ما بين الكتب والمكتبات جابر عصفور

ما بين الكتب والمكتبات

أذكر أن سنوات المدرسة الثانوية كانت سنوات الاقتناء الأول للكتب, وبدأت عملية الاقتناء بملاحظة مصدر جديد للقراءة, في أحد شوارع مدينة المحلة الكبرى, وهو عربة يد, كان يمتلكها رجل طيب, كهل, سمح الوجه يحنو علينا حنو الآباء على الأبناء.

وكان اسم الرجل هو (عم كامل). ويبدو أن حبه للكتب دفعه إلى اتخاذها حرفة يتعيّش منها, فكان يصفّ الكتب على عربته, وأغلبها روايات تغري من كانوا في سنوات المراهقة الجسدية والقرائية. وكان يؤجر الكتاب لمن يريد الاطلاع عليه مقابل قرش واحد. وكنت أمرّ على العم كامل في طريق الذهاب والإياب من المدرسة, وأغرتني بعض الروايات باستئجارها. وقادتني غواية الاستئجار إلى الاقتناء. وأذكر أن أول كتاب أشتريته من العم كامل كان رواية (في بيتنا رجل) لإحسان عبدالقدوس التي التهمتها في ليلة واحدة, فصرفتني متعة قراءتها عن الاهتمام بالمبلغ الكبير الذي دفعته فيها, وكان خمسة قروش كاملة في ذلك الزمن البعيد. لكن هذه القروش الخمسة, التي كانت مصروفي ليومين لم تمنعني من شراء بقية كتب إحسان عبدالقدوس التي كنت أراها على عربة العم كامل, وكتب يوسف السباعي التي كانت تتميز بأناقة طباعتها وفنية أغلفتها. ويبدو أن إقبالي على القراءة والاقتناء قارب ما بيني والعم كامل الذي أخذ يحتفي بي, ويهش في وجهي كلما رآني, ويمنحني خصمًا خاصًا, كان له وزنه بالقياس إلى ميزانيتي التي لم تكن تجاوز القروش في النهاية. هكذا, تكاثرت الكتب التي ساعدني العم كامل على اقتنائها أو قراءتها. ومن إحسان عبدالقدوس إلى عبدالحميد جودة السحار, وعلي أحمد باكثير صاحب (واإسلاماه) و(الثائر الأحمر) ولم تتأخر المعرفة بنجيب محفوظ طويلاً, وذلك من خلال (المرتجع) من روايات (الكتاب الذهبي) الذي كان يصدره نادي القصة في مصر بثمن زهيد, يدفع على القراءة. أظنه كان لا يجاوز عشرة قروش, وكانت النسخ المرتجعة تجد طريقها إلى باعة الكتب القديمة الذين يبيعونها بنصف الثمن, أو ربعه أحيانًا, متيحين لنا, نحن العشاق الفقراء, أن نقتني أعمال من نحبّه من الكتاب بقروش معدودة.

وأذكر جيدًا أنني قرأت لنجيب محفوظ - بواسطة عربة العم كامل - روايات (زقاق المدق) و(خان الخليلي), وربما (بداية ونهاية). وسرعان ما احتلت روايات نجيب محفوظ مكانها الأثير في عقلي ووجداني, وأزاحت جانبًا روايات محمد عبدالحليم عبدالله الذي سرعان ما مللت من رومانسيته, بالرغم من إعجابي الباكر بأبطاله الذين كانوا يشبهونني في الظروف الاقتصادية, ويسعون إلى الارتقاء بأنفسهم عن طريق العلم, فضلاً عن طرافة اختياره لعناوين رواياته التي ظلت تأسرني لفترة قصيرة, من مثل(بعد الغروب) و(شجرة اللبلاب) و(شمس الخريف) و(غصن الزيتون)...إلى آخر الروايات التي كان لها صداها في الخمسينيات, وكانت تتميز بنزعتها الرومانسية التي تجذب قراء البدايات. ولم تكن روايات السباعي تقل رومانسية عن روايات عبدالحليم عبدالله, فقد ظل كلاهما لعهد غير قصير نموذجًا للكتابة الرومانسية بامتياز. فظلت أعمالهما أثيرة في قدرتها على مداعبة أحلام المراهقين من المستجدين في هواية القراءة. وكان يوسف السباعي ينشر منذ أواخر الأربعينيات, وكنا نعرف أنه ابن الكاتب محمد السباعي الذي ينتسب إلى جيل طه حسين والعقاد وهيكل, وقد قرأت له ما أكمل رواية (الفيلسوف), التي تركها الأب (الذي كان قد ترجم كتاب كارلايل الشهير عن (الأبطال) إن لم تخني الذاكرة). وقد لفت نظري - حتى في تلك المرحلة الباكرة من العمر - الاختلاف بين أسلوب الأب الرصين وأسلوب الابن الذي سرعان ما أصبح نجمًا للرومانسية في الخمسينيات, التي شهدت إعادة طبع روايته (أرض النفاق) إلى جانب (إني راحلة) و(بين الأطلال), والأخيرة هي الرواية التي تنافسنا على حفظ مونولوج البطل للشمس الغاربة. يشهدها أن حبه للحبيبة خالد كخلود الشمس نفسها. وبالطبع لم يكن من الممكن أن نترك روايته (رد قلبي) دون اهتمام, فهي رواية عن العوامل التي أدّت إلى ثورة يوليو 1952, التي ارتبطنا بها وجدانيًا, ولم تخل هي الأخرى من مشاهد حب بين علي ابن الفقراء والبرنسيسة الجميلة التي وقع في غرامها. وقد خرجت الرواية في فيلم شهير بالعنوان نفسه, ودخلنا الفيلم الذي أصبح من كلاسيات السينما المصرية أكثر من مرة.

مع الرواية التاريخية

وأذكر أن الروايات التاريخية جذبت انتباهي في تلك السنوات, أولا: لأنها أتاحت لي أن أعرف من التاريخ مالم أكن أعرفه. وثانيًا: للطابع الجذاب الذي لا يخلو من التشويق والعاطفة, فدائمًا كانت الرواية التاريخية تدور حول قصة غرامية, تكون في مقدمة الأحداث التي يتناغم بها المهاد التاريخي ويتشابك معها. وأذكر أن هذه السنوات كانت بداية معرفتي بروايات جرجي زيدان التي حاول فيها أن يؤرخ للتمدن الإسلامي, على امتداد عصوره, من وجهة نظره العقلانية المستنيرة. وقد مضى في أثره علي أحمد باكثير الذي أصدر (الثائر الأحمر) وهي رواية لاأزال أذكر بعض أحداثها عن (حمدان قرمط), وأضيف إليها (سلامة القس) و(سيرة شجاع) وأشهر رواياته: (واإسلاماه). وهي الرواية التي أصبحت فيلمًا شهيرًا اكتسب جماهيرية دالة. وكان عبدالحميد جودة السحار الذي أنشأ (دار النشر للجامعيين) كي يفتح منفذًا لأعماله وأعمال أقرانه مثل علي أحمد باكثير الذي لاأزال أذكر شعار (دار النشر للجامعيين) على الروايات التي قرأتها له, أقول كان عبدالحميد جودة السحار مغرمًا بالرواية التاريخية, التي أصدر منها ما قرأته على عربة العم كامل التي عرفت منها (أحمس بطل الاستقلال) و(أميرة قرطبة). و(قلعة الأبطال). وقد لاحظت في ذلك الزمان أن السحار كان يشارك نجيب محفوظ الاهتمام برواية الأجيال, وقد أصدرمنها (الشارع الجديد) و(في قافلة الزمان) والعنوان الأخير واضح الدلالة في إشارته إلى الزمن.

وقد قضيت زمنًا من الإعجاب بالعناصر الرومانسية في روايات الكتاب الذين ذكرتهم, والذين كانوا مدخلي الأول إلى عالم الرواية الذي أحببته كل الحب, وتهوست بالانطلاق فيه, وذلك من قبل أن أقع في محبة الشعر الذي استأثر بي بعد ذلك بسنوات. لكنه لم يقض على غرامي القديم والمستمر بالرواية. ويبدو - إذا جاز لي أن أفسر هذه الاندفاعة الحماسية من الرواية - أنها كانت البذرة التي ظلت تنمو مع الزمن, وتدفعني إلى ملاحظة تقدم الرواية التي وصلت إلى أعلى درجات ازدهارها الذي جعلني أطلق على زمننا المعاصر اسم (زمن الرواية). وهو عنوان كتابي الذي لايزال يثير حوله الكثير من النقاش والاختلاف. ولكن بالرغم من تعاطفي مع العناصر الرومانسية المبثوثة في كتابات فرسان الرومانسية الأول, التي كنت أتعاطف معها, لكني لم أكن أتعاطف مع الرومانسيات الأقدم, التي كانت تمثلها كتابات المنفلوطي الذي عرفناه في (تحت ظلال الزيزفون) و(ماجدولين) إلى آخر قصصه التي جمعها في (العبرات). وأذكر أن نجيب محفوظ وصف جيله بأنه جيل بكى كثيرًا عندما قرأ المنفلوطي وتأثر به. ومع الأسف,. فأنا لم أبك على الإطلاق عندما قرأت المنفلوطي, بل فعلت العكس تمامًا. ولا أزال أذكر قصته (اليتيم) التي جعلتني أضحك من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة, فلم أكن أحتمل كل هذا الوصف للدموع المنهمرة المتدافعة كالسيول, ولا تلك المبالغات التي تقترن بالإسراف في النزوع الرومانسي عند المنفلوطي. فضلاً عن لغته المسجوعة, التي لم أكن أحتملها, خصوصًا بعد أن تعودت على اللغة الطلقة البسيطة الخالية من الزخارف البلاغية. ومن المؤكد أن قراءتي لأمثال باكثير والسحار والسباعي وعبدالحليم عبدالله جعلتني معجبًا بالرومانسية التي كانت تتجاوب مع تكويني النفسي والمرحلة العقلية والوجدانية التي كنت عليها, في الخمسينيات, ولكنها ظلت رومانسية معتدلة في آخر الأمر, ولم تغرق في الدموع أو تبالغ في المشاعر والأوصاف على نحو ما فعل المنفلوطي الذي سرقني منه جيل نجيب محفوظ ببلاغته الجديدة.

الطريف أن هذا الجنوح الرومانسي الذي انطويت عليه لم يستمر طويلا, فسرعان ما فارقني بالرغم من آثاره التي تركها, والتي جعلتني لا أكفّ عن الإعجاب برواية (في بيتنا رجل), التي كانت رائعة إحسان في الخمسينيات, ولا تقل مكانة عن (أنا حرة), التي واكبت توجّه المرأة المصرية إلى الاستقلال, كما واكبت رواية (في بيتنا رجل) و(شيء في صدري) توجّه الوطن كله إلى التحرر القومي, وتحقيق العدالة الاجتماعية. وقد ظهرت الروايتان الأخيرتان - مع (أنا حرة) - في أفلام. ظلت من علامات السينما المصرية. وهي السينما التي كانت تنجذب إلى الكتّاب الذين يتميز أسلوبهم بالسلاسة والبساطة, وتنبني لغتهم على إحساس بصري, لا يقل في تأكده عن الأحداث والشخصيات الجذابة التي لا تنسى.

ولا أعرف متى أخذ يتوقف هذا النزوع الرومانسي في داخلي?! ربما كان الأمر مقترنًا بمعرفة أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم الذي لم أفهم المرامي المضمرة للمسكوت عنه في روايته المهمة (تلك الأيام) لكني تعاطفت مع (الجبل) وأعجبتني (الساخن والبارد) التي تدور حول صراع الشرق والغرب. وكان ذلك قبل سنوات وسنوات من إصدار فتحي غانم لروايته الأكثر شهرة: (زينب والعرش) و(الأفيال) وغيرهما. ومن المؤكد أن روايات محفوظ التاريخية لم تخل من نزعة رومانسية قوية, تميزت بها هذه الروايات التي انجذبت فيها إلى (كفاح طيبة), التي لاأزال أراها قمة روايات محفوظ التاريخية الأولى بالقياس إلى (رادوبيس), التي لاأزال أعدّها أضعف روايات محفوظ التاريخية. ولاأزال أفضل عليها رواية (عبث الأقدار) بالرغم مما فيها من بدايات التصميم الهندسي المفروض ابتداء على مجرى الأحداث, وهو الأمر الذي أخذ يظهر بعد ذلك في روايات نجيب محفوظ اللاحقة التي لم تخل - قط - من نزعة حتمية, لا يمكن أن تخطئها العين الفاحصة. ولكن يبقى لنجيب محفوظ فضل أنه باعد ما بيني والرومانسية إلى الأبد, وجعلني أميل إلى الواقعية النقدية, التي تجسّدت في روايات من عينة (خان الخليلي) و(زقاق المدق) و(بداية ونهاية). أما الثلاثية, فكانت الدرّة التي ارتفعت إلى أعلى مكانة بالقياس إلى ما قبلها, وجعلت نماذج رواية الأجيال التي حاولها السحار في (الشارع الجديد) و(في قافلة الزمان) أقرب إلى سذاجة البدايات. ولاتزال الثلاثية في نظري - إلى اليوم - عملاً ملحميًا من أعمال الواقعية النقدية في أصفى أوضاعها, خصوصًا تلك الأوضاع التي تسقط الزمن على التاريخ وتتحرك بالشخصيات المتعاقبة على منشور تاريخي طويل المدى, ابتداء من جيل ثورة 1919 إلى جيل ما قبل ثورة يوليو التي قادها العسكر الذين سبقوا مثقفي اليمين واليسار (أحمد شوكت وعبدالمنعم شوكت) إلى الثورة.

على سلم القيم الأدبية

وأعترف أن قراءة واقعية نجيب محفوظ لم تبعدني عن النزوع الرومانسي فحسب, بل جعلتني أراجع سلم القيم الأدبية الذي انطويت عليه, فكانت النتيجة تراجع مكانة يوسف السباعي وعبدالحليم عبدالله وعلي أحمد باكثير. واقترنت هذه النتيجة باكتشاف أن موهبة عبدالحميد جودة السحار لم تكن قط في مستوى موهبة زميل عمره نجيب محفوظ. ولاأزال أعتقد أن روايته (الشارع الجديد) هي موازاة لثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة, أو هي - على الأقل - رواية أجيال مثل الثلاثية, لكنها أقل جرأة وأكثر دورانًا في مدارات لا تعرف الانفتاح الرحب ولا عمق الغوص في أعماق الشخصيات الروائية, أو قدرة الاستبطان الذي انطوت عليه الثلاثية بتعدد أجيالها وتنوع شخوصها التي لا تنسى.

وظل الأمر على هذا النحو إلى أن قرأت (أرخص ليالي) يوسف إدريس, فبدأ يلفت انتباهي, ويجد لنفسه مكانًا مجاورًا لنجيب محفوظ في مكتبتي الخاصة التي ضمت من أعماله (جمهورية فرحات) وغيرها من الكتب التي صدرت في (الكتاب الذهبي) قبل أن يتحول إلى (الكتاب الفضي). والمؤكد أنني لم ألتفت في ذلك الوقت إلى بلاغة يوسف إدريس الخاصة التي كان يريد بها استقطار جماليات اللغة العامية, ورفعها إلى مستوى الفصحى, وذلك بعمليات تعديل بسيطة, تبقى على الصلة بحيوية العامية, التي جعلته يصرّ على الخطأ النحوي في عنوان مجموعته الأولى الذي جعله (أرخص ليالي) بدل (أرخص ليالٍ). ومن المؤكد أنني لم ألتفت إلى ذلك كله في ذلك الزمن البعيد, فقد شغلتني حيوية الكتابة, وأسرتني عفوية السرد, وبساطة وعمق الشخصيات, في آن, ولاأزال أذكر بعض تفاصيل قصة (أرخص ليالي) نفسها بالرغم من مرور السنوات. وهي قصة تدور حول فلاح يريد أن يقضي وقتًا مبهجًا, بعد فراعه من عمل يوم شاق, فيحاول كل ما في استطاعته, ولكن كل محاولاته تبوء بالفشل, فلا يجد مفرًا من أن يعود إلى بيته, ويلقي بنفسه في حضن امرأته, ممارسًا اللقاء الذي يترتب عليه المزيد من الأطفال, وقد ظل هذا المشهد ماثلاً في ذاكرتي, استرجعته بقوة عندما قرأت مونولوج (الحلاج) في مسرحية صلاح عبدالصبور الشهيرة التي يصف فيها الحلاج نفسه بأنه رجل من غمار الموالي, فقير الأرومة والمنبت, فلا حسبه ينتمي للسماء, ولا رفعته إليها ثروته:

ولدت كآلاف من يولدون
بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيرًا بذات مساء
سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية

ولا أجد - إلى اليوم - تعبيرًا أفضل عن المأزق المتكرر لبطل (ليالي) يوسف إدريس من أسطر صلاح عبدالصبور الشعرية, التي لاتزال تؤكد لي عمق العلاقة بين الشاعر وصديقه كاتب القصة. وهما مبدعان كبيران. قاربت بينهما الهموم المشتركة, والاهتمامات المتقاربة, الأمر الذي انعكس في نقاط تشابه دالة بينهما, لم يلتفت إليها النقاد إلى اليوم, ولكنها تجذب الانتباه إليها, خصوصًا بما تحمله من تشابه فاتن في دلالته, يصل ما بين قصة من مثل (السيدة فينا) وقصيدة صلاح (امرأة من فينا).

مع النشوة والتمرد والجنون

وكانت معرفة يوسف إدريس معلمًا بارزًا في مسار تذوقي, فقد تعلمت منه حب القصة القصيرة, كما تعلمت من نجيب محفوظ محبة الرواية. ولاأزال أقرن بين الاثنين في وعيي الأدبي, من حيث المكانة والقيمة, وإن كنت أمايز بين الاثنين في المنزع, فنجيب محفوظ أقرب إلى شخصية (أبولو) المقترنة بالتعقل والنظام والسطوع الشمسي في الأساطير اليونانية, أما يوسف إدريس, فكان أقرب إلى ديونيسوس المقترن بالنشوة والجنون والاندفاع والتمرد الذي لا ينقطع, وأحسب أن الجمع بين الاثنين لايزال يشبع حاجتين متوازنتين في تكويني الذي يعشق التعقل والنظام, لكن بما لا يمنع رغبة الخروج على النظام والتمرد على التعقل من حين إلى آخر.

الطريف أن شابا يقاربني في العمر, أخذ يساعد العم كامل في بيع الكتب, وسرعان ما استقل عنه, وأنشأ تجارته المستقلة التي أقبلنا عليها, خصوصًا بعد مرض العم كامل ورحيله الذي ترك في أنفسنا غصّة وحسرة, فقد كان الرجل - رحمه الله - صاحب فضل على مجموعة المحلة الكبرى التي سرعان ما ضمت كتّابا موهوبين, تعددت أجيالهم التي ضمت محمد صالح ونصر حامد أبو زيد وسعيد الكفراوي وأحمد عسر ورمضان جميل وزكريا التوابتي, ثم محمد المنسي قنديل وأحمد الحوتي ومحمد فريد أبو سعدة وجار النبي الحلو. وهي مجموعة ضمت شعراء وكتاب قصة, ونقادًا ودارسي أدب. وبعضهم توفاه الله كأحمد عسر الذي كان أكبرنا سنًا, وأسبقنا إلى هواية الأدب, وكان - رحمه الله - ابن عمدة, يتميز بكرمه الذي كان يجمعنا في منزله. وكان أحمد الحوتي الشاعر الذي مات قبل أن يحقق وعده الإبداعي من أعضاء المجموعة, إذ سرعان ما لحق بنا, وصار واحدًا من (الشلة). وكذلك كان زكريا التوابتي الذي كان أول واحد في المجموعة, حصل على جائزة نادي القصة عن إحدى قصصه القصيرة. وكان لجوائز نادي القصة في ذلك الزمان قيمة ومكانة. أما بقية المجموعة فقد عرف أغلبهم طريقه إلى النجاح الأدبي والشهرة الإبداعية مثل محمد صالح ومحمد المنسي قنديل وسعيد الكفراوي, وبعضهم الأخير آثر أن يستبدل بغواية الأدب غوايات أخرى. أربح وأنفع.

مجموعة المحلة

ولا أنسى لقاءات هذه المجموعة, خصوصًا بعد أن أسسوا منتدى أدبيًا, كنت أتردد عليه في أشهر الصيف, عندما كنت أعود من الجامعة في الإجازة الصيفية, وكان ذلك في السنوات التي دفعت شابا ثانيا من مريدي العم كامل, ومساعديه في أواخر أيامه, إلى خوض غمار التجربة التي شجعناه عليها, فأصبح - مثل شبيهه الذي سبقه - بمرور الوقت صاحب مكتبة صغيرة في أهم شارع تجاري في مدينة المحلة الكبرى إلى اليوم, هو شارع (العباسي) إن لم تكن أسماء الشوارع قد تغيرت, وأصبحت مكتبة محمد أبو العلا مثل مكتبة طلعت قنديل مكانًا لتجمّعنا, ومصدرًا متجددًا للروايات والكتب التي لم تتوقف عن جذب اهتمامنا, ودفعنا إلى النقاش حولها, وكان ذلك يحدث في جلسات نعقدها في بيوتنا, وتمتد إلى الصباح ويفرح بها آباؤنا الذين كان يطمئنهم إقبالنا على القراءة, ويؤكد لهم عدم انحرافنا إلى غير ما يرضونه لنا. ومع الوقت, كبرت المكتبتان اللتان أصبحتا مصدرًا لاستئجار واقتناء الكتب التي جمعت محبتها بيننا, وخلقت رابطة من الإخاء الذي لم ينقطع إلى اليوم. وهو إخاء لايزال يذكرني ببيتي علي بن الجهم الذي كان صديقًا لأبي تمام, وكلاهما شاعر عباسي كبير, خصوصًا حين يقول علي بن الجهم:

إن يُكْدِ مطّرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا أدب أقمناه مقام الوالد


ولاتزال الصداقة التي تربطني بمجموعة المحلة الكبرى قوية, لم يؤثر فيها اختلاف الطرق, وتباعد الأماكن, فالجذور قوية وراسخة كالعلاقة بالأهل. ولاأزال أدين لهذه المجموعة التي سبقني الكبار منها إلى تأسيس ناد للأدب وملتقى ثقافي أسبوعي في قصر الثقافة, ظللت مواظبًا على حضوره والإسهام في نقاشاته, التي ازدحمت بمشكلاتها الفكرية, وهمومها الأدبية. وكان نصر أبو زيد - في ذلك الوقت - يكتب قصائده العامية على طريقة صلاح جاهين, وأقرب إلى أفكار الإخوان المسلمين, التي سرعان ما انتقل منها إلى فكر معتزلة الإسلام الذي لم يفارق صيغه المعاصرة إلى اليوم. وكل ما يتردد عن غمزه في دينه, أو تكفيره بسبب كتاباته, لا يخرج عن الافتراءات الظالمة التي يتعلق فيها المتطرفون بكلمة أو عبارة, ينتزعونها من سياقها على طريقة الوقوف عند (لا تقربوا الصلاة) وترك بقية الآية. وكان محمد صالح يكتب قصائده الأولى التي ظلت تتراكم مع الخبرة والنضج, وذلك قبل أن ينتقل من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر, ويغدو صوتًا من أهم أصواتها. ومثل محمد صالح رمضان جميل الذي فاجأنا بقصة قصيرة بعنوان (موت عامل نسيج يدوي). كانت نوعًا من الموازاة المعارضة لقصة تشيكوف الشهيرة (موت كاتب) وفرحنا بقصة رمضان التي سبقت إلى النشر في جريدة الجمهورية, إن لم تخنّي الذاكرة, ومن الأسف أن صديقنا لم يكمل الطريق, وخرج منه مبكّرًا بسبب مشاغل الحياة وهمومها. أما سعيد الكفراوي فقد ظل شعلة الحماسة, وخفة الظل في المجموعة, لا يستقر في موضع قط, ويتميز بقدرته الفائقة على الحكي الذي لايزال يؤديه بكل جوارحه, وكان في تلك السنوات البعيدة من مطالع الستينيات متأثرًا كل التأثر بأسلوب نجيب محفوظ, خصوصًا في كتاباته الأولى. باحثًا عن صوته المتفرّد الذي اهتدى إليه بعد ذلك, فأصبح واحدًا من أبرز كتّاب القصة القصيرة في العالم العربي. أما محمد المنسي قنديل, وجار النبي الحلو, فكانا أصغر سنًا من أغلب أعضاء المجموعة, ولكن سرعان ما أدركتهما حرفة الأدب, التي أرست بهما على ضفاف الرواية التي أبدعا فيها بما أكد حضورهما المتميز.

 

جابر عصفور