البوابة والأسرار في عشر قصص فايز الداية

البوابة والأسرار في عشر قصص

محمد الشارخ حكَّاء يملك بنية الحكاية ولا يغامر خلف أشكال السرد الحديثة, ولكنه يختار أسلوباً تصاعدياً يمتزج فيه الماضي بالحاضر

إن التباين بين قراءتي المتسارعة لمجموعة محمد الشارخ القصصية (عشر قصص/ 2006) وما كنت عليه من التردّد والتوجّس عندما تصفحتها, جعلاني أعود إلى غلافها متأملا وباحثًا عن إشارات سيميائية تضيء حالة التلقي هذه, خاصة أن المؤلف مشارك في تكوين بوابة عمله الإبداعي أو هو متابع له, فصاحبة التصميم هي (مناير الشارخ).

لعلّ محمد الشارخ أدرك ما يمكن أن يجول في خواطر المتلقين لعمله وخاصة النقّاد: هل هم أمام مخزون قديم لقصص بدأ صاحبها رحلته في سبعينيات القرن العشرين وشغلته الإدارة والحواسيب التي أنطقها بلغة الضاد وحركة المال? أم هم مع قصص جديدة لمن باعدت بينه وبين الحروف أزمنة ومسافات?

لذلك كله لجأ إلى البيت العربي القديم يستمد منه العون, فاختار عنوانًا مجردًا لا يحمل أي سمة مميّزة هو: (عشر قصص) واستعان بزخرفة عربية ناريّة على جزء من الغلاف الذي اتشح بلون أسود فيه من ظلال العباءة العربية شيء, ومن الهدوء والتأمّل ما يجعلنا نتمهّل ونترقّب ما خلف هذه البوابة كما هي الحال مع البيوت العربية القديمة في دمشق والقاهرة وفاس وقرطبة.. والتي لا تكشف مكنوناتها وأسرارها لمن هم خارجها, ولكن الخطوات في الأروقة والممرّات تتأدى إلى حدائقها وقاعاتها وعوالمها الغنية والفسيحة.

إن وعي الكاتب جعله يطلق رسالته في منظومة دلالية تتخذ لها ثلاثة حقول أو محاور تتكشف من خلالها دلالات المال والمثقف والوطن في دنيا العروبة المعاصرة, وكان اختيار الزوايا وتحليل النفوس يحددان المساحات الدلالية والشرائح الاجتماعية, ويلحظ القارئ تداخل تلك الحقول في عدد من القصص مثل ما يتابعه من أمكنة بأسمائها الصريحة: الكويت, البصرة, تعز, عدن, قانا, أو بدوالٍ رمزية: بلد الرمّان, بلد البطيخ, أو بصحبة عبارات من اللهجات العربية أومعالم وعلاقات تشير إلى مواقع نعرفها, وعندما خرج من المكان العربي (إفريقية, نيويورك) كان الحدث يحيط بشخصيات عربية.

سحر القصّ

لقد جمع الشارخ القدرة على رسم نهايات مدهشة مع سرد يستوفي تفاصيل تضعنا في الموقع, فندرك امتداد الحالة النفسية ونحس بالمشهد والمفارقات المترتبة عليها ودلالاتها, كما في حديث المجوهرات والألماس والغواية العابثة في قصة (الحفلة), وحالة طائرة الراكوتا المتهالكة وركابها بأغنامهم, وموقد النفط في فضاء تعز وعدن في قصة (بيبسي), ولم يستسلم إلى متعة الوصف وإنما أقام موازنة حفظت تماسك السرد.

وجاءت النهايات في معظم القصص حادّة أو لاذعة, فكانت تؤطر الحدث وتبقى حاملة دعوة إلى التأمل فيها تؤدي إليه هذه النهاية, فيعيد المتلقي حساباته ويقلّب الصفحات مرة أخرى وهي تضاء بلون أو ألوان أخرى تفسّرها وتقترح تأويلاً آخر أو مسارًا محتملاً. ففي قصة (ابني ليس ابني) يضطر أبو حمد إلى اصطحاب فتى بائس حطّمته حالة الطغيان في العراق بدلاً من ابنه الذي ضاع في سجن البصرة إبان غزو الكويت, وفي اللحظة الفاصلة يدخله إلى البيت بدلاً من ضياعه في فضاء عدمي لا يقبله فيه أحد, وفي قصة (الحفلة) نكاد نسمع ارتطام سقوط (لولو) المرأة المتزوجة صاحبة الملايين وهي تسعى لتصحيح مبلغ (الشيك) الذي قدّمه خطيبها السابق والذي غدا صاحب بلايين.. لقد جعلها تغوص بعيدًا في المهانة:

(وفي البلكونة قلتُ له الشيك غلط نظر إليّ باسمًا وسألني لماذا غلط? قال وهو يمسك يدي: لا. لا يوجد غلط. كدت أموت غيظًا وهو ينظر في وجهي بصفاقة ووقاحة. قلت: أنت قلت خمسة ملايين! شدّ على يدي باسمًا, وقال بثقة وبدون تردّد أو مجاملة أو ارتباك: لا بأس الليلة اتفقنا على المبدأ, وغدًا يالولو نتفاهم على الثمن).

إن لولو لم تدرك وهي تحلم بطقم ألماس ذاك الخيط الرابط بين الشيك وموعد الفندق وحقيقة تحوّلها إلى سلعة لها ثمن.

وفي قصة (زياد غالب وابنه تيمور) تصدم النهاية الابن الذي احتفل بانتصاره على نجل أبيه بعد سجال حفل بالسخرية والتحدّي, لقد ترك د.زياد ثروة طائلة (ما يزيد على مليون مارك) للخادمة أم فوزي التي قامت على خدمته ونرى الضربة الأخيرة تفعل فعلها بعد موت الأب.

وتنقلنا خاتمة قصة (وليمة إبراهيم منصور) إلى جانب آخر تبلور في سرد محمد الشارخ ذلك هو أسلوبه الساخر الذي يتخلل القصص ويؤازره جنوح إلى الفنتازيا التي تكسر واقعية القصص, وبهذا يدعونا إلى الاستعانة بهذا الانزياح حتى نستطيع احتمال ما لا يجدي فيه إعمال الفكر والعقل, وقد تكون إشارته في قصة (بيبسي) دليلاً على ما نثره في تضاعف القصص: (فإن الطريقة التي وجدتها أمامي - ككل الأقدار التي تواجهنا - هي أن أمزج الخوف بالفكاهة).

وقد تحوّلت قصة (وليمة إبراهيم منصور) من سرد وقائع رحلة استجمام في أدغال (إفريقية حيث تقوم منتجعات للأثرياء إلى حالة فنتازية ساخرة عندما تحاصر سباع الغابة سيارة الراوي وأسرته ويتتابع عطل السيارة مع فقدان الاتصال الهاتفي وحلول الظلام وأمطار غزيرة, ثم افتراس السائق الذي دفع به ليبحث عن مخرج, وأخيرا تمتد المخالب إلى الأولاد, فهاهنا نعود إلى حقيقة هذه الرحلة, وكيف آلت إلى كابوس يُضم إلى أفلام الرعب, ونتساءل عن الغاية منها, وهل هي فاصل مرح بين مسارات القصص وحقولها?

إن ما جاء في قصة (الحسناء) يدلّ على إمساك المؤلف بالمفارقات الضاحكة في فندق يرتاده رجال الأعمال, وتتخلل نسيج علاقاتهم وتوزّعهم بين توتّر المال وفراغات الزمن نزوات لا تظهر للأعين إلا مع الأخطاء, وفي قصة (بيبسي) تتجلّى طاقة السخرية وتقترن برغبة عرض التجربة السياسية والإدارية والفساد يتسلّل إليها, وتبدّدها الأهواء, لذلك تبدو المفارقة فاقعة بين الأحوال على الأرض والأقوال تطلق عبر الأثير والصفحات المطبوعة, ولعلّ سطورًا قليلة تنوب عن الروح الساخرة لدى الشارخ: (كان الفنجان أمام وجهي, كان لا بدّ من أخذها, واتجهت بعيني نحوه لأخذ الفنجان وشاهدت نار البريموس مشتعلة داخل الطائرة قرب البطانيات وقفص الدجاج, أخذت الفنجان وأنا أنوح (يرحم والديك أطفئ البريموس) وضع يده على كتفي والنار تشتعل خلفه: تخاف حتى من البريموس! كفّه ثقيلة على الكتف, مضيف مربوع على عكس كل المضيفين الذين رأيتهم طيلة الأربعين أو الخمسين سنة الماضية...).

أمّا شخصيات القصص فهي من واقع الحياة العربية المعاصرة, لكننا نلحظ أن عددًا منها يرتقي تصويره ليغدو نموذجًا بشريًا في واحد من جنبات الدنيا بتقاطعات قيمها وأحداثها كشخصية الضابط العراقي في الكويت, وشخصية زياد غالب أستاذ الحقوق والثري, ورمز البخل في لبوس معاصر يذكّر المتلقي ببخلاء الجاحظ وموليير وشكسبير, وشخصية خزنة التي أحبّت المال حتى أتى على روحها كأنما هو عهد الشيطان مع فاوست, فلم تعد تملك إحساسًا يتردد صداه في الضمير, بل إنها لا تهتم بما هو خارج أصابعها!!

المال والأرض ونفوس

يدرك محمد الشارخ أن الفن لا يقدّم أجوبة, وإنما يثير تساؤلات ويحرّك المياه الراكدة, لذلك نراه يتحوّل في عدد من المواقف التي يتنامى فيها المال العربي بين الأيدي المعاصرة ويتلاقح السؤال الخفي المشوب بغصّة تعاودنا: كيف لم تفلح تلك الأرقام الفلكية المختزنة والمتداولة في مصارف العالم وأسواقه وهي ذات نسب عربي سواء من خلال الأرض أو العقول والإقامة والهجرة, كيف لم تفلح في انتشال هذا الوطن الكبير من وهدة التخلف والفقر اللذين يعطلان بوارق تلمع هنا أو هناك, إن بعضهم يقول: نريد شرارة تندفع بعدها إبداعات وإنجازات مادية وفكرية تضعنا على درب الحضارة والقوة وتتوالد أسئلة أخرى: هل هي النفوس أم هو المجتمع والإدارة والفساد?

إن المتلقي لقصص الشارخ يلحظ تقاطعًا أساسيًا بين سلطان المال العربي وشخصية المثقف, وعلى الرغم من إشكالية تعريف المثقف, لكننا نراه في صورة افتراضية متعلمًا بدرجة عالية ومحتكًا ببيئات العالم الحضارية مادية وسياسية وفكرية, وممسكًا بأطراف للسلطة وهكذا يختلط الاقتصادي رجل الأعمال والفنان والمفكر والأديب مع صاحب الإدارة. إننا نتابع قصة (الحفلة) ونجد فيها أجواء البلايين والملايين ورجالها ونسائها, ولئن رغب الكاتب إنتاج دلالات نفسية واجتماعية, لقد أراد الإشارة إلى الأساس الذي تبنى فوقه القرارات وتنسج العلاقات, إن حشدًا ممن يغرقون في المال وصفقاته يظهرون في وجهين من بلّورة سحرية, فهم يملكون ويسافرون بطائرة خاصة لحضور حفل الأزياء وتسيل الأرقام الفلكية مع حبر أقلامهم أو في ضربات أزرار الحاسوب, ولكنهم في الوجه الآخر مستلبون, فأخلاقهم تميل بها الأهواء ولا مكان لمعايير تقف دون الرغبة إن ارتفعت هامتها على الطريق, ويصحّ هنا أن تضيفهم إلى تلك الأرقام من غير أن يملكوا تصريفها في وجهات تمليها قيم نبيلة!

وهكذا تتجلّى البنية الداخلية لحالات ممن بيدهم مفاتيح الأموال والذين غدت الفنادق الكبرى والمطارات هي البديل للحيّ القديم وأهله وأسسه, وهنا لا يمكننا أن نطلق التعميم بطبيعة الحال ولكنها حالات مع النظر إلى تسارع العدوى في الأجواء المفتوحة!

وفي قصة (ديرة بطيخ) تراجيديا صراع بين سلطان المال الذي يريد أو يحنّ إلى موطنه, وقد بدأنا بما يحلم به أو بما سيئول إليه ذاك المال المهاجر, لأن الأرقام عندما تترك بين الناس تكتسب منهم الطموح والسلطة, وهكذا تتوالى رحلة الصعود والهجرة المعاكسة لرجل أعمال وأسرته في قصة يحيط بها الرمز وومضات ساخرة على الرغم من طيّات التراجيديا السوداوية.

وقد تكون قصة (مزاح قاتل) في النظرة الأولى حالة اجتماعية لامرأة تحقق أمنياتها عبر ثروات أزواج يموتون, وتضطرب علاقاتها الاجتماعية, لكننا بتأمل أبعد نجد حركة المال الداخلي تغدو تحوّلا وإشعاعًا يفتك بأصحابه عندما يفقدون القدرة على توجيهه في تكوين علاقة إنسانية سوية تكون لبنة أولى في ارتقاء المجتمع وتثمير إمكاناته, إن رجالا كان المال ينتزعهم من مسارهم ليندفعوا وراء الرغبة وامرأة تتورّم الأنا لديها, ويموت الإحساس بالآخر, فكيف تبني?? ويصوّر المشهد الأخير ما آلت إليه (خزنة) المرأة المكتنزة بالمال, وهي تجلس على حطام إنساني هو نعيمة شقيقة زوجها الأخير وعمّة ابنتها الوحيدة:

(صمتت نعيمة وهي تلهث, ثم أخذت رقبتها تنتفض, وجسمها كذلك, وزبد في فمها, وصار لون وجهها ويديها أصفر فأخضر, وبعد هنيهة سقط رأسها على الأرض, وخزنة لم تغيّر جلستها تنظر إليها دون أي ارتباك, تنهّدت تنهيدة طويلة كما لو كانت تزيح شيئًا عن صدرها وقالت للخادمة الآسيوية مشّطي شعري وبعدين اتصلي بالإسعاف).

إذا جاز لنا استعارة مصطلحات المسرح فإننا سنمنح قصة (بيبسي) دلالة الكوميديا السوداء, فقد استعرض الكاتب طاقات الضحك والسخرية في مواضع تثير الأسى لضياع أزمنة وقدرات لديار عربية, والعالم تتسارع خطواته وأطماعه! وبؤرة المأساة أولئك المثقفون وقد نالوا شهادات من جامعات راقية وعرفوا مواقع تدبر شئون الأمّة, لكن علمهم ودرايتهم يتبددان أمام فساد يغري به المال وانكفاء الرؤية حتى لا تكاد تغادر لحظتها, فأين منها المستقبل?? وقد كان المشهد الأخير في القصة رمزيًا, ذلك أن تأخر الطيار يثير حنق الرجل صاحب النفوذ, فيجعل واحدًا من منقبي الآثار يقود طائرة الراكوتا على أساس أنه قادها في الحرب العالمية الثانية, ومن ذكرياته قدّر له أن يرتفع بها في الجو, وكان الراوي - الزائر بداخلها يحكي لنا ما جرى. إن النهاية تصلح لفيلم ضاحك, ولكن دلالاتها تتحوّل من الرمز إلى الأفق الواسع! إن قائد الطائرة الهاوي غفل عن النظر إلى الطريق على الأرض والذي يشكّل له دليلاً عوضًا عن الخريطة غير الموجودة, وهكذا غدت الطائرة هائمة في الجو, ويتعالى نداء المتسبب بالكارثة (اسمعوني... لقد تهنا, هذا الحمار ترك المسار, وهو يقود الطائرة. قلت له ألف مرّة لا تترك المسفلت, دخل بين الجبال بين الجبال, ليس لدينا بنزين كاف).

لابد من الإشارة إلى أن هذه القصة (بيبسي) مع قصتي (قانا) و(ابني ليس ابني) هي التي صرّح الكاتب بالأماكن والمواقع, وهذا يدل على رغبة في تجاوز ما يتركنا في اضطراب الخطو والمسار.

إن قصة (ابني ليس ابني) تحمل دلالات إنسانية وعربية وفنية, ونبدأ بهذه الأخيرة, ذلك أن الكتابة عن الأحداث الراهنة قد لا تسعف في الوصول إلى العمق, وبلوغ الزوايا المضيئة, وعندما يمتد الزمن تتلمس كلمات الكاتب مواضع كانت تغطيها انفعالات قريبة وهي مشروعة إنسانيًا في مواجهة الألم والركام والصخب, إننا نجد لدى محمد الشارخ في هذه القصة بصيرة بلغت عمق المأساة في أحداث غزو الكويت, فالكارثة لم تكن مقصورة على أهل الكويت الذين عانوا ويلاتها, وإنما هي تصدّع أصاب العرب تكشفت جوانبه بعد, ولذلك فقد جاء تصوير الطرف الآخر أيام الغزو منطلقًا لفهم الداء والسعي إلى ضفة فيها المستقبل, ونشير إلى رسم شخصية الضابط, والفتى الذي صادف اسمه الثلاثي (حمد حسن فلاح) اسم الفتى الكويتي الذي احتجز في سجن البصرة, ولعلّ هذه الإشارة الرمزية تفتح للمتلقي أبواب الرؤية, وهنا يبدو الفن المتعالي على الألم والباحث عن كوّة الضياء للأمة باتساع تاريخها وآفاق أيّامها القادمة, قام محمد الشارخ في قصة (قانا) بتفكيك الحالة العربية المعاصرة كي نقترب منها, ونعمل على اختيار موقعنا منها, واستخدم تقنيات سردية وطاقات دلالية عدة, واستمد من الدراما الذروة الحدّية وهي صبيحة اليوم الأخير لامتحان البكالوريا - الثانوية العامة - وبطل القصة الفتى نبيل أحمد الملقب بـ (توم كروز) الممثل الوسيم يقف على الصراط فمع نجاحه المتفوق ستنفتح له أبواب السفر والدراسة, وأما بقاؤه فيعني استمرار معايشة البؤس والأسى في (قانا) البلدة الجنوبية اللبنانية التي شهدت تدمير الصهاينة لها وقتل العشرات في غارات لا تنقطع, ويتصاعد الصراع بين الحالتين, وقد اشترك فيه آخرون حول (توم كروز), فهناك البقال والعميد محسن صديق العائلة, وفي العمق تنتظره منحة مؤسسة الحريري للدراسة في كندا, وبالطبع بعض من ذات هذا الفتى يساير على نحو ما ذاك الذي يرمون إليه: استمرار الحياة الطبيعية والتعويض والتهيئة للمستقبل الذي يصنع فيه أسلحة تردّ على عدوان الصهاينة وانتهاكه لحرمة الوطن ومقدساته, وأما الطرف الآخر في الصراع فهو خليل صديقه وعماد ابن عمه اللذان التحقا بالمقاومة - الفعل المباشر أمام الطائرات التي تجرّب قنابلها حينًا بعد حين, وقوات أو مندوبو الأمم المتحدة يتأملون بمناظيرهم من مكاتبهم! وكذلك تشترك معالم المنزل المتبقية في التفاعل, لقد شطرت القنابل البناء شطرين, فهو يعيش مع جدته في بقايا الشقة المدمّرة بعد أن حصدت الغارة أمه وأخته نجلاء وأباه, إنها الغارة الشهيرة حيث دمّرت كنيسة الأمم المتحدة وقتل كل مَن التجأ إليها, لقد تجاوز عددهم يومها واحدًا وعشرين ومائة شهيد وشهيدة.

لم تبق إلا دقائق ومسافة قصيرة يصل عندها نبيل - توم كروز, إلى الجانب الآخر من الحياة الطبيعية, ويغادر هذا المكان المحفوف بالموت والحزن, إنه امتحان الكيمياء خاتمة المطاف, ولكن اللحظة التراجيدية في القصة تحلّ مع شخصية رمزية, فقد ظهرت المرأة المجنونة قرب البقالية, وبالرغم من محاولات البقّال إبعاد نبيل, يحدث اشتباك بعد صرخاتها (توم كروز...لا تهرب...لا تهرب) يندفع الفتى وينهال عليها بالعصى حتى تسيل الدماء, ويغادر صوب المدرسة, كانت هذه الشخصية هي المعادل لما يختلط في أعماق الفتى من صراع, كان ينساق مع رغبة الخروج إلى العالم والحياة الأليفة التي زرعت علامات لها في البلدة (ماكدونالدز وشطائرها وكوكاكولا ورقصة ماكارينا...) وربّما عدّ هذا النزوع هربًا, وعبّرت ضرباته القاسية عن مدى التوتر في نفسه وعقله الباطن.

ثم نجد الفتى في دوّامة من خطوط تيار الوعي تنبثق ويجد نفسه في مركزها تتوالى صور أمه وأبيه والأخت العزيزة نجلاء ما بين الحلم والواقع, فيندفع بالرغم من المطر ليغوص في مياه النهر باحثًا عن صورهم ليصحو على قبضة الشرطة تقتاده من الحديقة وبعيدًا عن الامتحان الذي فات وقته, وفي السجن تمتزج مشاهد العنكبوت والذبابة والمطرقة, ويحضر العميد محسن الذي يقول له دائمًا (أنا مثل أبوك), ويتكفّل به وجدته ماديًا, وهنا تنزاح هواجس الماضي ورغباته والإحساس بالإثم والنزوع إلى التعويض في كلمات العميد محسن, فلا يستطيع المتلقي الفصل بين الواقعي والحلم أو الحوار الداخلي.

يأتي الانفجار عندما يندفع الفتى (نبيل - توم كروز) الذي ردّد طويلاً عبارة (أنا لا أريد أن أموت) وهو يشاهد الدمار, ويتذكر ما حل بأهله وأهل البلدة, يندفع بالمطرقة - ونلحظ أن كاتب القصة تركها في غرفة السجن!!- في ضربات متوالية كمشاهد الحلبة وفوقها محمد علي كلاي, ويسقط العميد محسن غارقًا بدمائه, ثم يخرج الفتى من مركز الشرطة في طريق يعرفه...(أخذ يجري عبر طرقات حديقة الأندلس والحفر التي خلّفها القصف منذ سنوات يعبر شارع الحرية وإلى وادي المقاومة, وزوجة الزرقطوني تمسك ذراعه وتعطيه مثل زوجها حبّة (ابلعها لو اعتقلوك...احرمهم متعة تعذيبك).

لقد حشد الشارخ في القصة دوال إشارية رمزية تعبّر عن التناقض بين الحالتين اللتين كان بينهما البطل, فجاءت الأسماء (حديقة الأندلس, شارع الحرية, شارع الشهداء, في مقابل (ماكدونالدز وكوكاكولا ومكارينا), وتبدو الدلالة الرمزية المركبة في اسم الفتى, فهو نبيل أحمد, ويُشتهر بـ(توم كروز) فهل يستمر هذا التداخل?

وجاءت لغة السرد مثيرة للتأمل في كل منعطفات القصة والأحداث إضافة إلى امتلاكها القدرة على كشف الانفعالات الإنسانية الحميمة, نتابع توارد صورة نجلاء في المخيلة أو الحلم ونلحظ المفاجأة في بروز (الكلاشينكوف), ومن ثم اقترانه بـ(الأعراس).

(رأسه على الجذع القديم المتشقّق ووجه نجلاء من بين الأوراق الصفراء, الحمراء, الخضراء يبتسم, وهو يفتح فمه يتصيّد قطرات المطر البارد تنعش الفم واللسان والحنجرة, وهي تسيل في الأمعاء والمعدة وحتى الأخمصين تنعش القلب, والأوراق التي تتساقط متراقصة مع عيني نجلاء التي تحيطه كالكون من صوب يمينًا وشمالاً, ومن فوق ومن تحت, والمطر الرذاذ يزداد انهمارًا على وجهها الماكر الحبيب, والدم الغائر في عروقه كأوراق الشجر وكـ(قلبه يلهث بدقات متلاحقة كزخّات الكلاشينكوف وزغاريد الأعراس).

يواجه المتلقي بعد قراءة القصة (قانا) في مواضع كثيرة وحالات عدة تتخفّى أو تظهر فيها ملامح الصراع وحديّة الاختيار, إن هذا التفكيك الذي قام به محمد الشارخ يسهم مع إشاراته الرمزية في طرح الأسئلة التي تتعثّر أو تلتقي بمحاور المجموعة العشرية القصص المال والمثقف...والوطن الذي إن غابت بعض ملامحه المشتركة فإن الجغرافية هي التي تستوقف الجميع!!!

تبقى في حديثنا كلمتان, واحدة حول المال وعالمه الذي خبره الكاتب في حياته العملية, وفي تجواله عبر القارات وملتقياتها. إننا - بلاشك - لا نقف لنطلب التجربة الواقعية كما يكتب القاصّ أو الشاعر أو مؤلف الدراما, ولكننا في الوقت نفسه نجد أثر حضور عين بسرعة في عمق جوانب من الدنيا كما عرفنا المدينة والحارة مع نجيب محفوظ, والبادية والطب في أعمال عبدالسلام العجيلي. وهكذا نشير إلى تميّز حديث المال وأصحابه في قصص الشارخ سواء في الإطار النفسي أو المنعكس الاجتماعي (الحفلة - ديرة بطيخ - زياد غالب وابنه تيمور - مزاح قاتل).

والكلمة الأخرى هي جولة لابدّ للكاتب من أن يقوم بها بين بعض السطور كيما يستقيم نقاؤه وهو اختار العربية الفصحى أداة تعبيرية, وجاءت طيّعة قريبة من الإيقاع المعاصر مع قلم قصصي كان ينبغي أن يطلّ على الساحة الأدبية منذ زمن, وعسى أن تتحوّل أمنية الماضي حافزًا للمزيد من النتاج الجديد.

من أنت كيف طلعت في دنياي ما أبصرت فيا
في مقلتيك أرى الحياة تفيض ينبوعا سخيا
وأرى الوجود تلفتا سمحا وإيماء شهيا
ألممت أحلام الصبا وخلعت أكرمها عليا


(عمر أبو ريشة)

 

فايز الداية