إطلالة على ناقد كبير (3-3) مندور... وتحول المعتقدات

 إطلالة على ناقد كبير (3-3) مندور... وتحول المعتقدات

هل كانت طموحات مندور النقدية أكثر من إنجازاته? وهل هذا
هو سبب التحوّلات الكثيرة في أدواته وفي معتقداته أيضاً?

من المؤكد أن محمد مندور (1907-1965) كان يحاول - مخلصاً - الاستجابة إلى التغيرات المهمة التي حدثت في المجتمع المصري بعد قيام ثورة يوليو, وما طرأ على مفهوم الأدب والفن ووظائفهما - نتيجة الثورة - من تغير, إلى الدرجة التي جعلته يتشكك في أصوله النقدية (حتى ليلوح لنا أن ما كنا نتلقاه منذ ربع قرن على كبار أساتذتنا في الجامعات من تعاريف النقد واتجاهاته ومذاهبه قد تخطاه الزمن نتيجة لدفعة الحياة وأحداثها الكبرى). ومن المؤكد - أيضاً - أن محمد مندور تعاطف مع الدعوة الاشتراكية التي دعت إلى ربط الشعر بالواقع الاجتماعي في مصر, وإلى التزام الشاعر برأي محدد في الأحداث الكبرى دون أن ترى له عذراً في الهروب من مسئوليته, ولذلك أكّد مندور - أكثر من ذي قبل - أن على الشاعر أن يبشر بالمصير التقدمي للبشر, ويهدي إليه, ويستخلص سبيل المستقبل (الاشتراكي) من اتجاهات الحاضر التي فرضتها ثورة يوليو.

واستجابة لهذه التغيرات أعاد مندور النظر في (النقد الاعتقادي) الذي قدمه في الأربعينيات بصورة تشي بهوانه, باعتباره نوعاً من أشد أنواع النقد عرضة للتجريح, فاعترف به في أوائل الستينيات منهجاً له أهميته التي لا تُنكر, وبعد أن كان مندور في عام 1949 يرى أن التجرد من الأهواء شرط أساسي في النقد, وأن النقد الاعتقادي (هو النقد الذي تسيطر عليه آراء ومعتقدات سبق أن استقرت عند الناقدين, وذلك لهوى ديني أو وطني أو عنصري, وهذا هو أشد أنواع النقد عرضة للتجريح). عاد في أوائل الستينيات وعدل مقولته القديمة وأعلن أن الناقد لا يمكن أن يكون محايداً إزاء العمل الأدبي, وأن عليه - أي الناقد - أن ينطلق على أساس من مسلماته الفكرية, خاصة إذا كانت مسلمات ذات محتوى تقدمي, ويطرح هذا الحياد المزعوم (وما دمنا نبيح للأديب أن يصدر في أدبه عما يعتنقه من معتقدات, فإننا لا ندري لماذا لا نترك للناقد أيضاً حريته في اعتناق ما يشاء من عقائد). ومعنى ذلك أن النقد لم يعد متميّزاً في ذاته عن المعتقدات السائدة, كما لم يعد منحصراً في التحليل اللغوي لعلاقات القصيدة, بل أصبح يستجيب للفكر السياسي المتقدم ويضع مضمون القصيدة في الاعتبار, ويغلب الاهتمام به من منظور يتأمله باعتباره ثمرة لواقع اجتماعي يفرض على الشاعر استجابة خاصة متميزة الشكل, وبذلك يصبح المعيار الذي ننفذ به القصيدة, أو أي نوع أدبي آخر, هو المضمون الذي يصبه الشاعر على الواقع (أي وجهة نظره إلى هذا الواقع.. من خلال الصورة الفنية التي اختارها). وعلى هذا الأساس, يمكن للناقد أن يوجه الشعراء نحو (الأدب الملتزم) و (الأدب الهادف) و (الأدب القائد), ويحارب مذاهب الهروب والانحلال, كما يمكن للناقد الملتزم - على هذا النحو - أن يهاجم الشكليين الذين يرفضون تجاوز الناقد للعالم الشكلي المغلق للقصيدة والمكتفي بنفسه جماليا إلى أي مقاييس أو مبادئ أونظريات يأتي بها الناقد الملتزم - في زعمهم - من خارج العمل.

المعادل الموضوعي
وعلينا أن نلاحظ أن الإلحاح على المضمون هنا كان يمثل رد فعل للدعوى الشكلية التي تذرّعت بنظرية إليوت عن (المعادل الموضوعي) ورفضت أي محاولة لقياس العمل الأدبي من خارجه, مؤكدة وحدة العمل الأدبي باعتباره بنية استطيقية مستقلة عن كل ما عداها بقوانينها الذاتية الخاصة, التي تتجلى فيما يسمى الشكل. ولقد فهمت هذه الدعوى الشكل على أنه من قبيل استخدام الخبرة لتحقيق غرض معين, أو من قبيل أن يثير الفنان في المتلقى نفسه رغبة طبيعية ويرضيها. وبذلك حوّلت هذه الدعوى الشكل في الشعر إلى ضرب من ضروب السحر (تتأثر به الحواس أولاً ثم ينتقل التأثير إلى الجهاز العصبي فيهدئ ما قد يكون به من اضطرابات, ويساعد اختلاجات النفس المقلقة على الاستقرار, ولذلك كانت مهمة الشعر أن يولد في النفس حالة لاشعورية من الإحساس بالسيطرة على الذات يتبعها شعور بالارتياح للتخلص من النزعات المكبوتة). وكان هذا الفهم للشكل يعني فهم الشعر على أنه نوع من إشباع الرغبات أو تحقيق التوازن السيكولوجي بين الدوافع المتعارضة, وإشباع الرغبات وتحقيق التوازن ينقلنا إلى حالة هروب تتباعد بالشاعر عن مواجهة مشكلات الواقع, وتتخذ موقفاً معادياً من تبنّي الشاعر أي قضية سياسية أو اجتماعية تحت زعم أن القصيدة - والعمل الفني بعامة - حالة حلم من أحلام اليقظة, يحلم فيها القارئ الذي ماتكاد الرغبة تثار في نفسه حتى تشبع, وينسج فيها الشاعر خيوط الحلم, بحيث يثير الرغبة في القارئ ثم يشبعها (حتى تتم عملية الخلق الفني بتجسيم الشكل فيصبح له كيانه الفردي الذي يمكن التعرّف عليه), وبقدر ما كانت هذه الدعوى تجد سنداً قوياً في كتابات رشاد رشدي كانت تجد السند نفسه في كتابات زكي نجيب محمود, التي واءمت بين الوضعية المنطقية وأفكار مدرسة النقد الجديد التي ازدهرت في أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى.

وكان مندور يواجه هذه الدعوى الشكلية التي تنفي عن الفن وظيفته التقدمية التي تدعمت في وعيه خلال الستينيات عن طريق التأكيد على المضمون, وبالتالي التأكيد على أن من واجب الناقد أن يتبين ما يريد الشاعر, أو الأديب بعامة, أن يقوله أو يوحي به للبشر, وأن الناقد لا يمكن أن يكتفي في عمله بالنظر إلى الكيفية التي يقول بها الأديب ما يقول, أو بمجرد التحليل, وإنما عليه - أي الناقد - أن يتجاوز التحليل إلى التقييم الذي يهتم بالمضمون. وإلا أصبح الناقد مشاركاً للأديب في عمله, خاصة إذا كان الأديب يصدر عن اتجاه فاسد. إن على الناقد مسئولية التقييم, وهو لن يستطيع الفرار من هذه المسئولية, مادامت مرتبطة بواجبه الأساسي وهو إبراز ما في العمل (من قيم هابطة أو صاعدة), (وعلى هذا الأساس لسنا نرى حرجاً على النقد والنقاد ولا اعتداء منهم على حرية الأدب والأدباء عندما يوجهون في عصرنا الحاضر - مثلاً - نحو الأدب الملتزم والأدب الهادف والأدب القائد, ويحاربون مثلاً - مذاهب الهروب والانحلال مثل فلول مذهب الفن للفن أو شطط السرياليين.

إن إلحاح مندور على المضمون كان بمنزلة رد فعل للدعوى الشكلية التي واجه تصاعدها النسبي منذ أواخر الخمسينيات إلى أوائل الستينيات, إلا أن رد الفعل يدل نسبياً على الفهم الهادئ فليست القضية - في النهاية - قضية مفاضلة بين شكل ومضمون, كما فهمت في الحوار الذي دار بين مندور وخصومه الشكليين, وإنما هي قضية موقف يتعامل معه الناقد, لا باعتبار هذا الموقف مضموناً مفارقاً لشكل القصيدة, وإنما باعتباره وجهة نظر تصوغها القصيدة جمالياً, وإذا فهمنا المضمون باعتباره وجهة نظر الشاعر في واقعه, فالشكل هو الكيفية التي تصاغ بها وجهة النظر هذه, أي أننا لا نستطيع أن نتأمل موقف الشاعر إلا من خلال صياغة القصيدة مادام لا يوجد خارجها, ومادام لا يمكن أن يكون له أي وجود قبلي سابق عليها, وليس في الأمر تغليب مضمون على شكل, وإنما هو خلاف حول الوظيفة نفسها وإن تقنّع هذا الخلاف بقناع هذين المصطلحين الفضفاضين اللذين يضللان أكثر مما يفيدان, مالم نسلم سلفاً بأن التمييز بينهما محض تجريد نظري لا وجود له في واقع القصيدة نفسها, ولكن رد الفعل المتطرف عند ممثلي نظرية المعادل الموضوعي والمتأثرين بالوضعية المنطقية كان يقود مندور بدوره إلى رد فعل متطرف, يبعده عن الجذر الأصلي للخلاف, ويحصره في أقنعة زائفة للمشكلة, ما كان يعصمه من الاختفاء تحت سطحها الموهم إلا التمثل الدقيق للنظرية التي كان يحاول الاستناد إليها في جدله, ولم تكن تلك النظرية - مع الأسف - واضحة تماماً في الأذهان في حومة النقاش وحدّته.

ونتيجة لذلك, ألحّ مندور على المضمون وأعلى منه على حساب الشكل, وعندما التفت إلى الشكل, جعله من قبيل الزي العارض, وتصوّر بذلك أنه يدافع عن المفهوم الاشتراكي للفن, وكان واهماً, وعندما حاول أن يتعامل مع المضمون في الشعر, لم يستطع أن يفهمه إلا باعتباره صدى الحياة الغامضة على وجدان الشاعر. وكان واهماً أيضاً, ومن ثم, عاد إلى مقولته القديمة في الأربعينيات, تلك المقولة التي تبحث عن كيفية تفاعل شخصية الشاعر مع الحياة, ثم تجلى هذا التفاعل في صياغة لغوية فريدة, يكتشفها النقاد بإدراك أصالة الأفراد أولاً, وتفاعلهم مع الحياة ثانياً, وصدى ذلك كله في صياغة متميّزة ثالثاً, والعبارات نفسها التي أوضح بها مندور هذه الفكرة في (الميزان الجديد) إبان الأربعينيات الأولى - رددها في (النقد والنقاد) سنة 1964. وهي هنا وهناك تكرار لما قاله لانسون من أن علينا أن (نستخلص الأصالة ونوضحها في مظهرها الغريب المستقل الواحد, ثم ندخل المؤلف الأدبي في سلسلة, ونظهر كيف أن الرجل العبقري ممثل لبيئة وممثل لجماعة).

ثلاث مراحل
لقد ظل مندور من بداية نقده للشعر في أوائل الأربعينيات حتى نهاية نقده في منتصف الستينيات ناقداً يتحرك - فهماً ومنهجاً - في إطار النظرية التعبيرية للشعر. ورغم أنه حاول أن يتجاوز نظرية التعبير إلى نظرية الانعكاس ويفيد من مقولات الواقعية الاشتراكية, فإن محاولته لم تنجح نجاحاً كاملاً, بل إنها أضرّت أكثر مما أفادت, ومن هنا ظل ربط مندور بين الشعر والحياة الاجتماعية ربطاً آلياً. كما أنه عالج المضمون الشعري نفسه - على المستوى التطبيقي - معالجة هيّنة, شوّهها الحرص على تلخيص إبداع الشاعر في صفة واحدة توجز موقفه الشعري وتصنّفه فيما يشبه البطاقات اللاصقة, وبهذه المعالجة تحرّك المضمون الشعري للشاعر - أو وجهة نظر الشاعر في الواقع - ما بين محورين غير محددين: خصائص ذاتية لوجدان الشاعر, ومجموعة آرائه في الحياة, وداخل هذين المحورين لا نتحرر كثيراً أو قليلاً من أسر نظرية التعبير وبحثها الدائم عن الحافز وراء التعبير الشعري, وتعقّبه حتى تصل إلى شخصية الشاعر المبدع. ورغم ما قد تلاحظه نظرية التعبير التي يتحرك داخلها مندور من طابع بنائي لفعل التعبير, فإن هذا الطابع لا يلبث أن يذوي تحت وطأة إغراء الكشف عن روح الكاتب أو الشاعر, واكتشافها عبر مسارب وجدانية تتجلى تجليات غامضة, (وفي الحق أن تحديد روح الكاتب وخصائص نفسه وأسلوبه في الحياة إنما هو تحديد لمكانة الكاتب ولقيمة فنه, لأن العبرة بالروح والفلسفة الحيوية التي يصدر عنها الكاتب). وقد تسمى هذه (الروح) في أحيان أخرى (جوهر الشخصية) التي يسعى الناقد إلى اكتشافها من خلال قصائد الشاعر وما يميز صياغتها من خصائص تردنا إلى هذا الجوهر الفريد الذي يشبه العلة الأولى عند الفلاسفة. (والواقع أن كل محاولة للتفسير لابد أن تصل في النهاية إلى جوهر الشخصية الإنسانية الذي لا يمكن تفسيره, والذي به يتفاوت الأدباء والشعراء, بل ويتفاوت الناس قاطبة. ففي داخل كل شخصية بشرية يوجد ذلك الجوهر أو تلك النواة التي يتميز بها العنصر الأصيل في كل فرد, وعلى هذا الاساس يمكن أن نقبل ما يقال في تفسير مزاج هذا الشاعر أو الأديب أو ذاك). هذا فهم للشعر يذكرنا - مرة أخرى - بأستاذ مندور وهو جوستاف لانسون الذي سعى (إلى تحديد أصالة الأفراد, أي الظواهر الفردية التي لا شبيه لها ولا تحديد). ولكن لانسون أكثر موضوعية - ربما - من مندور. أما (جوهر) مندور فشيء غامض مطلق يصعب فهمه, خاصة إذا كنا نعرف أن الشخصية - لو استخدمنا مصطلح نظرية التعبير - أكثر تعقيداً مما يظن لأول وهلة. ولكن هذا التعقيد سرعان ما يختفي عندما يختزل (جوهر الشخصية) في صفة مطلقة يدرج تحتها الشاعر ويصنف في خانتها موقفه الشعري أو مضمونه الوجداني. وبذلك يصبح ولي الدين يكن (شاعر الحرية) لأن النواة التي تتبلور حولها جميع آرائه (أو تنبعث عنها كما ينبعث النبات عن البذرة هي الحرية), وفي (المعاودة) أو (محاسبة النفس) تلتقي كل خيوط الإبداع الشعري عند مطران. أما إبراهيم ناجي فهو (قصيدة غرام) والشابي (روح ثائرة) وصالح جودت - رحمه الله - شاعر (لعوب).

الشعر وطابعه الخاص
ولو تركنا التصنيف الهيّن للشعراء إلى تماسك المنهج النقدي نفسه, وما يفرضه هذا التماسك من مصطلح محدد, واجهتنا مجموعة من المطلقات غير المحـددة, تتــحدث عـن (جـوهر) و (نـواة) و (روح) و فلسفة حيوية) وكلها كلمات غير محددة, لا تنطوي على معنى نقدي محدد, ولا علاقة لها بالدقة أو روح العلم. أو ضبط المصطلح الذي يشير إلى تماسك المنهج. ولقد هاجم مندور في الأربعينيات كل من استخدم علم النفس لتفسير العمل الشعري بدعوى استقلال النقد الأدبي وضرورة تمييزه بطبيعته ومنهجه الخاصين, إلا أن مندور - مع الأسف - عاد تحت وطأة البحث عن الأصالة الفردية للشاعر عن جوهر الشخصية الفريد إلى الاستعانة بعلم النفس ومصطلحاته, وحدّثنا عن الطابع الخاص في شعر عبدالرحمن شكري, الذي يمكن وصف شعره بأنه شعر الاستبطان الذاتي, و (الاستبطان الذاتي منهج فلسفي معروف في علم النفس الكلاسيكي باسم Introspection, أي تأمل العقل في النفس البشرية), كما حدّثنا عن (الصورة النفسية) لولي الدين يكن, وحاول أن يخطط (صورة نفسية) أخرى للبارودي ذلك الشاعر الفارس (الذي عرف بإباء الضيم والاعتزاز بالنفس, بل والكبرياء المشروعة) بينما نخرج من دواوين شوقي مثلاً دون أن نستطيع أي تخطيط لصورته النفسية). وإزاء هذه العبارات يحق لنا أن نتساءل عما جرى لاستقلال المنهج النقدي,وهل يبحث الناقد عن الشعر أم يبحث عن الشاعر? أو نتساءل عن التساهل الواضح في استخدام المصطلح رغم المعارضة التامة لكل هروب من النقد الأدبي إلى الدراسات النفسية, وما يشبهها.

فن الصياغة
وتتبدى نغمة نقدية إصلاحية - إذا جاز هذا التعبير السياسي - توازن ما بين التيارات الشعرية, من تقليدية إلى رومانتيكية إلى واقعية, دون إدراك واضح للجذر الاجتماعي الذي يعلل بقاء التيارات القديمة وعدم اختفائها, بل محاربتها للتيارات الجديدة ولحركة الشعر الحر التي تسمى بلا مبرر مقنع باتجاه الواقعية الاشتراكية. وينتهي مندور من تأمل الاتجاهات الشعرية المعاصرة إلى أن اتجاه الواقعية الاشتراكية لن يقضي على تيار الوجدان الفردي. لأن ذلك التيار الأخير - أو الرومانتيكي - يستند إلى حاجات نفسية لا سبيل إلى تجاهلها أو مقاومتها, بل لا ضرورة لذلك (فالإنسان سيظل دائماً في حاجة إلى التعبير عن ذاته والتنفيس عن آماله وآلامه الخاصة), ولكن ينبغي على ممثلي التيار الجديد ألا يسرفوا في التركيز على المضمون, بل عليهم الاهتمام بالشعر أي بالصياغة والشكل, فالشعر (لا يمكن إلا أن يكون فنّاً جميلاً, وإلا فقد روعته وتأثيره وسقط مضمونه مهما كان سامياً رفيعاً, وجمال الشعر يأتي من أساليب صياغته, فالشعر ليس تقريراً بل تصويراً مبايناً). وعلينا أن نتجاوز عن ذلك الفصل بين الشكل والمضمون ونمر عليه مروراً هيّناً, حتى نتمكن من إدراك غبطة مندور باستمرار التيارين التقليدي والرومانتيكي في الحياة جنباً إلى جنب مع التيار الواقعي الاشتراكي الجديد (الشعر الحر), وكأن التيار التقليدي والرومانتيكي بنقدهما لهذا التيار الجديد (يساعدانه بلا ريب على استكمال وسائله. فالتيار التقليدي يحرص على سلامة الصياغة اللغوية وقوتها والتجويد فيها. والتيار الرومانسي يحرص على الجو الشعري وعلى الموسيقى وعلى ظلال المعاني المرهفة. وكل هذه وسائل يجب أن يحرص عليها التيار الواقعي الاشتراكي الجديد لأنها تزيده قوّة ونفاذاً إلى القلوب, وبالتالي قدرة على تحقيق أهدافه الإنسانية الخيّرة, وهكذا, يعزز هذان التياران التيار الجديد المنتصر).

وتلك أحكام لا علاقة لها بأي شكل من أشكال الواقعية الاشتراكية, ولا تعكس أي تطور في التفكير النقدي عند مندور, بل هي بمنزلة رّدة إلى نزعة إصلاحية تدعو إلى توازن للاتجاهات الشعرية, شبيه بذلك التوازن بين الطبقات الذي دعا إليه مندور في بداية حياته, ولكن بصورة نقدية بالغة التبسيط. فضلاً عن أن التركيز المستمر على الوجدان وما ينم عنه كان يقود مندور إلى التراجع عن الجانب الإيجابي في نقد الأربعينيات, ويقوده - دون أن يعي - إلى البحث عن شخصية الشعراء وتقديم سير شعرية لهم, دون التركيز على الصياغة التي اهتم بها في بداية حياته النقدية.

تناقضات نقدية
وما أبعد الفرق بين الطموح النقدي الذي يطرحه (في الميزان الجديد) والنهاية التي تتجلى في الدراسة التطبيقية لشعر (المازني) أو (ولي الدين يكن) أو (مطران) أو غيرهم. إن الحديث القديم عن الصياغة يختفي تحت وطأة (التوليفة) الجاهزة التي تتحدث عن فلسفة المازني وحياته أو أثر حياته في شعره, مع التسليم الساذج بأن الشعر هو نتاج الشباب الذي (لا يتطلب معرفة عميقة بالحياة ولا تجارب عدة فيها). وهو تسليم يناقض ما يقوله مندور في كتاب آخر من كتبه من أن معالجة الواقع معالجة فنية لا ينهض بها (غير الناضجين من الأدباء الذين اتسعت تجاربهم في الحياة وخبروا أغوارها, وغاصوا خلف معانيها العميقة), أما (ولي الدين يكن) فيدرس الدراسة التقليدية نفسها التي تركز على تقديم معالم حياته وصورته النفسية وأفكاره من خلال شعره, مما يحول الشعر إلى وثيقة تفقد خصائصها الجمالية التي يؤكدها منهج الأربعينيات أو منهج الواقعية الاشتراكية, وأما مطران فيقدم له مندور دراسة موجزة تهتم - هي الأخرى - بحياته وشخصيته, لكي تنفذ منهما إلى مقومات فنه وشعره القصصي ووصفه وتصويره في عرض سريع لا يتناسب مع أدوات مندور النقدية لا مع طموحه الجديد أو حتى القديم. ولا أدري أكان مندور يتحدث عن نفسه أو عن المازني عندما قال (الشباب هو عصر التشاؤم والخصومة مع الحياة, بينما يقل هذا التشاؤم حدة ويزداد المرء تسامحاً كلما طال العمر واتسعت التجارب, وكأن معاشرة الحياة تنتهي إذا طالت بالصلح معها وقبولها على علاتها). أغلب الظن أن محمد مندور كان يتحدث عن نفسه.

لقد هدأت العاصفة النقدية التي تفجّرت في آخر الثلاثينيات ورفضت ما حولها, واشتقت لنفسها طريقاً جديداً, وحاولت أن تتعدّل في معاركها مع الجماليين والاشتراكيين على السواء, فتحوّلت إلى سكينة رياح المغيب الهادئة, التي تساوي بين الاتجاهات الشعرية, وتعتذر عمّا سلف منها في حق علي محمود طه إبان فورة الشباب (الذي يعتز بالمعرفة ويتخذها أساساً للهجوم). ولا يجد مندور ضيراً في مجاملة من لا يستحق أن يدخل في إطار الدرس الأدبي من أرباع الشعراء وأنصافهم, وينظر - في النهاية - إلى الشعر الحرّ نظرة الأب الحاني الذي فقد حماسه القديم, ولكنه لا يريد أن يترك أبناءه دون رعاية, بعد أن كان ينفجر عنفاً وخصومة في الدفاع عن شعر المهجر, إلا أن ذلك الأب الحاني لم يفقد - رغم ذلك - القدرة على الإفادة والتوجيه, وإن كان يتراجع شيئاً فشيئاً في نقده للشعر إلى داخل نظرية التعبير بدل أن يتجاوزها إلى غيرها كما طمح وأعلن طموحه في غير كتاب من كتبه.

 

جابر عصفور