مثقفو إفريقيا في مواجهة الشتات الأشياء تتداعى

مثقفو إفريقيا في مواجهة الشتات الأشياء تتداعى

إفريقيا في حاجة إلى كتابات تخلص عقلها من وطأة الاستعمار الغربي لعلها تكتشف شخصيتها التي استلبت منها طويلا.

رغم العلاقات التاريخية الطويلة بين إفريقيا السوداء والعالم العربي وبخاصة بعد دخول الإسلام وانتشاره في أنحاء كثيرة من تلك القارة, ورغم الجهود الكثيرة التي تبذل في العقود الأخيرة لتقوية الروابط السياسية والاقتصادية بين الجانبين, فلا تزال معرفة العالم العربي بالفكر الإفريقي والإبداع الأدبي والفني الذي ينتجه المبدعون الأفارقة ضئيلة إلى حد يثير الأسى, كما أن معظم معلوماتنا عن شعوب القارة ونظمها الاجتماعية وأنساق القيم وأنماط التفكير السائدة فيها مستمدة من الكتابات الغربية رغم وجود أعداد كبيرة من المثقفين والمفكرين والعلماء الأفارقة الذين توفروا على دراسة هذه الموضوعات وأخرجوا لنا كتابات ودراسات عميقة صادرة من المعرفة المباشرة والفهم الأصيل للمباديء التي تقوم عليها الحياة في المجتمعات التي ينتمون إليها. وقد حقق بعض هؤلاء المفكرين شهرة عالمية فائقة من أمثال علي المزروعي في الفكر السياسي, كما أن عددا آخر أمكنه الحصول ومنذ سنوات على جائزة نوبل في الآداب مثل الروائي النيجيري (وول سونيكا) مما يشير إلى شدة حاجتنا إلى ترجمة تلك الأعمال الصادرة عن أقلام وعقول إفريقية إلى اللغة العربية حتى يمكننا أن نعرف الثقافة الإفريقية من واقع التجربة الخاصة الزاخرة بالمعاناة التي رزحت تحتها الشعوب الإفريقية, وبذلك يمكن تصحيح كثير من المعلومات الخاطئة والأحكام الظالمة التي تمتليء بها بعض الكتابات الغربية والتي تسربت إلى الكثيرين من المثقفين العرب الذين لم تتح لهم فرصة الاطلاع على النتاج الفكري الإفريقي الأصيل.

بحثا عن التراث الإفريقي
وقد حاول بعض المثقفين الأفارقة والزنوج الأمريكيين الذين يفخرون بأصولهم الإفريقية بعث التراث الإفريقي باعتباره جزءا من التراث الإنساني العريق. وكانت هناك مشروعات ضخمة تهدف إلى التعريف بذلك التراث وربما كان أكثر هذه المشروعات طموحا مشروع العالم المؤرخ الأمريكي الزنجي ـ أو الافرو امريكي ـ جي دبليو بي ديبوا الذي شغل نفسه منذ عام 1909 وحتى وفاته عام 1963, وهو يحلم بإصدار موسوعة إفريقية تضاهي الموسوعة البريطانية الشهيرة في استيعابها وإحاطتها, وبحيث تضم معلومات دقيقة وتفصيلية عن مختلف جوانب الحياة في إفريقيا بتاريخها وجغرافيتها وسكانها وثقافاتها وعلاقاتها بالعالم الخارجي وإسهاماتها في شتى فروع المعرفة منذ ظهور الإنسان المبكر بها, وبحيث تصدر هذه الكتابات عن أقلام مفكرين وعلماء وأدباء ومبدعين أفارقة أو ينحدرون من أصول إفريقية مع الاستعانة ـ إذا لزم الأمرـ بعدد محدود للغاية من المفكرين الأجانب (الموضوعيين), وعلى أن تهتم هذه الموسوعة الإفريقية اهتماما خاصا بالاستعمار الغربي لإفريقيا وبالشتات الإفريقي في صوره المتعددة, فالشتات الإفريقي نشأ أصلا من سياسة الغرب الجائرة إزاء إفريقيا, ويستوي في ذلك تجارة الرقيق ونقل مئات الآلاف من أبناء القارة السود إلى أمريكا كعبيد, أو جهود المبشرين الغربيين لتغيير عقلية الإنسان الإفريقي, وتفكيره من خلال تعاليم (المسيحية البيضاء) والقضاء على الأديان والمعتقدات التقليدية, ومحاولات الحكام المستعمرين تغيير اللغات الوطنية في المدارس ثم الجامعات (الوطنية) أو الهجرة الجسدية والذهنية التي فرضت فرضا على مئات من المتعلمين الأفارقة الذين تلقوا تعليمهم العالي في الغرب وعاشوا في المجتمعات الغربية لفترات طويلة خضعوا أثناءها لعمليات (غسيل المخ) الثقافية والسياسية فاعتنقوا الأفكار الغربية بما في ذلك نظرة الاستعلاء الغربي إلى إفريقيا وتقاليدها وتراثها الثقافي وارتبطوا بذلك بالغرب ارتباطا وثيقا على حساب الأهل والوطن. ولم يكن ديبورا يغفل في مشروعه النتائج العكسية التي أدت إليها سياسة الاستعمار والقهر والاستغلال وكيف كانت هذه السياسة سببا في قيام الحركات الوطنية المناهضة للغرب والتي اعتنقها عدد من المثقفين في إفريقيا ذاتها وبعض أفارقة الشتات في أوربا وأمريكا ومنطقة الكاريبي والذين يحاولون إقامة الجسور بين اوطانهم الجديدة والوطن الأم ويعملون على الكشف عما فعله الاستعمار بإفريقيا بعد أن فرض تجار الرقيق الذل والعبودية على أبنائها.

وقصة كفاح ديبورا من أجل إصدار تلك الموسوعة التي لم تر النور على أي حال, والعقبات التي قامت للحئول دون تنفيذه لهذا المشروع ملحمة رائعة وكاشفة, وقد سجلها الكاتب الأفرو أمريكي (كوامي انتون آبيا) في مقدمة كتبها لموسوعة أكثر تواضعا بكثير من مشروع ديبورا, وقد صدرت هذه الموسوعة عام 1999 تحت عنوان (أمريكانا موسوعة التجربة الإفريقية والأفروأمريكية). ويبين آبيا في هذه المقدمة كيف تضافرت الجهود لإفشال مشروع ديبورا وكيف تعاون تآمر البيض مع غيرة بعض العلماء السود مع صعوبة الحصول على التمويل اللازم في فشل المشروع الذي كان يهدف إلى توحيد عالم الشتات الإفريقي ـ ولو على المستوى الرمزي ـ وإلى ابراز دور الغرب في اغتيال العقل الإفريقي والثقافة الإفريقية.

وإذا كان مشروع (ديبورا) توقف بموت صاحبه فإن موسوعة (الأفريكانا) الجديدة مع كثير من الكتابات الأخرى التي ظهرت في السنوات الأخيرة أفلحت في أن تعبر بقوة عن صوت إفريقيا والأفارقة في الوطن وفي الشتات وأن تلقي كثيرا من الأضواء على معاناة الإنسان الإفريقي وتدعو إلى (العودة إلى النظام) والنظام هنا هو الأصول الأولى, وذلك عن طريق التعمق في دراسة حقيقة الأوضاع في إفريقيا من وجهة نظر إفريقية تستند إلى التجربة المباشرة التي مرت بها القارة السوداء والتي يعيشها أفارقة اليوم ولا تقنع برصد الأحداث (من الخارج) أو (عن بعد) على ما يفعل الكتاب بل وبعض المبدعين الغربيين.
وربما كان الروائي النيجيري شينوا آتشبي الذي يعتبره الكثيرون أبا للرواية الإفريقية هو أول من نادى بضرورة بقاء مفكري العالم الثالث في أوطانهم والكتابة عن هذه الأوطان لتعريف العالم الخارجي بها وبثقافاتها, وقد ظهر موقفه واضحا في روايته الشهيرة (الأشياء تتداعى) التي صدرت عام 1958 وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة منها اللغة العربية.

ومن دون الدخول في تفاصيل أحداث الرواية يمكن القول إنها تسجل وضع نيجيريا (وإفريقيا بالتالي) تحت الاستعمار. ومن المفارقات الغريبة أن آتشبي الذي ولد عام 1930 اضطر اضطرارا بسبب المرض إلى أن يعيش خارج إفريقيا على عكس المبدأ الذي ينادي به, فقد أصيب في حادث سيارة عام 1990 تركه قعيدا مشلولا في نصف جسمه الأسفل, وذهب للعلاج في بريطانيا ثم أمريكا. وفي أمريكا وجد من يقنعه بأن يشغل ـ وهو الإنسان المشلول ـ وظيفة أستاذ في إحدى الجامعات وانضم بذلك إلى أفارقة الشتات, وقد ساعد على استمرار بقائه بعيدا عن إفريقيا خضوع نيجيريا للحكم الديكتاتوري في الفترة بين عامي 1993 و 1998 قبل أن يتولى الحكم الرئيس الحالي أوبا سانجو الذي يبشر بإعادة الديمقراطية إلى نيجيريا.

وتكشف رواية (الأشياء تتداعي) عن الآثار المدمرة التي تركتها (المسيحية الأوربية) منذ أواخر القرن التاسع عشر على الثقافة الإفريقية ممثلة في ثقافة قبائل الايجبوا النيجيرية التي ينتمي إليها آتشبي, وصحيح أنه سبق ظهور (الأشياء تتداعى) أعمال روائية أخرى لبعض الروائيين الأفارقة المشهورين الذين يكتبون بالإنجليزية من أمثال بيتر آبرهامز أو بالفرنسية مثل كاميرا لاييه, ولكن (الأشياء تتداعى) كانت بمنزلةفتح جديد في الأدب الإفريقي بحيث باعت أكثر من عشرة ملايين نسخة على مستوى العالم واعتبرت بذلك من أهم الأعمال التي ظهرت في القرن العشرين على ما تقول جريدة الجارديان في عددها الصادر بتاريخ 18 نوفمبر 2000, خاصة أنها كتبت من (باطن أعماق) الشخصيات الإفريقية بدلا من عرض هذه الشخصيات كشيء غريب يقع خارج الكاتب نفسه على نحو ما يحدث في كتابات الروائيين الغربيين الذين تناولوا الإنسان الإفريقي في رواياتهم من أمثال رايدر هاجارد وجون بوكانان, وأسوأ منهم جميعا, جوزيف كونراد, ولذا يعتبر آتشبي من أهم الكتاب الذين أسهموا في تخليص العقل الإفريقي من وطأة الاستعمار الغربي ولم تكن كتاباته مع ذلك معادية تماما للغرب بل كانت تنظر إلى الأمور نظرة مختلفة ومستقلة وواضحة وصريحة, وليس أدل على نظرته المستقلة إلى نفسه وإلى الثقافة الإفريقية بشكل عام من موقفه من اسمه هو نفسه. فقد تم تعميده في المسيحية ـ التي كان أبوه قد اعتنقها بتأثير الإرساليات التبشيرية ـ باسم آلبرت شينوا لوموجو ولكنه اسقط من اسمه كلمة (آلبرت) لأنه اسم يرتبط بالعصر الفيكتوري في بريطانيا, وحين احتاج إلى استخراج جواز سفر خاص به وجد أن (جنسيته) تحددت في الجواز بأنه (تحت الحماية البريطانية) باعتبار نيجيريا محمية بريطانية, وكان يعترض على ذلك ويقول عن هذه (الصفة) إنها (أكذوبة صارخة) لأنه لم يطلب (الحماية) من أحد وكثيرا ما يقول إنه كان يكتشف باستمرار كيف كان يخضع هو وغيره من الأفارقة لعملية بطيئة ـ ولكن متصلة ومؤثرة ـ من غسيل المخ, ويرى أن التعليم (الكولونيالي) الذي تلقاه في المدارس التبشيرية ثم في جامعة إبادن في نيجيريا لم تكن له أي صلة أو أهمية بالنسبة للمجتمع الإفريقي, وقد ساعده ذلك على أن يتخذ ازاء ذلك التعليم وإزاء الثقافة الغربية موقفا نقديا وأن يكتشف في المعتقدات الوثنية التي يؤمن بها معظم الأفارقة أشياء ومباديء وقيما ذات مغزى عميق كثيرا ما يغفله الكتاب الغربيون والمثقفون الإفريقيون الذين خضعوا لأساليب التفكير الغربي واعتنقوا نظرة الغرب إلى الثقافات التقليدية في إفريقيا والعالم الثالث بوجه عام.

الخيال المريض
الفترة التي أمضاها شينوا آتشبي في جامعة إبادن لدراسة الطب والتي تحول عنها لدراسة الأدب, هي التي فتحت عينيه على كثير من الحقائق التي كان التعليم (الكولونيالي) يغفلها تماما وأتاحت له دراسته للأدب أن يتعرف على نوع الخيال المريض أو على أقل تقدير الخيال السقيم الخاطيء الذي يملأ الأعمال والكتابات الأدبية والروائية التي كتبها المؤلفون الإنجليز عن إفريقيا, وكيف أن ذلك الخيال كان في معظم الأحيان بعيدا عن الصدق وعن الأمانة وهو ما حاول تصحيحه في أعماله الروائية دون أن تتحول هذه الأعمال (الخيالية) إلى أن تكون مجرد تسجيل (أنثربولوجي) لوقائع الحياة اليومية. وربما كان أشد ما يثير سخـطه على أعمال رايدر هاجارد وجوزيف كونراد هو ميلها لتصـــوير القبائل الإفريقية في صورة الجماعات المتوحشة التي تهاجم الرجل الأبيض الذي يستطيع بمفرده وبذكائه ودهائه أن يتغلب على تلك الجحافل الهمجية. ويرى أن هذه نظرة تعبر عن نزعة عرقية استعمارية ينبغي على المبدعين والمفكرين الأفارقة نبذها والتصدي لها بقوة, وهو ما تحقق على أي حال في الحركات الوطنية التي أدت إلى استقلال (المستعمرات) البريطانية في إفريقيا في أوائل الستينيات. ولم يكن في ذلك كله غافـلا عن المفارقة الشديدة التي تتمثل في استخدامه للغة الإنجليزية التي يحارب أصحابها, ولذا ينادي ويشجع على العودة إلى الوطن والكتابة باللغات الوطنية.

دراسات الشتات
ترتب على هذه النتيجة أمران على قدر كبير من الأهمية:

الأمر الأول هو اهتمام عدد من الجامعات الأمريكية بما أسمته (دراسات الشتات) ضمن برامجها التعليمية وانشاء مراكز للبحوث في هذا الفرع الجديد من التخصص الذي يعنى إلى جانب دراسة تاريخ إفريقيا وتجارة الرقيق بدراسة الثقافة الإفريقية التقليدية ووضع (الأفارقة الأمريكيين) في المجتمع الأمريكي المعاصر واسهاماتهم في مختلف أوجه النشاط على المستوى الأمريكي والمستوى العالمي.

والأمر الثاني هو اهتمام اليونسكو بما يطلق عليه اسم (مشروع طريق الرقيق) أسوة بمشروعها الكبير (طريق الحرير) وقد بدأ الإعداد لدراسة طريق الرقيق عام 1994 بمبادرة من حكومة بنين في غرب إفريقيا على اعتبار ان تلك كانت بمنزلة المورد الأساسي للعبيد.

وقد بدأ أفارقة الشتات يشعرون بالفخر والاعتزاز بالانتماء إلى إفريقيا, وأصبح (زنوج) أمريكا يعرفون بالأفروأمريكيين وأخذت الأصوات ترتفع بضرورة تعويض إفريقيا عن المظالم والمتاعب والخسائر البشرية التي لحقت بها من جراء تجارة الرقيق وأدت إلى تخلفهـــا وتهميش دورها إلى حد كبير في بناء الحضارة الإنسـانية المعاصرة. ورغم كل العقبات التي توضع أمام الاعتراف بحق إفريقيا في استرداد بعض ما فقدته في شكل تعويضات مادية وتكنولوجية وعملية فإن هناك جهودا كبيرا يسهم فيها المثقفون الأفارقة داخل الوطن وفي أرض الشتات لإصلاح ما تداعى من بناء الوطن وتاريخه وثقافته وتقاليده وقيمه مع الالتزام بقدر الإمكان بالدعوة إلى (العودة إلى النظام).

 

أحمد أبوزيد