السلطانة رضية رفعها العدل وقتلها الحب قاسم عبده قاسم

السلطانة رضية رفعها العدل وقتلها الحب

ملكة مسلمة, أنقذها العدل من بطش أخيها, وساندها الشعب حتى اعتلت العرش. ولكن الحب, تلك العاطفة التي كانت محرمة عليها, أفقدتها كل شيء.

هي السلطانة (رضية بنت السلطان شمس الدين لَلْمِش), أول من حكم مدينة دهلي (دلهي) بالهند مستقلاً عن المسلمين, سنة 626 هجرية/ 1229م. وكان شمس الدين هذا واحدًا من مماليك الأمير قطب الدين أيبك, الذي كان مُقدَّم الجيوش (سياه سالار) لدى السلطان المعظم شهاب الدين محمد ابن سام الغوري ملك غزنة وخراسان, بعد تغلبه على سلالة محمود بن سبكتكين, الذي بدأ حركة الفتوح الإسلامية في شبه القارة الهندية. وقد ذكر الرحالة الأشهر ابن بطوطة - الذي زار هذه المنطقة وعاش بها فترة من الزمن - أن (قطب الدين أيبك) فتح دهلي سنة 584 هجرية, وقال إنه قرأ هذا التاريخ مدوّنًا على محراب الجامع الكبير في المدينة.

ولما توفي (قطب الدين أيبك) سنة 607هـ/1211م, استقل مملوكه السابق (شمس الدين للمش) بحكم دهلي, وكان قد تزوج من ابنة سيده الراحل, الذي كافأه بهذا الزواج على حماسته وإخلاصه. وكان للمش (الذي يسميه بعض الباحثين خطأ إيلتوتش) مملوكًا للأمير قطب الدين أيبك, وقائدا لجيوشه ونائبًا عنه. وعندما أعلن استبداده بالحكم ثارت الشائعات حول عبوديته لسيده الراحل, وهل تم عتقه وتحريره أم لا? فتوجه عدد من الفقهاء وعلى رأسهم قاضي القضاة وجيه الدين الكاساني إلى السلطان الجديد وجلسوا في مجلسه وعيونهم تنطق بما جاء بهم إلى مجلسه, وفهم الرجل مرادهم فأخرج عقدًا مكتوبًا بأنه حر وتم عتقه, فبايعه الفقهاء والقاضي وبايعه الناس.

وقد حكم هذا السلطان الذي ارتقى من مكانة المملوك إلى عرش السلطان بحكم كفاءته العسكرية, مثلما حدث مرارًا وتكرارًا في أنحاء متفرقة في عالم ذلك الزمان, على مدى عشرين سنة أثبت فيها القدرة والكفاءة, كما برهن على كونه عادلاً صالحًا فاضلاً, وربما كانت أهم إنجازات السلطان شمس الدين تلك التي تمثلت في اهتمامه برد المظالم وإنصاف المظلومين. ومن اللافت أن التقليد الذي أرساه في هذا المجال, هو الذي أنقذ ابنته الوحيدة, والتي تولت عرش السلطنة فيما بعد, من القتل على يد أخيها ركن الدين, الذي قتل شقيقها.

فقد أمر السلطان شمس الدين للمش أن يلبس كل مظلوم في مملكته ثيابًا ملونة (وكان أهل مملكته الهندية جميعًا يرتدون الثياب البيضاء). وكان السلطان يخرج لتفقد أحوال رعيته, فإذا رأى أحدًا يرتدي ثوبًا ملونًا, نظر في قضيته فورًا وأنصفه ممن ظلمه, وكذلك كان يفعل إذا عقد مجلسه للحكم. ويحكي ابن بطوطة أن السلطان أراد أن يكون إنصافه للمظلومين سريعًا حتى أولئك الذين تجري عليهم المظالم ليلاً بحيث لا ينتظرون حتى الصباح, فأمر بوضع تمثالين من الرخام لأسدين على باب قصره, وتصل ما بين عنقيهما سلسلة كبيرة بها جرس يحركه المظلومون إذا ما جاءوا يطلبون العدل ليلاً, فيطلب السلطان صاحب المظلمة ويسمع شكواه وينصفه في الحال. وقد لجأت ابنته (رضية) إلى هذه المؤسسة فأنصفها الناس, ورفعها العدل - الذي أرساه أبوها - إلى العرش.

ولكن قصتها تستحق أن تروى كاملة.

ثلاثة أولاد.. وبنت واحدة

عندما مات السلطان شمس الدين للمش ترك ثلاثة أولاد هم ركن الدين, الذي ولي الحكم خليفة له, ومعز الدين, وناصر الدين وبنتًا واحدة هي رضية التي تولت الحكم فيما بعد.

كان أول ما فعله السلطان الجديد (ركن الدين) أن قتل أخاه (عز الدين) شقيق الأميرة رضية, وأعلنت غضبها ورفضها لما فعله أخوها السلطان في حق أخيها المقتول. وقد حاول السلطان قتلها, ولكن هذه المرأة لم تهرب إلى خدور الحريم, أو تخشى المواجهة, وإنما فاجأت السلطان القاتل بتقاليد العدالة التي أرساها أبوهما فقد انتظرت صلاة الجمعة في أحد الأيام, وعقدت العزم على مواجهة أخيها الذي خرج إلى صلاة الجمعة, وصعدت إلى سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم في المدينة, وكان معروفا لدى أهل دهلي باسم (دولة خانة), وقد ارتدت ثيابًا ملونة لكي يعرف الناس أنها مظلومة, واستوقفت الناس وخاطبتهم من مكانها أعلى السطح وقالت لهم: (إن أخي قتل أخاه, وهو يريد قتلي معه). وأخذت تذكر الناس بأيام أبيها, ومآثره, وما فعله من أجل رعاياه خيرًا وإحسانًا.

وحركت كلمات الأميرة المظلومة الخائفة جماهير المصلين ومست نوازع العدل في وجدانهم فثاروا وتوجهوا إلى السلطان ركن الدين قاتل أخيه وقبضوا عليه وساقوه إلى أخته التي أجابت عما طرحوه من أسئلة بعبارة واحدة بليغة: (القاتل يُقتل). وقامت الجماهير بقتل السلطان قصاصًا لأخيه. ولما كان أخوهما ناصر الدين طفلاً صغيرًا اتفق الناس على أن تتولى رضية عرش السلطنة. وارتقت عرش البلاد لتستمر في حكمها على مدى أربع سنوات.

أعلنت السلطانة الجديدة ولاءها للخليفة العباسي المستنصر بالله على العملات التي بادرت بسكها, ولكنها لم تطلب منه تفويضًا شرعيًا بالحكم مثل معاصرتها المصرية السلطانة (شجر الدر) التي رفض الخليفة إجابة طلبها وسخر منها لأنها امرأة. وحملت إحدى عملاتها نقشًا نصه:

(عمدة النساء

ملكة الزمان

السلطانة رضية بنت شمس الدين لَلْمش).

ملكة الزمان

وبادرت السلطانة الجديدة, بعد أن اجتمعت العساكر على توليتها, إلى رفع الحجاب واستقلت بالملك أربع سنين, وأرادت أن تثبت أنها لا تقل صلابة عن الرجال في شئون الحكم.

وكانت تركب الخيول مثلما يفعل الفرسان من الرجال, وقد تسلحت بالقوس والسهام والجعبة, وتحيط بها حاشيتها وهي راكبة. وتذكر بعض المصادر التاريخية أنها قصت شعرها وارتدت ملابس الرجال. وكانت تقود الحملات العسكرية, وتجوب الشوارع والأسواق في ملابس الرجال, لكي تتعرف بشكل مباشر على أحوال رعاياها, وقد أجمع المؤرخون على أنها كانت حاكمة من طراز جيد, ولكن...

هذه الـ (لكن) هي التي صنعت مأساة (رضية بنت شمس الدين) على نحو درامي يفوق خيال الروائيين والقاصين من ناحية, ويؤكد أن الحبكة الدرامية في التاريخ تتفوق في أحيان كثيرة على إبداعات الفنانين من كتّاب الرواية والقصة من ناحية أخرى. إذ إن الملكة التي رفعتها العدالة إلى العرش بأيدي شعبها, فقدت العرش بأيدي الشعب نفسه عندما بدا للناس أنها خانت تقاليدهم الأخلاقية, وداست أعرافهم, وانتهكت نظامهم القيمي, عندما سمحت للحب أن يتدخل في أمور الحكم.

لم تكن السلطانة متزوجة, وربما كان هذا من بين أسباب نزوتها, أو تهمتها, إذ يبدو أنها كانت معجبة بعبد حبشي كان من بين المسئولين عن الاصطبلات هو (أمير الخيل) جمال الدين ياقوت. وقد لفت أنظار الحاشية إلى هذه العلاقة أن السلطانة منحته لقبًا ورتبة تخطت بهما سائر الأمراء, بل جعلته (أمير الأمراء) بدلاً من (أمير الخيول) وبدأ الأمراء الذين حلوا محل الخيول تحت إمرة هذا العبد الحبشي يتجسسون على السلطانة العاشقة, ولأن (الصَبّ تفضحه عيونه), لاحظ الجميع أن السلطانة تستأنس بصحبة (جمال الدين ياقوت), وتتساهل معه لدرجة أنه كان يرفعها من تحت إبطيها على فرسها.

وسرت في دهلي شائعات عن أن (عمدة النساء وملكة الزمان), سمحت لعبدها أن يمسّها. فاتفق الناس على خلعها من عرشها وتزويجها. وتم ذلك بالفعل, وانتهت فترة حكم السلطانة رضية بتزويجها من أحد أقاربها, ثم صعد أخوها الأصغر (ناصر الدين) إلى عرش السلطنة.

مغامرة فاشلة

ولكن يبدو أن المرأة التي ذاقت طعم السلطة لم تستطع الابتعاد عنها كثيرًا, وهو ما يذكّرنا مرة أخرى بالسلطانة المصرية (شجر الدر), التي حكمت بعدها بأربع عشرة سنة, فقد حاولت رضية بنت شمس الدين هي وزوجها استعادة العرش بالقوة, وتمكنا من تجنيد عدد كبير من المماليك والأتباع الذين وصفهم ابن بطوطة بأهل الفساد. وخرج أخوها السلطان ناصر الدين ومعه مملوكه النائب غيّاث الدين بلبن, الذي تولى العرش بعده, ولكن الهزيمة كانت من نصيب جيش السلطانة السابقة التي حرمت من عرشها ومن حبها, واضطرت إلى الفرار وحدها هائمة على وجهها, حتى ساقتها قدماها إلى أحد الحقول فوجدت فلاحًا يحرث الأرض, فظنها محاربًا أعياه القتال ونال منه الجوع والإعياء. وطلبت السلطانة من الفلاح شيئًا تأكله, وكان الرجل كريمًا إلى حين, فأعطاها كسرة خبز, فأكلتها, ونامت بعد أن غلبها النوم وهي في ملابس الرجال. ويبدو أن الفلاح أدرك وهو يتأملها في نومها أن ضيفه ليس في الحقيقة سوى امرأة, لأنها كانت ترتدي قباءً مرصعًا. وتخلى الفلاح عن كرمه البائس واستجاب لطمعه الوحشي, فقتل السلطانة العاشقة الهاربة دون أن يعرف من تكون, ودفنها في الأرض التي كان يحرثها, وترك فرسها تهرب بعيدًا. وذهب يبيع بعض ثيابها الغالية في السوق. وثارت شكوك أهل السوق حول هذا الفلاح بثيابه الرثة وهو يعرض عليهم شراء ثياب السلطانة المقتولة, بما تحمله من آثار النعمة, فاقتادوه إلى (الشحنة), أي مسئول الشرطة في المدينة. وتحت وطأة الضرب المبرح كشف الفلاح القاتل عن جريمته وضحيته, ثم دلهم على المكان الذي دفنها فيه.

وقام صاحب الشرطة, ومن معه من المسئولين, بإخراج جثة السلطانة رضية بنت السلطان شمس الدين من حفرتها, وغسّلوها وكفنوها, ثم أعيد دفنها في المكان نفسه, وبنوا فوق قبرها قبة.

وقد ذكر ابن بطوطة أن قبر السلطانة رضية في زمانه (القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي), كان مزارًا يتبرك به الناس (....وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون, على مسافة فرسخ واحد من المدينة).

***

تلك قصة ملكة مسلمة حكم أبوها بالعدل, فأنقذها العدل من بطش أخيها, وساندها الشعب إيمانًا بالعدل وحفظًا لذكرى أبيها, ولكنها انساقت وراء عاطفة تحرمها تقاليد هذا الشعب, فخسرت العرش والحب, ثم لقيت نهاية مأساوية أظن أن بها الكثير من الخيال.

ولكن أغرب ما في الحكاية أن قبرها صار مزارًا يتبرك الناس به حسبما قال ابن بطوطة فهل كان ذلك تبرّكًا بشجاعتها في مواجهة أخيها القاتل? أم بعدالة حكمها? أم نوعًا من التكفير عن الذنب تجاه السلطانة العاشقة المقتولة?!

قالتْ مللتُكَ . إذهبْ . لستُ نادِمةً على فِراقِكَ .. إن الحبَّ ليس لنا
سقيتُكَ المرَّ من كأسي. شفيتُ بها حقدي عليك.. ومالي عن شقاكَ غنى!
لن أشتهي بعد هذا اليوم أمنيةً لقد حملتُ إليها النعش والكفنا..
قالتْ.. وقالتْ.. ولم أهمسْ بمسمعها ما ثار من غُصصي الحرى وما سَكنا


(عمر أبو ريشة)

 

قاسم عبده قاسم