن جزيرة تايوان كان سكانها من الريفيين المعدومي الحال, أما ماليزيا فكان ينظر إليها على أنها ستنفجر حتمًا من الصراعات المذهبية والعرقية بين العناصر الهندية والصينية والماليزية المسلمة, وهاهي اليوم نجحت نجاحًا باهرًا.

وفي هذا الخصوص, نتساءل هل قام القطاع الخاص العربي والحكومات العربية بالتشاور حول ما يجب فعله لاختيار قطاعات إنتاجية وخدماتية معينة يمكن أن نركز عليها, وكذلك حول ما يجب فعله لتملك أحدث التكنولوجيات فيها للدخول في المنافسة الدولية بكل كفاءة? وهل تم التشاور حول الأساليب التي يجب اتباعها للنجاح في ذلك على غرار ما فعلته الدول الأخرى, التي استنفرت جميع إمكاناتها البشرية والمالية والتعليمية للارتقاء إلى عالم الصناعات والتكنولوجيات الحديثة? إن العكس هو ما حصل في الوطن العربي. فالعلاقات بين القطاع العام والقطاع الخاص ظلت علاقات لا تهتم بشكل أو بآخر باكتساب العلم والتكنولوجيا, بل كانت هادفة إلى حصول القطاع الخاص على امتيازات ضريبية مختلفة (دون بذل أي جهد في الأبحاث والتطوير) بحجة تحسين المناخ الاستثماري والإبقاء على مواقع احتكارية أو شبه احتكارية في الأسواق الداخلية لتعظيم الأرباح دون إعادة استثمارها في ميادين رئيسية لاكتساب القدرات العلمية والتكنولوجية. وكما هو معلوم, فباستثناء قطاع البتروكيماويات, تركزت بشكل إجمالي حركة الاستثمارات العربية, في الداخل وفي الخارج, على القطاع العقاري والسياحي والخدماتي الذي لا يحتوي على قيمة مضافة عالية.

نحو نهضة إنتاجية وفكرية ثانية

وأخيرًا في هذا المجال, يمكن أن نقول بأننا لو كنا دخلنا في نهضة إنتاجية ومعرفية شاملة على غرار الشعوب الأخرى العديدة, التي ذكرناها, وإذا كنا قد أمنا فرص العمل اللائقة وبالأعداد الكافية للشباب العربي, لم تكن لتظهر هذه التنظيمات التكفيرية والجهادية التي تسيء إلينا وتدق استقرار مجتمعاتنا. ومما يزيد من اندفاع هذه الحركات غياب مواقف جريئة لدولنا في النظام الدولي لكي نقف وقفة تضامنية أمام دولة إسرائيل ومواصلتها لابتلاع الأراضي الفلسطينية خلافًا لكل قرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية ومحكمة العدل الدولية. إن النفور السائد منذ إنشاء الجامعة العربية بين الأنظمة القطرية المختلفة والانصياع الذي أصبح شبه تام لإملاءات الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل هما العاملان الأساسيان وراء توسّع هذه الحركات التكفيرية التي يجب ألا ننسى أنها نشأت بظروف الحرب الباردة بتشجيع من الولايات المتحدة وفي إطار ما سميناه الصحوة الإسلامية.

هذا هو الواقع المرير الذي نتخبط فيه ولا نجد له مخرجًا, فنقع في إعادة إنتاج تخلفنا وزيادة هامشيتنا في النظام الدولي, بالإضافة إلى تعرّض المجتمعات العربية الواحدة تلو الأخرى إلى ضربات قاضية في النظام الدولي كما حصل للشعب الفلسطيني, ومن ثم الشعب الكويتي والشعب العراقي, وربما غدًا شعوب أخرى. ناهيك عن الحروب الأهلية في لبنان والسودان والجزائر واليمن, ونحن في هذا المجال, كمثقفين أو كرجال أعمال, بارعون في التملص من أي مسئولية, إذ نلقي المسئولية كاملة على دولنا وأنظمتنا السياسية وكأنها هي هابطة من السماء فوق رءوسنا وليست جزءًا من مجتمعاتنا وطرق تفكيرنا العقيمة والساكنة التي تتجنب الدخول في أي تفكير معمق, وفي أي نوع من أنواع التصرفات العقلانية المبنية على تراكم معرفي جدّي وواسع الأفق, بدلا من التقوقع والحنين إلى أمجادنا التاريخية القديمة ودون النظر إلى الجهود, التي تم بذلها في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في إطار النهضة العربية الأولى التي أجهضت كما ذكرنا سابقًا.

إن الانقسام الحاد حاليًا في معظم الأقطار العربية حول أسباب تراجعنا وتهميشنا وقلة الاحترام التي ينظر بها إلينا في النظام الدولي يجب أن نتخطاه, ليس الوصول إلى إجماع الأمة, وهذا من المستحيلات, بل للإرتقاء إلى حوار مفتوح مبني على آفاق واسعة حول ما دار في العالم في نصف القرن المنصرم, وما حصل لنا من الوقوف على جانب الطريق ملتهين بصراعات عقائدية ودينية شكلية الطابع دون الاقتراب من جوهر مرض الشلل الذي أصابنا, وفي هذه المراجعة, لابد للمثقف العربي ولرجل الأعمال العربي أن يكفّ عن إلقاء اللوم, كل اللوم, على أنظمته السياسية وأجهزة الدولة كما درجت العادة. وربما يريح هذا الموقف ضمائرنا, إنما يقفل أمامنا باب المستقبل ويجعل منا مجرد توابع لإرادة من هو أقوى منا في المنظومة الدولية. وإذا أردنا أن نوقف الاتجاه الانحطاطي, فلابد من القيام بثورتين متلازمتين, ثورة في عالم الفكر, وثورة في عالم الأعمال الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية, فهل هناك حقًا في المجتمعات المدنية العربية من يريد القيام بهاتين الثورتين? أو هل سنكتفي بالتردد الرتيب لمقولات ومفردات الأدب السياسي الدولي حول الديمقراطية والشفافية ومكافحة الفساد (دون النظر إلى أسبابها ومكوناتها) والشرق الأوسط الكبير وضرورة الإصلاح, وكل هذا كلام تجريدي سطحي لا يمت بصلة إلى واقع حال الأمة جماعيًا أو قطريًا.

إذا أردنا أن تتغير أنظمتنا العربية, فعلينا أن نغير أنفسنا وتصرفاتنا. لا يفيد التهجم وإلقاء اللوم على تلك الأنظمة, بل ما يجب القيام به هو تغيير المناخ الفكري والحضاري العام, فأي نظام سياسي هو نتاج هذا المناخ ولابد أن يخضع له في نهاية المطاف ويحسّن أداءه كلما ارتقى المثقفون ورجال الأعمال إلى العمل الفكري والعلمي والاقتصادي المتواصل والهادف إلى إخراج الوطن من التخبط في التخلف والعشوائية. وذلك ما حصل فعليًا في مناطق أخرى من العالم خلال نصف القرن الماضي.

 

جورج قرم