يوستينوف والعرب موهبة فذة وتناقض مرير

يوستينوف والعرب موهبة فذة وتناقض مرير

احتفلت الأوساط الفنية والأدبية الأوربية في شهر أبريل الماضي بالعيد الثمانين لميلاد الفنان والأديب البريطاني بيتر يوستينوف المولود في 21 أبريل 1921.

رغم أن يوستينوف معروف لدى الكثيرين في عالمنا العربي, فإننا مازلنا في حاجة إلى رؤية عربية لمسيرته الفنية والسياسية نظرا لعلاقاته المتشابكة بالعالم العربي سواء من خلال أفلامه ومسرحياته أو صداقاته لبعض الشخصيات العربية أو مواقفه العامة.. وكلها علاقات تتذبذب بين السلب والإيجاب وتعكس ملامح فنان ومثقف أوربي يحتاج منا إلى وقفة!

والدارس لمسيرة الفنون خلال القرن العشرين يستطيع بسهولة أن يكتشف أن (يوستينوف) لعب دورا مهما بين السينمائيين والمسرحيين المعاصرين.. حتى وصل إلى مرتبة عمالقة من أمثال (نويل كوارد), (شارلس لوتون) (أورسون ويلز) وببلوغه بداية الستينيات أصبح أهمهم من دون منازع. ويبلور لنا الناقد الأمريكي هنري براندون في كتابه (هكذا نحن) الذي أصدره في بداية الستينيات ملامح المكانة التي وصل إليها (يوستينوف) في هذه الفترة فيقول: (كان معجزة وهو صبي وينبغي أن يعتبر اليوم رجلاً من عصر النهضة. وهذه سمة ليست سهلة وتجربة لا يتيسر حملها في عصر التخصص والإخصائيين فهو يمتاز بميزة تجعله يستثير مواهبه العديدة كلها بعضها مع بعض في نفس الوقت وفي شيء من السهولة واليسر).

كان (يوستينوف) يكتب مسرحياته ويخرجها ثم يقوم بأدوار في تمثيلها. وفيما بين هذه وتلك من ألوان النشاط الفني المختلفة يجد فسحة من الوقت ليكتب القصص القصيرة. ويظهر في البرامج التلفزيونية ويفوز خلال الخمسينيات بجائزة (ايمي) مرتين كأحسن ممثل تلفزيوني في الولايات المتحدة الأمريكية عن ادواره في الحلقات الخاصة عـن د. جــونـسون ود. سقراط في البرنامج الدرامي الشهير (اومينيوس) (1952 ـ 1959) وعندما يتحول يوستينوف إلى السينما فيخرج ويمثل في الأفلام الناطقة باللغة الإنجليزية وباللغات الأوربية الأخرى حيث أتاحت له إجادته لست لغات عالمية الفرصة للإخراج والتمثيل في الأفلام الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية وتوج دوره في السينما بالترشيح لجائزة الأوسكار كأحسن ممثل مساعد عن دوره (نيرون) في فيلم (كوفاديس) 1951,ثم حصل على هذه الجائزة مرتين كأحسن ممثل مساعد عن أدواره في فيلمي (سبارتاكوس) (1961) (توبكابي) (1964).

ولم يكن (يوستينوف) قد بلغ سن العشرين حين عرضت مسرحيته الأولى في الويست اند بلندن. ومنذ ذلك الحين ألف أكثر من ست مسرحيات أخرى منها: (غرام الكولونيلات) (1951) (رومانوف وجوليت) (1956) (المقعد الحالي) (1956) (رتوش الصورة) (1963) (أقنعة السفاحين) (1964) وهي مسرحيات تشتمل عادة على قدر كاف من ملامح الذكاء والغبطة ويرضى بها كل من يذهب إلى المسرح من المفكرين.. ولكنها تشتمل أيضا على قدر كاف من المرح الواضح الذي يزيد من إقبال الناس عليها ومشاهدتها. ولا يقتصر مجاله على المشاهدين من الأنجلوسكسون وحدهم بل كان يستطيع أن يخلق جوا من التسلية واللهو للمشاهدين من الفرنسيين والألمان والإيطاليين والروس بنفس السهولة واليسر.

والواقع أن طابع السخرية والتهكم في مسرحيات يوستينوف لا يجعلنا نتجاهل عند تحليلها دورها في تجسيد مأساة التناقض المرير بين العناصر الأصيلة في طبيعة الفرد ومأساة وجوده الإنساني.. وقد لمست مسرحيته (أقنعة السفاحين) الأبعاد الأخلاقية والفكرية لطغاة الغرب المقنعين خلف شعارات خدمة الدين أثناء حروبهم الصليبية ضد العرب واستطاع أن يجعل من بطل مسرحيته الشاب جونتران الصريح الأمين رمزا للضمير الإنساني الحي في تلك البيئة من السفاحين ذوي الأقنعة.

(جونتران: إن هذه الحملة الصليبية ليست في نظري أكثر من مؤامرة ضد الروح المسيحية وتعاليم المسيح. إنها مذبحة تعم باسم الرب للقضاء على أبناء الرب.

العرب أيضا أبناء الرب.. ولأن الغوغاء الذين سنضحي بهم في سبيل مجد الكنيسة أبناء الرب.. وإن كان للرب أعداء فهم الطغاة والمستغلون للإنسان).

قمة فنية
لقد تعامل (يوستينوف) مع أوجه متعددة للمجتمع الإنساني.. وتصدى لدراستها من خلال الفن بشغف المفكر الواعي بتفاصيل أحداث التاريخ. وطبيعة العلاقات المتغيرة بين الشعوب.. ولكن مما يؤسف له أن مسرحيته (أقنعة السفاحين) (1964) كانت هي الفصل الأخير له في هذا المجال سواء في المسرح أو السينما.. فبعد عام واحد بدأت مرحلة جديدة في حياة (يوستينوف) كانت هي البداية للتخلي عن القمة الفنية والإنسانية التي كان يحتلها.

ففي عام 1965 قام (يوستينوف) ببطولة فيلم (جولد فارب. عد لوطنك). وكان فيلما مليئا بالسخرية من الشخصية العربية. ومليئا بهجمات الوقاحة وضرباتها ضد كل ما هو إيجابي في حياة الشعوب ولصالح الشخصية اليهودية ,وباختصار كان بمنزلة تكفير لـ (يوستينوف) عن دوره الإنساني من العرب في مسرحيته (أقنعة السفاحين) وبداية لمرحلة استكملها عام 1977 بظهوره في فيلم (آخر اعادة لبوجيست) اخراج مارتي فيلدمان.. ولكن بين الفيلمين حاول جاهدا التعامل مع القضايا العامة بعيدا عن التورط في إبداء المواقف من خلال مؤلفاته. وكأنه كان بذلك يسعى إلى الـهرب من ضغوط صهيونية بالغة القسوة والجبروت.. ولو إلى حين.

وتبدأ احداث فيلم (جولد فارب) عندما تأسر قوات إحدى الممالك العربية طيارا يهوديا أمريكيا يدعى جولد فارب كان في مهمة فوق موسكو عندما اضطر للهبوط فوق المملكة ليجد نفسه سجينا في بلاط حاكم المملكة (فوزي) (بيتر يوستينوف) ومسئولا عن تدريب فريق (البيسبول) في جامعة المملكة وتتفاقم مشكلة جولد فارب عندما ينجح الحاكم في أن يستقدم فريق الكرة بجامعة نوتردام بولاية انديانا الأمريكية للعب ضد فريق جامعة المملكة. وكانت كل أمنية الحاكم هي أن يتغلب فريقه على فريق نوتردام. فيثأر بذلك من الهزيمة النفسية التي لحقت به حينما فشل ابنه أحمد وهو يتلقى العلم بجامعة نوتردام من أن يكون واحدا من اللاعبين الأحد عشر في فريق البيسبول بها. ولكي يضمن الملك تحقيق الانتصار المنشود لفريقه يدعو الفريق الزائر إلى حفلة صاخبة مليئة بعناصر المجون. ونتائجها خسارة فريق نوتردام للمباراة ومحاولة ناجحة للطيار اليهودي للهرب من المملكة بمساعدة صحفية يهودية ـ أيضاـ انخرطت وسط اجواء الحريم لإنقاذه.

كان رد الفعل العربي تجاه فيلم (جولد فارب) هو المنع الرقابي والتجاهل النقدي والسياسي.. بينما كان رد فعل جامعة نوتردام الأمريكية أكثر حسما وإيجابية حيث أقامت دعوى أمام المحكمة العليا في نيويورك. بدأت ببلاغ من رئيس مجلس الجامعة يتهم فيه شركة فوكس للقرن العشرين المنتجة للفيلم بأنها انتجت فيلما كفيلا بالقضاء على السمعة الطيبة التي كسبتها جامعته خلال سنوات طويلة من الجهد والكفاح, وفي عريضة الدعوى المقدمة وصف رئيس الجامعة الفيلم بأنه (قضية واضحة من قضايا القرصنة التجارية). وطالب بأن تصدر المحكمة قرارها بوقف عرض الفيلم وإعدام النسخة حماية لجامعته العريقة التي يسيء إليها الفيلم أبلغ اساءة.

حركة مضادة
لقد حقق فيلم (جولد فارب) ضربة مؤثرة في مكانة (يوستينوف) الفنية والأدبية.. ولكن من الخطأ أن نعتقد أنه عندما كان يقدم أبطال أفلامه ومسرحياته في كثير من المواضيع للتعبير عن آرائه وما يخطر له من أفكار, كان يجهل التأثير الصهيوني على الفنون الغربية. أو كان يحاول مقاومته ومناهضته أو أنه يمثل حركة مضادة لما هو سائد.. لقد كان (يوستينوف) على وعي بكل ما يحيط به من تيارات فكرية وسياسية ولكنه حاول أن يكون مستقلا في مواجهة أي عقيدة دينية أو سياسية.. الدليل على هذا مسار حياته هو نفسه.

ففي مذكراته التي نشرها للمرة الأولى عام 1977 تحت عنوان (عزيزي) نراه يعود بجذور عائلته إلى القرن السابع عشر.. ويحدد أن جد جده ميخائيل ادريا نوفيتشي كان من منطقة الفولجا الروسية وزوجته كانت من فينسيا الإيطالية.. وكلاهما من اصول بروتستانتية. ثم يتحدث عن تشتت أجداده في روسيا وأوربا والحبشة وفلسطين.. وعن الإشاعات التي تتردد حول أنه من أصول يهودية يقول (غالبا ما أجد وكالات الأنباء تقول إن مستر يوستينوف يهودي الأصل.. وأنا اعتقد أن اليهود لهم مآثرهم في خدمة الحضارة بغض النظر عن عددهم. فهم أناس ممتازون ليس فقط لأنهم قدموا للعالم اثنين من قادته: (عيسى المسيح وكارل ماركس ولكن لأن إنجازاتهم ساهمت في رفاهية العالم.. ولو كنت يهوديا لأصبحت فخورا بذلك) ويتحدث يوستينوف في مذكراته عن صلته بإسرائيل وكيف أن بعض أفراد عائلته كانوا يعيشون في فلسطين.. ورحلوا بعد عام 1917 منها باستثناء عمته ثابيتا التي تزوجت من عربي فلسطيني يدعى أنيس جمال.. ثم يتحفظ يوستينوف على تعبير (الوطن القومي لليهود).. بل ويؤكد أن (الفلسطينيين هم آخر ضحايا هتلر) (ص326 من مذكراته المذكورة).

مواقع مختلفة
ولاشك في أن (اليونسيف) والالتزام الأدبي تجاه شعوب العالم وتعامله مع قوميات وعقائد مختلفة كلها كانت عناصر مسئولة عن أسلوب الحياد الذي انتجه (يوستينوف) في هذه المرحلة.

ولكن هذا الحياد لم يستمر طويلا. ففور انتهاء مهمته في اليونسيف, عاد ليستسلم تماما للصهيونية وليعلن من خلال أدواره في خمسة افلام متتالية عداءه السافر للعرب والمسلمين في مواقع مختلفة: شمال إفريقيا, مصر, إفريقيا السوداء, بغداد القديمة.
ولا يمكن أن نعتبر افلاما مثل: (لص بغداد ـ 1978), (موت على ضفاف النيل ـ 1978), (أشانتي: أرض من دون شفقة ـ 1979), me med my hawk 1983, (موعد مع الشمس ـ 83) سوى منشورات دعائية في رؤيتها المناهضة للشخصية العربية والإسلامية. وربما يصبح طبيعيا أن تجسد هذه الافلام من خلال شخصيات ليس لها مواقف يوستينوف. ولكن أن تصبح استكمالا لنغمة مضادة للعرب برزت في أفلام سابقة له.. يصبح في الأمر علامات استفهام كثيرة.. يجعل هذه الموهبة الفذة.. تعيش حالة من التناقض المرير.

 

أحمد رأفت بهجت

 
 




يوستينوف





بيتريوستينوف في دور الديكتاتور الروماني (نيرون) في فيلم (كوفاديس)





بيتريوستينوف في دور تاجر الرقيق العربي في فيلم (اشانتي)





في دور السلطان العربي في فيلم (جولد فارب .. عد لوطنك)