ابن عربي... يصوم رمضان
ابن عربي... يصوم رمضان
شيخنا الأكبر ابن عربي هو قمة المتصوّفة المسلمين, شغل ثلاثة ألقاب من العصر الوسيط تجيء مرسلة, ولا نجد صعوبة في ردّها إلى أصحابها, ومعرفة مَن يراد بها: المعلم الأول, والشيخ الرئيس, والشيخ الأكبر. الأول يراد به (أرسطو) رأس الفلسفة اليونانية, والثاني ينصرف إلى (ابن سينا) رائد الفلسفة الإسلامية, والثالث يعني (ابن عربي) قمة المتصوّفة المسلمين. فيما يقول ابن عربي عن نفسه إنه وُلد في مرسية عام 650 هـ = 1164م, في بيت حسب وتقى, وكانت أسرته ميسورة الحال, وجرت بين أسلافه أحداث ومواقف سريعة ومتقلبة, انتهت بهم إلى حياة التقشف والزهد والانطواء, بعد حياة دنيوية عريضة ومرسلة, وأحد أخواله يحيى بن يوجان ملك تلمسان استجاب لواعظ مرابطي خشن التقى به يوماً يمتطي صهوة جواده, يتجوّل في ضواحي المدينة صحبة رجال بلاطه, فترجّل من على جواده, ونزع ملابسه الملكية, وبدأ يبكي, ثم ذهب بعد ذلك يخدم الله برفقة هذا الصوفي. وفي الرباط, كان يعيش على جمع الحطب من الغابات, ويذهب به ليبيعه في تلمسان, فيجد من الناس التقدير والاحترام, ويلتمسون منه البركة والدعاء. شيء شبيه بهذا, دفع ابن عربي صاحبنا, إلى أن يغير أفكاره, ومجرى حياته, وظل حتى في شيخوخته يذكر, والأسى يملأ قلبه, والندم يغشى جوانحه, تلك الأيام البهجة من شبابه, مرت دون أن يذكر فيها اسم الله, وإنما قضاها في الصيد والقنص عبر وديان (قرمونة), و (بالمة دل ريو), قريباً من (إشبيلية), على خيل والده, رفقة (بوازيه). وقد أمضى الأعوام الثمانية الأولى من طفولته في (مرسية), ثم انتقل والده إلى (إشبيلية), وفيها عاش فترة صباه وشبابه, ومثل بقية الشباب على أيامه درس علوم الدين, والتاريخ, وحرص أحد أعمامه على أن يدرس له الشعر. وعندما بلغ أشدّه عُيّن كاتباً في حكومة (إشبيلية). متصوّفون ومتصوّفات ويذكر ابن عربي بكثرة, في كتبه التي وصلتنا ونعرفها, أنه قرأ مؤلفات ابن حزم عالم الأندلس وفقيهها الكبير, ودرس أفكاره, ومع ذلك كان اهتمامه الرئيسي في ذلك الوقت أن يتردد على الزهاد والمرابطين. ومن الذكريات التي كانت تقع في خاطره دائماً, ويردّدها في حنان ودود حياة (نونّة فاطمة) الإشبيلية وعاداتها الصوفية, وكانت امرأة تقيّة صالحة, والهة في حب الله, وارتبط معها بأواصر الأخوّة, ولزمها سنين خادماً ومريداً, وشيّد لها بيده خُصّاً من الأعواد اعتكفت فيه زاهدة ومسكينة, وكانت العلاقة بينهما مثلاً عالياً للشرف والحب الصوفي, يذهب لزيارتها صحبة والدته, فتؤخذ هذه بما عليه نونّة فاطمة من صحة وعافية, تورّد وجنتين, ونضارة بشرة, تبدو وكأنها في الرابعة عشرة من عمرها, رغم أنها تجاوزت الخامسة والتسعين, عبَرتْها صحيحة وأمضتها واعية, لم يصبها وهن ولا رهق في أي من حواسّها أو ذكائها. وشهد بنفسه ما كان يجري على يدها من ظواهر محيّرة لم يستوعبها في يسر, ولكنه لم يستطع إنكارها. كانت (إشبيلية) في ذلك الوقت عامرة بكبار المتصوّفة, احتفظ ابن عربي في ذاكرته بكثيرين, منهم: صوفية تدعى (مرجانة), وكان يناديها: (شمس خادمات الله وأم الفقراء), وأخرى تدعى (زهرة), وبجمهرة لا تحصى من الزاهدات والصوفيات والعابدات, وكان لهن أبلغ الأثر في حياته, وفي مقدمتهن زوجه, مريم بنت محمد بن عبدون الباجي, وكان لها - مع أمه - أبلغ الأثر في حياته, وتغيير سلوكه, بما يلقين عليه من مواعظ, ويقدمن من مثل وقدوة, إذ كانتا نموذجا في الورع والتقوى. في البدء لم يستجب لأي منهما بسهولة, إلى أن أصابه مرض ألزمه الفراش فترة, تراءت له أثناءها منامات تمثل فيها عذاب جهنم, وتوفي والده في أعقاب ذلك, وكان الأب قد تنبّأ بحلول يوم وفاته قبل حدوثه بخمسة عشر يوما. وقد تجمّعت هذه العوامل كلها ودفعت به إلى الزهد والتصوّف, وانصرف إلى دراسة كتبه, وتشوّق ابن رشد إلى معرفته, ولكن روحي الرجلين العظيمين لم تتآلفا, فمضيا كل في طريق. محاسبة النفس ومن مكة عاد إلى التجوال مرة أخرى, فزار الموصل, وبعدها بسنتين كان في القاهرة, استقر في حارة القناديل, واصطدمت أفكاره مع الفقهاء, فرموه بأشنع التهم, ولم يصبه أذى لأن السلطان العادل الأيوبي كان متسامحاً فبسط عليه حمايته. وبعدها مضى إلى بلاد الروم, ونزل قونية, وحل من ملكها (كيفاوس) الأول مكاناً عليّاً, وأمر له بدار تليق به, فلمّا نزلها مرّ به سائل, وقال له: شيء لله, فردّ عليه ابن عربي: ما عندي غير هذه الدار, خذها لك, فتسلّمها السائل, وصارت له. وساح في نواحي الأناضول و (أرمينية), داعياً المسلمين فيها وأمراءها إلى المشاركة في صد الغزو الصليبي, ثم عاد إلى بغداد حيث لقي شهاب الدين السهروردي قطب الصوفية على أيامه, ومن جديد قصد مكة ثانية, ومنها إلى (قونية), ومن هذه إلى (حلب), حيث أعجب به سلطانها, ومع كثرة الأسفار, وتقدم السن, اعتلت صحته, فبحث عن مكان معتدل الجو يلائمها, فكانت (دمشق), فآثرها على غيرها لأن السلطان المعظم بن العادل من مريديه, وفيها لقي الله عام 638 هـ = 1240م عن سبعة وسبعين عاماً, ودفن بسفح جبل قاسيون بالتربة الصالحية, وبعد قرن بنى السلطان سليم العثماني قبة كبيرة على قبره, وأنشأ بجواره مدرسة رتّب لها الأوقاف, ظلت قائمة حتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي. كان ابن عربي في حركته الدائبة يحمل حياة سارحة, يبدو معرضا عن ضجيج الدنيا, ويتخفّى وراء مسكنته واعتكافه, ورغم ذلك لم يكن مغموراً ولا مجهولاً في أي مكان ذهب إليه, وتعوّد أن يقول عن نفسه إنه مجنون, ورغم ذلك يربي مريديه, ويحاضر إخوانه, ويروّض تلاميذه, وكان هؤلاء الفقراء الناسكون يمثلون حينئذ قوة هائلة في العالم الإسلامي, يثيرون الجماهير ويدفعون الملوك لمقاومة الصليبيين ويتظاهرون عبر الشوارع في مواكبهم الدينية, وشارك ابن عربي إيجابياً في هذه الرسالة, فهو يدعو لقتال الصليبيين الذين هاجموا البلاد الإسلامية, ويدعو المسلمين الذين يقيمون في البلاد النصرانية في آسيا الصغرى أن يتمسكوا بدينهم, ومع ذلك لم يكن يرفض الحوار مع المسيحيين لأن هذا مما تقتضيه مثالية الفضائل الإسلامية, وسمو العقيدة الإسلامية وصفاتها, وهي أكثر إقناعاً من الأديان الأخرى لأنها تؤمن بكل صالح وصادق في الإنجيل والتوراة. كتب ابن عربي نحواً من أربعمائة كتاب ورسالة قصد بها تربية المرابطين والعاكفين, وإثارة الحمية في نفوسهم حتى يصبح اسم الله موضع الإجلال في الأرض, وليعملوا على بناء البشر وتهذيب أخلاقهم, ويرتفعوا بفهمهم حتى يدركوا الحقائق الإلهية. وتناول فيها كل شيء من فقه وفلسفة وفلك ورياضيات, وزهد وتصوّف وعقيدة, والتقت فيها المذاهب المتشعّبة التي سمع بها أثناء سياحاته الطويلة, أو انتهى إليها نتيجة عيشه في بلاد مختلفة الأجواء والعادات, وبين أقوام تتفاوت عقائدهم تفاوتاً شديداً, عاش في مراكش حيث درجة الحرارة عالية صيفاً, وفي أرمينية حيث تهبط شتاء, لأيام طويلة, إلى ما دون الصفر. فكر وعصر كتاب يحتوي كتباً ومع أن الكتاب ليس سهلاً, ولا يتيسر لغير المختصين الوصول إلى أعماقه وحقائقه, لأن منهج الكتاب يختلف عن المناهج المعتادة, خطة وعرضاً وسياقاً, وجاءت عناوينه رمزية لا تكشف عن محتواها الحقيقي, ما كاد الشيخ ينتهي من تحريره حتى أقبل عليه التلاميذ والأتباع, يقرأونه ويتدارسونه, رغم صعوبته وتعلق به المريدون والمحبون, وتناقله الخلف عن السلف, في سلسلة متصلة من الرواة والناقلين, وعُدت نسخه ذخائر يحرص القادرون على اقتنائها, ولا تخلو خزانة علمية مهمة, تعنى بالتراث الديني والصوفي, في الشرق والغرب, من عدة مخطوطات منه. رؤية خاصة للصوم وقد خص ابن عربي الصوم, وهو ما يعنينا هنا, بالجزء الخامس والأربعين, من الباب التاسع والستين, من فتوحاته كله, إلى أمكنة متفرقة في بقية الأجزاء, أتى فيها على أحكامه وتوابعه ولواحقه وأنواعه, وواجبه ومندوبه. بيد أن ابن عربي على عادة القدماء بتعريف الصوم لغة, وإذا كان الفقهاء يكتفون بأن معناه (الإمساك), فابن عربي لا يقنع بهذا, وإنما يضيف إلى ذلك معنى لغوياً آخر, يراه مراعى في هذه الشريعة, عند إطلاق الكلمة عليها اصطلاحا, وهو الرفعة, يقول العرب: صام النهار إذا ارتفع, ومنه قول امرئ القيس الشاعر: إذا صام النهار وهجّرا, أي ارتفع. أُطلقت كلمة الصوم إذن على هذه الفريضة لأنها مرتفعة عن سائر العبادات في الدرجة, وتأكدت هذه الرفعة بأن الله سبحانه وتعالى نفى المثلية عنه, وسلبه عن عباده, مع تعبدهم به, وأضافه إليه, وجعل جزاء من اتصف به إثابته بيده. خرّج النسائي عن أبي أمامة قال: أتيت رسول الله, فقلت مرني بأمر آخذه عنك, فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثيل له. فنفى أن تماثله عبادة أخرى من العبادات التي شرع الله. وفي الحديث أيضا: كل عمل ابن آدم له, إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به . ورمضان اسم من اسماء الله تعالى, وفرض فيه الصيام تكريماً له, ووجب القيام فيه تكرمة لهذا الاسم, لقوله تعالى: ( يوم يقوم الناس لرب العالمين . وفي الصوم يتنزه الإنسان عن الطعام والشراب والنكاح والغيبة, وهذه كلها نعوت ربانية, يتصف بها الإنسان حال صومه, وترتفع بها مرتبته, فإذا أفطر عاد إلى طبيعته البشرية يأكل ويشرب ويتغذى, فإذا جاء الليل قام العبد بين يدي ربه, امتداداً لصفاته التي كان عليها في نهاره, وفرض عليه القيام, وقت الفطر, ليعلم أنه عبد فقير متغذ, وأن التنزه الذي كان عليه في صيامه ليس له حقيقة وإنما هو أمر عرض له, يشعره بأنه في حال صومه منزه عن حكم الطبيعة العادية, ولهذا أخبرنا الله تعالى في الحديث عنه: أن الصوم له وكل عمل ابن آدم لابن آدم, فقيام رمضان قيام لله, وهو بالليل يقوم مقام الصيام بالنهار, ولكي يجيء القيام كاملاً يتطلب الأمر أن يختلط بذكر الله, والطمأنينة في الركوع والسجود, وترتيل القرآن, لأن الرسول عليه السلام قال لرجل صلى عَجِلا: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ. فمن عزم على قيام رمضان, وقيامه سنة, مرغّب فيها, فليقم ـ كما شرع الشارع ـ الصلاة مطمئنا, خاشعاً, متدبراً ما يتلو, وإلا كان تركه أولى. والقيام فيه أول الليل, وقيامه في المسجد أولى منه في البيت, والصلاة فيه مثنى مثنى. كمال الصوم روى مسلم في صحيحه, قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة باباً يقال له الريان, يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل معهم أحد غيرهم. يقال: أين الصائمون, فيدخلون فمنه, فإذا دخل آخرهم أُغلق فلا يدخل منه أحد, ولم يُقل ذلك في شيء ومن منهيّ العبادات ولا مأمورها إلا في الصوم, فبين الرسول باسم (الريان) أن الصائمين حازوا صفة الكمال في العمل, فقد اتصفوا بما لا مثل له في العبادات. ويرى ابن عربي أن في اختيار الشهر العربي حكمة ألاّ يثبت رمضان في زمن واحد, وإنما يتنقل بين فصول العام كلها, فيصيبها شيء من فضله, ويؤكد الصائم استجابته طائعاً تحت كل الظروف والأجواء, ويرى من جانب آخر, أنه لا حاجة بنا إلى اتخاذ شهور الأعاجم فيما تعبّدنا الله به. ويدرك واعيا ما يتطلبه إثبات ظهور الهلال من عناء على امتداد العالم الإسلامي كله, وعاش ابن عربي في شتى أقطاره, فيرى أن يصوم أهل كل بلد برؤية الهلال في بلدهم, فإذا غُمّ عليهم رجعوا إلى الحساب الفلكي, ومتابعة حركة سير الشمس والقمر. ويرى ابن عربي أن الصوم مستويان: تأملات في السحور والسحور, زمان أكلة السحور, مشتق من السّحَر, وهو اختلاط الضوء والظلمة, فله وجه إلى النهار وآخر إلى الليل, ويعرج من هذا إلى تعريف الشبهة في الأمور العقلية, بأن لها وجها إلى الحق, ووجها إلى الباطل, وكذلك المتشابه في الشريعة والعادات, له وجه إلى الحل, ووجه إلى الحرمة, وما بين الوجهين اللذين يظهران في الشبهة هو العلم الصحيح الذي يظهر به أنها شبهة, فيتميز بعلمك بالشبهة الحق من الباطل, والحلال من الحرام. وقد أمر الرسول بأكلة السحور, وقال إنها بركة أعطاكم الله إياها, فأكد أمره بها نهيه بألاّ ندعها, وكما صرح بالأمر صرح بالنهي عن الترك, فأكد في وجوبها, فأشبهت صلاة الوتر, فإنها صلاة مأمور بها على طريق القربة المأمور بها, فهي سنة مؤكدة, وعند بعض علماء الشريعة واجبة, وأكلة السحور أشد في التأكيد من صلاة الوتر في جنس الصلاة. وقد اختص بها المسلمون من بين أهل الكتاب, فهي ليست عندهم, أو كانت عندهم وضيّعوها. وقد حافظ النبي على أكلة السحور, وعلى تأخيرها, ودعا إليها, فقال: هلموا إلى النداء المبارك فسنّها قولاً وفعلاً. قيام رمضان وينهي المسلم صومه بفرحتين, فرحة عند فطره, وفرحة عند لقاء ربه, ويفسر ابن عربي لقاء ربه التي وردت في الحديث بأنها صلاة العيد, ففيها يناجي المسلم ربه, وهي سنة مؤكدة, بلا أذان ولا إقامة, وحُرّم عليه الصوم في ذلك اليوم لأنه يوم زينة وشغل بأحوال النفس من أكل وشراب وتزاور, ومعه يعود الصائم إلى طبيعته الأولى بشرا كاملا, فإذا حنّ إلى صفاته الأولى صائماً, فلا بأس عليه أن يسترجع تلك اللحظات الملائكية بصوم ما يستطيع نافلة, ليظل دائماً على صلة قوية بالله.
|