الكرج

الكرج

الكرج*

قصة

احتمال أن يمتد عمره لآجال قادمة, دفعه لأن يحسم أمره ويسلمه لصديقه (محمد سليمان جدوكاب) رئيس جمعية التراث النوبي, ليضمه إلى باقي مقتنيات الجمعية.

أن يظل حيّا هناك, عزاؤه الوحيد الآن بعدما أيقن أنه لا مستقبل له في منزله, ومؤكداً لنفسه أنه لا يفرط في عشرة العمر التي امتدت لأكثر من أربعين سنة, رغم ما استقر في يقينه الآن, في هذه اللحظات تحديداً ,أنه يتجاوز العمر, وقف يتأمله في سكونه وجماله المعتق في نسيج نادر من الألوان القديمة البدائية الآخذة في الزوال, كان لايزال قوياً متماسكاً بفضل (الآبر) من الجلد الرقيق الذي حفظ حوافه من التآكل, والذي ظل ندياً ليّنا يلمع بفضل الزيوت التي يمررها على سطحه.

جعله يطل على مكتبه الذي يتوسط مكتبته الكبيرة التي تدور حول جدرانها الثلاثة أرففها المكتظة بالكتب وقصاصات الصحف والمجلات. كان حيث يمكنه أن يراه دائماً أمامه, راقداً بعد طول تجوال, مستكيناً وحيداً وغريباً في الفراغ بين الأرفف التي بدت كسياج يحيط به من كل جانب. زاد في الأيام الأخيرة انخراطه معه في ثرثرات طويلة وممدودة في جيشان كأنه يتلو نشيداً للوداع .لاشك سيطل عليه من وقت لآخر في مقره الجديد, في الحجرة التي تضم مقتنيات جمعية التراث, والتي تبدو له الآن كدار للمسنين تقيم فيها الأشياء الصغيرة التي تبقت من أدوات حياتهم هناك.

تعاوده دائماً كالحلم المتكرر, الرحلة التي قطعها من (الجنينة والشباك) في أقصى الجنوب, ومن قلب نخيلها من حول الجمّار حاملاً, لايزال ,نداوة النهر ورائحته في عروقه, مستقراً هنا في هذا المكان القحل الساكن, وممعنا في النظر إليه يهمس: (أشفق عليك من هذه الغربة الجافة رغم ما يربطك من وشائج القربى بأوراق الكتب التي تحيطك, أصلكما واحد, قلوب الأشجار, سواء أكانت من نخيل في أقصى الجنوب مثلك, أم من قلوب أشجار الغابات في الأصقاع الشمالية الباردة!... اليوم تنضم لأقرانك في الجمعية وتتبدد وحشتك!).

ورغم هذه الوحشة كان يشعر به أكثر حضوراً من كل أحاديث الروايات والقصص والأساطير التي تحيط بهما فوق الأرفف من شتى بقاع الأرض.

وعجّل بتنديته برذاذ خفيف من الماء قبل الوداع حتى لا يتقصف, مخالفاً المواعيد التي حددها بدقة لما أسماه بطقس مدد الحياة واستمرار الوجود. وجاش به الشعور العميق الذي ينتابه في كل مرة يندّيه بها, الشعور بأنه يعيده إلى حياته السابقة وذكرياته مع النيل هناك, وكان معه يعود إلى هناك.

ذكريات توغل في البعد لأكثر من ثمانية وثلاثين عاماً, منذ التهجير عام 1963, وخمس سنوات من قبل ذلك تضاف إلى عمره, عندما أهدته إياه أخته (فتحية) يوم زفافه, ما أبعد الشقة مكانا وزمانا! كم تغيرت الأحوال!.. مع مضي السنين يتآكل كل ما كان هناك راسخاً وباقياً منذ حقب بعيدة, كل شيء يتساقط متداعياً في صمت, حتى ناسه لم يعودوا هم, تغيرت حياتهم وتبدلت أحوالهم بعدما نزعوا من هناك وقبروا في الصناديق الأسمنتية في (كوم أمبو). أولاده وأولاد الأهل جميعاً فقدوهم بعدما فقدوا ألسنة ذويهم... لغتهم!

ابنه الوحيد (حمدي) لم يستطع أن يستخلصه كما استخلص أختيه من الحال التي آل إليها الجميع, رغم أحاديثه الطويلة معه عن التراث واللغة والأصل والنوبة والتاريخ, يراه عزوفا متبرّما عندما يحدثه عن الطبق الخوص, الشيء الوحيد الذي بقي من ذلك الزمن وتلك البقعة من الأرض, وكيف أنه لم يكن (كرجا) للزينة, رغم جماله الفائق الذي مازال يحتفظ به, ورغم مكانته كهدية غالية.

ويستعذب الحديث عن (الكرج) وأنه كان طبقاً شقيا, قطع حوش الدار مئات المرات محمولاً على الأيدي التي تداولته حاوياً البلح والفيشار تحية للضيوف, عائما فوق الرءوس من المندرة إلى الديواني ومن أمام (الجوسيّه) الذي يحوي خزين بلح العام, ليقطع رحلة أخرى إلى المصطبة خارج الدار ليعود إلى المندرة, وكيف أنهم كانوا يفضلونه على سائر الأطباق ليكون دائماً أمامهم ومعهم بين أيديهم.

يوم انتزع الخوص الذي صنعت منه أخته (الكرج) من قلب النخلتــين العجـوزين (زينبـية) و (عواضة) اللتين كانتا في أرض الخليلية, نخلتين من الجيل القديم الذي انقرض وتهاوى من نحر الفيضانات, وقعتا في دوي هائل إثر عاصفة هوجاء عصرت أشجار السنط والنخيل, وقلبت مركب (عوض كنّي) في عرض النهر أمام (عنبية) وكان الله لطيفا, (عوض) كان بمفرده, عائدا من (إبريم) بعد أن أقلّ بعضاً من ناس الجنينة للعزاء, كان الميت (يعقوب طموش) لا ينسى (الفلايك) وهي مضروبة بالعاصفة على الشطآن وعند جذوع النخيل, تناثرت ألواحها في كل اتجاه.

(حمدي) في تململه يطوف به خاطر أخذ يلح عليه, أن حالة أبيه آخذة في التفاقم, وازدادت في الفترة الأخيرة: رجل في ثقافته ووعيه يجري على لسانه حديث واحد لا يمله.. إنها حالة!

ويبدو أن نظراته وشت بما يدور في خاطره, تطلع إليه في حزن قاتم بنظرات مذبوحة: (ياه!... ما هكذا ظن أن هناك زمناً ومسافات شاسعة تفصل بينهما, هنا يكون ختام كل شيء) (آبر) الطبق هو ختامه! والآبر لابد أن يكون من جلد ناعم متين يحميه من التآكل والتقصف.

(وقت أن عدنا لآخر مرة من هناك بهذه الأشياء الصغيرة في صحبتنا, والتي أهدينا كثيراً منها لأحبابنا وأصدقائنا, لم أكن معنيا بشيء تجاهها, لم تكن كما هي الآن! كنت مسروقاً في مشاعر أخرى ضخمة ومعقدة ومؤلمة).

ويصمت وهو لايزال ناظراً نحو (حمدي), المسافة التي تبعده عن وحيده مازالت تملك عليه خواطره, إنه يدرك الآن فقط, أن هناك فاصلاً حاسماً يقترب, إنه الفاصل بين الحياة والموت, الفاصل المطلق الذي لا يمكن لأي تجربة أن تعبره.

ويتمتم لنفسه: (جنوح هذا الولد تحديداً, ولا يعنيه موقف البنتين, جنوحه وعجزي أن يطوله شيء مني في روحه يجعل ذلك الفارق بين الحياة والموت كاملاً. كنت أظن أنني سأعيش فيه بعد فنائي! الآن فإن الموت هو النقطة التي تنتهي عندها حياتي دون أي بقية! هذا الولد انتهي عنده, إنه يصل بي إلى نهاية قاطعة, ولا يبقى مني فيه شيء. البنوة ليست فقط أن يحمل الابن اسم أبيه وشكله, ويشيل صوته في نبـراته وصـورتـه فـي عيـنيه, لا يكون استنساخا بلا روح).

يصمت كل شيء داخله وحمدي ينظر إليه ساكناً, كابحاً قلقه عليه, ويقرأ أبوه خواطره, يطرب قليلاً, وتتراجع أفكاره القاطعة, ملاحظاً أن نزوعه الحاد, هو الدرجة القصوى من التسلط برخصة الأبوّة, لم يتعجب من إشفاقه بدوره عليه, ولا من تراجعه مما عده جنوحا.
يقوم واقفاً حاملاً الكرج في حضنه ويتجه نحو الباب. كان يفكر في الاعتذار لابنه, ليس اعتذاراً ولا تبريراً, هو أقرب لأن يكون شرحاً لأمر تعذر عليه أن يوصله إليه كما كان يظن.

* طبق مصنوع من خوص النخيل باللهجة النوبية.

 

يحيى مختار