بندقية (قصة × صفحة) حسين سعيد طه

بندقية (قصة × صفحة)

في تلك السن الصغيرة كان من قائمة امنياتي الكثيرة ان امتلك بندقية كالتي يزين بها شيخ القرية جدار حجرة ضيوفه الواسعة حين كان يصطحبني جدي لزيارته, وكنت أصر على الجلوس فوق الفراش المواجه للمكان الذي استقرت فيه البندقية الكبيرة ولا أظن أنني كنت أتابع الحكواتي الذي كان لا يبخل على الحاضرين بحركاته المسرحية وحكاياته التي من أبطالها عنترة العبسي وأبو زيد الهلالي والحرب التي ستكون بين العرب واليهود... فقد كان ذهني مشغولا بالهيكل العام للبندقية وكثيرا ما فكرت في أن تنتج مثلها يدي, إلا أن والدتي كانت تنهاني عن الانزلاق في متاهة هذه الأفكار والاكتفاء بالمواظبة على الذهاب والالتزام بمجلس إمام مسجد القرية وحفظ القرآن الكريم كاملا قبل أن تستدرجني سن البلوغ لحيويتها. لم أسأل أحدًا عما يعني أن اصبح مراهقًا فقد أدركت أبعاد الجواب مما كنت وكنا نتبادله من أحاديث طفولية بريئة فيما بيننا أنا وأقراني الصغار.. جدي كان كريما معي ويجالسني كثيرا و كثيرا ما كنت اسأله: وهل سيعود والدي...???... عيناه الواسعتان تتأملان السماء, يهز رأسه ويضرب الأرض بعصاه ويصلح من هيئة عقاله وكوفيته ويهمس كمن يبكي: يا ولدي... الأموات لا يعودون...

وكنت افتقد حضوره في تلك الأجواء التي يكون للأب فيها تلك المنزلة الكريمة وكذلك حين يطلب إمام المسجد من أحد الطلبة جلب والده المرة القادمة... قريتي كانت متناثرة البيوت وكثيرتها... بيوتها طينية ولا تحتفي بمظاهر المدينة التي كنت أطرب لمباهجها مما يحدّث به الباعة المتجولون جدي أو تحدّث به النساء والدتي... أتخيل المدينة تلك البقعة الجغرافية الواسعة والتي يسير في طرقاتها الواسعة (الاتومبيل) كما يلفظها جدي ويقصد السيارات بمختلف أنواعها, وكنت أضيف مشهدا لي بصحبة زينب ابنة شيخ القرية وأنا وإياها نتمشى عند حواف نهرها الجميل والوحيد ونلتقي بذلك الكم الهائل من البشر ولا بد أن الكثيرين منهم يمتلك بندقية... بندقية حديثة... والدتي كانت تبتسم لما أسر لها بما جاد به علي خيالي وتقول: اسكت يا ولد... عيب... لا نريد أن يسمعك شيخ القرية وأنت تتحدث عن ابنته بهذه الطريقة. في الليل كنت لا أتوقف عن التفكير بما شاركت فيه أقراني من ألعاب كلعبة الشرطي واللصوص وكنت أختار دائما دور الشرطي بين كفيه تطارد البندقية (خشبة لها هيئة البندقية الحديثة)... تتابع بفوهتها خطوات اللصوص الصغار وكان رفاقي لا يتوقفون عن العبث والضحك في تلك اللحظة التي ألقي خلالها القبض على أحدهم... وكذلك أغمض عيني على مشهد زفة لي ولابنة شيخ القرية في زقاق القرية وتتقدم أمي الزفة وهي تطلق الزغاريد في كل اتجاه والرجال يوجهون فوهات بنادقهم صوب السماء معبرين عن ابتهاجهم بهذا العرس... أنام لتوقظني والدتي لأداء فريضة صلاة الفجر ويلي ذلك مساعدتي إياها في حلب بقرتنا الوحيدة ولا بد أن أتبع جدي (ولطالما تمنيت أن يكون لي أشقاء لمساعدتي ) ليروي أشجار زيتونه القليلة وختاما أسعى حيث مجلس الكتاب وتلاوة القرآن الكريم وحفظ الأحاديث النبوية الشريفة... في صباح ذلك الفجر البعيد وشديد البرودة استيقظت على أصوات وصيحات هادرة: اليهود... اليهود... ولا أدري كيف وصلت وقد فارقني النوم إلى مكان بندقيتي الصغيرة (الخشبة التي لها هيئة البندقية الحقيقية) والمختبئة في فراغ مدفئة الكاز دون أن أتوقف للتفكير في مكان وجودها... تأبطتها وخرجت إلى الحوش حيث جدي ووالدتي التي طلبت مني العودة إلى الداخل... في هذا الأثناء سقطت قذيفة خلفنا مزقت بشظاياها أرجاء السكون والطمأنينة وصحوت بعدها والدم يسيل من شفتي السفلى لأجدني بين ذراعي جدي يحملني راكضا صوب الجبال وبندقيتي الصغيرة تتدلى أسفل كتفي وأنا اصرخ: أين ذهبت أمي يا جدي... هل ذهبت عند أبي?... لم يتوقف للإجابة على سؤالي الحزين بل واصل سعيه بهمة وحيوية خلف الكثيرين من أهل القرية وشيخها الجليل وابنته زينب والذين تركوا بيوتهم الطينية وأدوات عيشهم بعد أن اصبح اليهود قاب قوسين أو أدنى.. في تلك السن الصغيرة أدركت أن بندقيتي الصغيرة (اللعبة) لا تصلح لقتل اليهود بل لا بد من الحصول على بندقية حقيقية سيجود بها علي مستقبل الأيام القادمة.

 

حسين سعيد طه